المال السياسي الأمريكي وآليات استخدامه في شراء المؤسسات الدولية

17-09-2006

المال السياسي الأمريكي وآليات استخدامه في شراء المؤسسات الدولية

الجمل:  بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأ الأوروبيون مسيرة إعادة بناء وتعمير ما دمرته الحرب، وكان أمام دول أوروبا الغربية إما أن تلجأ للمعسكر الشرقي الشيوعي، وهو خيار مستحيل، أو إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهو خيار مقبول على خلفية الثقافة الرأسمالية والمصالح عبر الأطلنطي المشتركة بين أمريكا وغرب أوروبا.
برايتون وودز كانت نقطة البداية، حيث تم عقد اجتماع بين الطرفين: الأوروبي الغربي برئاسة (كيتز) وزير الخزانة البريطاني، و(مارشال) وزير الخزانة الأمريكي، وكان الاجتماع يتعلق بكيفية قيام أمريكا بدعم أوروبا الغربية في عملية إعادة البناء والتعمير.
وكعادتهم، انتهز الأمريكيون الفرصة، واشترطوا على الأوروبيين تنفيذ الشروط الآتية، إن أرادوا الحصول على دعم الحكومة الأمريكية:
- تعويم أسعار صرف العملات الأوروبية.
- تحرير التجارة، وعدم فرض أي قيود جمركية على حركة السلع والخدمات.
- عدم تقديم أي دعم لأي قطاع أو نشاط اقتصادي.
كان واضحاً أن هدف الأمريكيين هو تتبيع اقتصاديات غرب أوروبا عن طريق فرض بنود وشروط تؤدي إلى اتفاقية استراتجيية غير متوازنة بين أوروبا الغربية وأمريكا.
رفض الوفد الأوروبي الشروط الأمريكية آنذاك، ولكنهم في نهاية الأمر وافقوا على ما يشبه هذه الشروط، وبعد ذلك تم بالفعل توقيع واحدة من أشهر الاتفاقيات التي أدت إلى تشكيل وبلورة العلاقات الاقتصادية الدولية، وهي: اتفاقية برايتون وودز، والتي تم بموجبها إنشاء البنك الدولي للإنشاء والتعمير، بهدف تقديم الدعم والتمويل لإعادة إنشاء وتعمير أوروبا التي دمرتها الحرب، ثم تطور بعد ذلك، هذا البنك الى ما يعرف اليوم بـ(البنك الدولي).
العمل الدولي، وفقاً لاتفاقيات برايتون وودز، وميثاق الأمم المتحدة، ومواثيق جنيف... وغيرها، يقوم على النشاط والإسهام المتعدد الأطراف، وذلك من أجل فرض إرادة المجتمع الدولي الهادفة إلى تحقيق الأمن والسلام والتنمية، وحفظ وتأمين حقوق الإنسان.
على الصعيد المؤسسي، تشكل البناء التنظيمي للبنية الدولية على النحو الآتي:
• الأمم المتحدة: وتمثل المنظمة العالمية الشاملة لكل عناصر المجتمع الدولي.
• المنظمات الاقتصادية الدولية:
- البنك الدولي: ويعمل في مجال تقديم القروض وتوجيه التنمية وتمويل البنى التحتية وتطبيق برامج التكييف الهيكلي.
- صندوق النقد الدولي: ويعمل في مجال توجيه السياسات المالية والنقدية وتطبيق برامج التثبيت الاقتصادي.
- منظمة التجارة العالمية: وتعمل في مجال توجيه بلدان العالم باتجاه تحرير التجارة والاقتصاد عن طريق إزالة القيود والحواجز أمام حركة السلع والخدمات.
• المنظمات الإقليمية: وتتمثل في التكتلات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي انتشرت في سائر أنحاء العالم، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مثل حلف الناتو، ومنظمة تعاون دول الباسفيك، والجامعة العربية، ومنظمة دول عدم الانحياز، والاتحاد الأفريقي... وغيرها.
الهدف الرئيس لهذه المنظمات هو تعزيز التعاون الدولي والإقليمي والفرعي دون الإقليمي، في المجالات الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والأمنية.. ولكن بما يحقق التعاون والمساواة والعدالة في البيئة الدولية.
حركة الصراع والاستقطاب أدت إلى بلورة المحاور والتجمعات، والتي على خلفية تضارب المصالح، بدأت تلجأ لاستخدام المنظمات الدولية والإقليمية على النحو الذي يجعل من القرار الدولي والإقليمي، مسانداً لمصالح طرف أو معسكر على حساب الأطراف أو المعسكرات الأخرى.
ظل المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة أمريكا يعمل، منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، من أجل اختراق المنظمات الدولية والإقليمية، عن طريق التغلغل ضمن هياكلها المؤسسية، بما يجعل دورها الوظيفي مسانداً للتوجهات الأمريكية والأوروبية الغربية، وقد ظلت أمريكا على وجه الخصوص تستخدم (المال السياسي) كوسيلة للضغط على هذه المنظمات الدولية والإقليمية، بما يدفعها إما لتأييد الأجندة الأمريكية، أو الوقوف على الحياد، على الأقل، عن طريق التزام الصمت وعدم إبداء أي معارضة، لما تقوم به أمريكا.
