الدراما التاريخية.. تأويل للماضي أم استنهاض للحاضر؟

29-03-2009

الدراما التاريخية.. تأويل للماضي أم استنهاض للحاضر؟

الحديث عن "الدراما التاريخية"، شائك، متشعّب، تماماً، يرتبط بشكل كبير بموضوع تناول "التاريخ" ذاته، والموقف منه، ‏سواء لناحية التدقيق في وقائعه، وأحداثه، وشخصياته، أو لناحية زاوية النظر إلى ذلك كله!.. جنيريك مسلسل «الزير سالم

ففي حين يكون من العسير ‏التدقيق في الوقائع التاريخية، بالسؤال: هل حصلت أصلاً، أم لا؟.. وذلك قبل السؤال: هل حصلت على هذا النحو، أم جرت ‏على نحو غيره؟..

سيكون من الضروري الانتباه إلى أن الواقعة التاريخية ذاتها، إنما تُكتب على طرق عدة، يكتبها كلٌّ من ‏زاوية رؤيته، أو من وجهة نظره، حتى بات من المتعارف أن التاريخ، الذي بين أيدينا على الأقل، في مصادره المعتمدة، ‏إنما هو التاريخ الذي كتبه الأقوياء، بل هو التاريخ الذي كتبته النظم والسلطات، ومن توفّر لها من مؤرخين وكتبة..‏

في كثير من الأعمال الدرامية، التي كنا نراها منذ عقود على شاشات التلفزة العربية، وما زلنا نرى، نلاحظ أن الأمر يكاد ‏يتلخَّص في محاولة بناء تصوّر "أو افتراض" بصري، لما هو مكتوب في مصادر محددة، مُتَّفق عليها رسمياً، الأمر الذي ‏جعل من هذه الأعمال بمثابة احتفاليات بصرية، بشخصيات "ورقية"، من جهة أولى، وشخصيات "تطهُّرية"، من ناحية ‏ثانية.

إذ بدت ناطقة بمقولات وشعارات جاهزة، كما أتت على نحو ملائكي، لا يدانيها الخطأ أبداً!.. وتكاد تكون شخصيات ‏‏"ما فوق بشرية".‏

المصادر الرسمية في التاريخ ترسم صورة نمطية أحادية للشخصيات، واقعة بين فكي تقاطب ثنائي: إما شخصيات خيّرة أو ‏شريرة، شجاعة أو جبانة، نبيلة أو حقيرة.. وما يشبه من طراز هذه الثنائيات، وبالتالي تغفل عن الطبيعة البشرية التي ‏تتميز بتداخل الخير والشر، وصراعهما وجدلهما في الشخصية الواحدة..

ذاك ما دفع صانعي الدراما التاريخية، فيما سلف، ‏إلى الاكتفاء بانتقاء شخصيات غير إشكالية، أو شخصيات غير قلقة، لا يدانيها الشك أو الارتياب، ولا تقع في هفوات أو ‏أخطاء.. وإذا ما كان ثمة من إشارة إلى ذاك، فإنما يأتي في سياق الإشارة العابرة، وفي فيض الكثير من التبرير. إنه العمل ‏على "تنقية الشخصية" مما يمكن أن يشوبها، أكثر مما فعلت روايات التاريخ الرسمي حيالها..‏

لكن هذا الفعل لم ينجُ من المأزق ذاته، بأن التعامل مع هذه الواقعة، أو الحادثة، أو الشخصية، التاريخية، لم يخرج عموماً ‏عن زاوية النظر الخاصة، بحيث أن التنافر أو التناقض تجاه هذه الأعمال بقي يستند غالباً إلى مسائل تقع خارج العمل الفني ‏الدرامي، من حيث النكوص إلى أبعاد، أو مرجعيات، قومية، وطنية، قبلية.. أو دينية، مذهبية، طائفية..

في مجال التلقي، ‏ومثلها في مجال الكتابة.. في شبكة، على هذا المستوى من التنوع والتعقيد والتشابك في المرجعيات، يغدو من العسير على ‏أي عمل درامي تاريخي أن يحظى برضى وقبول الجميع، ومن خلال هذا الكلام، نخلص إلى القول، إلى أن إشكالية التعامل ‏مع أعمال "الدراما التاريخية"، هي إشكالية التعامل مع التاريخ ذاته، التي يمكن تلخيصها بالسؤال: أي رواية تاريخية ‏نتبنى؟..