التغلغل الأمريكي أصبح واضحاً في المنظمات الدولية والإقليمية الآتية:
- مجلس الأمن الدولي: استطاعت أمريكا أن تبني تحالفاً استراتيجياً داخل المجلس يضم أمريكا وبريطانيا وفرنسا، في مواجهة روسيا والصين.
- الاتحاد الأوروبي: استطاعت أمريكا أن تعزز سيطرتها على بلدان الاتحاد الأوروبي عن طريق توثيق علاقتها مع دول الاتحاد الأوروبي الصغيرة والتي تعتمد على الدعم الأمريكي مثل: تشيكيا، بلغاريا، بولندا، الدنمارك، وبلجيكا.. إضافة إلى بريطانيا واسبانيا وإيطاليا، وذلك على النحو الذي جعل فرنسا وألمانيا، لا تجدان مهرباً من مسايرة أمريكا.
- منظمة النافتا: وتعتبر أكبر منظمة دولية على أساس اعتبارات الوزن الاقتصادي العالمي، وذلك لأنها تضم كل من كندا والولايات المتحدة، وعن طريق تكتل النافتا استطاعت أمريكا أن تمارس الضغوط على التكتلات الإقليمية الأخرى.
وعلى سبيل المثال: إذا لم يذعن الاتحاد الأوروبي لشروط تكتل النافتا، فإن صادرات الاتحاد الأوروبي سوف تنخفض بحوالي 20%، أي سوف ترتفع البطالة في أسواق الاتحاد الأوروبي بنسبة 20%، الأمر الذي يشكل كارثة اقتصادية حقيقية لاقتصاديات الاتحاد الأوروبي، لأنها على الأقل سوف تجعل العملة الأوروبية (اليورو) تفقد 20% من قيمتها أمام العملات الأخرى، كذلك إذا قرر تكتل النافتا مقاطعة صادرات دول جنوب شرق وشرق آسيا، فإن هذه الدول سوف تنخفض صادراتها الخارجية بنسبة 45%، وبالتالي سوف تزداد البطالة فيها بحوالي 45%، وأيضاً التضخم، وقد تفقد عملاتها حوالي 45% من قيمتها على الأقل في مواجهة العملات الأخرى، وهو أمر يشكل بالتأكيد كارثة كبرى يمكن أن تطيح بكل الاستقرار القاري الآسيوي.
- المؤسسات الاقتصادية الدولية: وقد استطاعت أمريكا أن تشكل المثلث الأكبر والأكثر خطورة في البنية الاقتصادية الدولية والذي يتكون من: البنك الدولي- صندوق النقد الدولي- ومنظمة التجارة العالمية.. والتي برغم الفارق الاختصاصي بينهما، إلا أنها أصبحت تتبنى هيكلياً برنامجاً واحداً، على النحو الذي جعلها تقوم بأداء دورً ظيفي واحد، وموحد في تشكيل البنية الاقتصادية الدولية، وفقاً للبرامج التي تقوم الإدارة الأمريكية بإعدادها. وأصبحت هذه المؤسسات الاقتصادية الدولية الثلاث حالياً، تحت (قبضة يد) مثلث آخر يتكون من وزارة الخزانة الأمريكية، ووزارة التجارة الأمريكية، والبنك المركزي الأمريكي، بحيث توجه وزارة الخزانة الأمريكية البنك الدولي، ووزارة التجارة الأمريكية منظمة التجارة العالمية، والبنك المركزي الأمريكي  صندوق النقد الدولي.
- حلف الناتو: وحالياً استطاعت الولايات المتحدة إدماجه بالكامل ضمن القيادتين العسكريتين الأمريكيتين: القيادة  الأوروبية الأمريكية، والقيادة الوسطى الأمريكية.. وحالياً تسعى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) إلى توظيف واستغلال قدرات حلف الناتو في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، وذلك على النحو الذي يجعل الحلف بمثابة جيش يحارب لصالح أمريكا، ويعمل في كافة مسارح العمليات تحت إشراف البنتاغون. ومن أبرز الأمثلة على ذلك: عملية توريط قوات حلف الناتو حالياً في مسرح الحرب الأفغانية، بشكل تتزايد فيه يومياً مسؤوليات الناتو، الحربية والعسكرية، بما يتيح لأمريكا (شلح) المسؤوليات الميدانية في أفغانستان، و(إلباسها بالكامل) لحلف الناتو.
وبالنتيجة نقول: استطاعت الولايات المتحدة في الفترة التي أعقبت الحادي عشر من أيلول، أن تقوم بعملية اختراق جريئة للمؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية، على النحو الذي أعطى أمريكا دوراً متزايداً في عملية صنع واتخاذ القرار الدولي والإقليمي في البنية الدولية الراهنة.. وتشير التوقعات إلى أن مشروع السيطرة الأمريكية أصبح في مواجهة عقبة كبيرة تتمثل في منطقة الشرق الأوسط، وذلك آما بالسير في مشروع توسيع نطاق الحروب الإقليمية، أو الرجوع عن ذلك، باتجاه الالتزام بشرعية مفهوم (المجتمع الدولي).. حالياً يتشدد المحافظون الجدد باتجاه الخيار الأول، بينما ترى أقلية أخرى أن الرجوع إلى عملية العولمة، التي بدأت مسيرتها أيام إدارة الرئيس كلنتون هو الوضع الأمثل، وهذا سوف تحسمه انتخابات تشرين الثاني القادم، والتي تحتدم منافستها بين معسكر تصعيد الحرب، ومعسكر تصعيد العولمة الاقتصادية.

الجمل: قسم الدراسات والترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...