أي مصدر تاريخي نعتمد؟.. وهو الأمر الحاسم الذي يحدد مصداقية هذا العمل الدرامي، أو ذاك.. وهو ما يجعل من ‏هذا العمل الدرامي، أو ذاك في، دائرة الرضى والقبول، على مستوى المقولة والخطاب!..‏

‏* تفوق سوري
لعل من أسباب نجاح "الدراما التاريخية" المُنتجة في سوريا، أنها حققت الشروط الشكلية، والشروط المضمونية، للتعامل ‏مع التاريخ، ووقائعه، وشخصياته.. فعلى المستوى الشكلاني تخلَّصت الدراما السورية من حالة الفقر المدقع في المشهد ‏البصري، الأمر الذي تميزت به الدراما التاريخية العربية، من قبل.
‏في الشكل الفني، اهتمت الدراما السورية بالتفاصيل الحقيقية، أو المقاربة للحقيقة، إلى حدّ "المطابقة"، وكفَّت عن الإيهام ‏البسيط، ليس فقط بالتخلص من المكياجات العجيبة، المثيرة للضحك، الموجودة في الدرامات العربية من قبل، من طراز ‏اللحى الملتصقة، بشكل مفضوح جداً، على وجوه الممثلين، أو محاولات التنميط الشكلي البائس، للدلالة على المؤمن ‏والكافر، والطيب والشرير..

وكذلك ليس فقط على مستوى الأماكن المنغلقة، والديكورات الفقيرة، فالدراما السورية أتقنت فن ‏الديكور، تماماً، وتمكَّنت من إعادة إنتاج المكان، بشكل بالغ البراعة، كما نجحت في مسألة الماكياج، والملابس والأزياء، ‏والإكسسوارات، والتمثيل..‏

أعمال "الدراما التاريخية" التي أسَّست لمرحلتها الجديدة الدراما السورية، على خلفية موجة "الفانتازيا"، التي بلغت ذرى ‏عالية من التشكيل البصري، والخروج من الاستوديوهات، والتنوع في الشخصيات، والمهارة في إدارة الممثلين، وتحريك ‏المجاميع الكبيرة، استفادت من تلك التجارب المنفلتة من عقالها، فكان أن كشفت خيبة الأعمال التاريخية، التي كان يتم ‏تصويرها، بين جدران الأستوديو وديكوراته المفضوحة الصنع.‏

أما على المستوى المضموني، فإن غالبية أعمال الدراما التاريخية السورية، انتهجت خطاً جديداً يقوم على "تعشيق" ‏الروايات التاريخية المتعددة، في محاولة قراءة الوقائع، وبناء الأحداث، ورسم الشخصيات، من جوانبها المتكاملة، على ‏تنافرها!..

بدا هذا واضحاً مثلاً في تناول شخصية "الزير سالم"، إذ وجدنا الكاتب ممدوح عدوان لا يخضع لرواية واحدة، ‏ولا لمصدر واحد، أو ذهنية واحدة، بل لا يخضع للمزاج الشعبي الرائج، في رسم هذه الشخصيات، التي تحمل الكثير من ‏المتناقضات!..

مما أثار المقتنعين بالرواية الواحدة، والصورة النمطية، وأشعل نيران غيظهم، ووصل البعض منهم إلى حدّ ‏المطالبة بالمحافظة على الصورة المتكوّنة: صورة الزير سالم، البطل، الشهم، الشجاع.. حتى لو كان ذلك منطق ضد ‏التاريخ، ورواياته المتعددة!..‏

كذلك الأمر فيما يتعلق بشخصيات من التاريخ الإسلامي، من طراز شخصيات "الحجاج بن يوسف الثقفي"، أو "عبد الرحمن ‏الداخل"، المعروف بلقب "صقر قريش"، حيث استخدم الكاتب مبادئ علم النفس، فضلاً عن سياقات الوقائع والأحداث ‏التاريخية، والافتراضات الذهنية والنفسية، في التعامل مع شخصية مميزة، ذات دور حاسم في التاريخ الإسلامي، وتمتلك في ‏الوقت نفسه القدرة العالية على إثارة النقاش حولها، سواء بما لها، أو بما يمكن أن يُؤخذ عليها..

للوصول إلى فك الاشتباك ‏حول سؤال من طراز: كيف لمن فعل كذا وكذا وكذا.. من الأفعال المجيدة.. أن يفعل كذا وكذا وكذا.. من الأفعال الإشكالية؟..‏

كانت الدراما التاريخية سابقاً، تتجاهل كل ذلك، وتكتفي بالحديث عن الجوانب الإيجابية، والأفعال المجيدة، وهو ما يجعل تلك ‏الشخصيات أدبية "ورقية": نورانية، طهرانية، منزَّهة عن الأخطاء.. بينما تشير الوقائع "الحقيقية" إلى أنها لم تكن كذلك، بل ‏كانوا رجالات من طينة البشر: لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم..‏

الجديد في الدراما التاريخية السورية أنها تخلَّصت من هذه الحال، وذهبت إلى قراءات أكثر منطقية، وأكثر قدرة على الإقناع، ‏شكلاً وموضوعاً. تماماً دون أن تقع في خطيئة الإساءة إلى هذه الشخصيات، أو التجنّي عليها، أو النيل منها، من جهة ‏أولى.

وأيضاً دون أن تقع في خطإ رفع هذه الشخصيات إلى مستوى "ما فوق بشري"، فتتغزل بها، أو تبرر أعمالها، أو ‏تصفح عن أفعالها، من جهة أخرى!.. وفي الحالتين لم تعمد الأعمال الدرامية التاريخية السورية إلى تنصيب نفسها في ‏موقع من يطلق الأحكام على هذه الشخصيات، ويحاكمها، بل في موقع من يحاول قراءتها، في سياق الشروط التاريخية، ‏السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والشروط النفسية والذهنية!.. ‏

‏* الانتقاء منهجاً
الفن انتقاء.. نعم!.. إنه خيار من بين العديد من الخيارات الممكنة، وبالتالي لا يمكن القول إن ما نراه فنياً هو الخيار ‏الوحيد!.. يصحُّ هذا الكلام دائماً، في الموضوعات كافة، التاريخية القريبة: الراهنة، والمعاصرة، منها، تماماً كما يصح في ‏الموضوعات التاريخية، الموغلة في القدم..

الفارق يكمن في مدى تناسق المنطق الداخلي للعمل، والجودة في التشكيل ‏البصري، والإدراك الواضح للهدف الأخير، من المقولة النهائية للعمل: بين تلك الأعمال التي تريد التغنّي بالتاريخ المجيد، ‏والثناء اللامتناهي لما فعله الأجداد العظام.. وبين من يريد قراءة التاريخ، باعتباره الماضي الممتد في الحاضر، المؤسِّس ‏له، والمؤثِّر فيه. والانطلاق من ثم إلى المستقبل المأمول.‏

الانتقاء يتمّ على هذه القاعدة، بشكل أساس. فمن يريد التغنّي بالتاريخ المجيد، وما فعله الأجداد العظام، يعرف إلى أيّ ‏موضوعات، ووقائع، وشخصيات، يذهب!.. ومن يريد قراءة التاريخ في تحولاته الكبرى، ووقائعه الخطيرة، وشخصياته ‏الإشكالية، وامتداد ذلك عبر الأزمان، من الماضي إلى الراهن، نحو المستقبل، أيضاً يعرف أين يذهب.‏

طبعاً، من غير المقبول أن يظن أحد أن إنجاز هذا العمل الدرامي التاريخي، أو ذاك، يأتي عبثاً، أو لهواً.. أو يعتقد أن ‏توظيف كل هذه المبالغ المالية العالية "الخيالية" يتمّ من أجل التسلية، فقط!.. قد يكون ذلك عند البعض هرباً من مقتضيات ‏رقابية، تمنع من تناول الموضوعات المعاصرة، وهذا صحيح في جزء منه!..

ولكن من تراه يظن أن التعامل مع موضوعات ‏شائكة، وجدالية، في التاريخ الحذر، بوقائعه، وشخصياته، أقلّ حساسية؟!.. وهل من الممكن نكران أن الانفتاح الملحوظ في ‏التعامل مع الموضوعات التاريخية، وخاصة الدينية، ترافق مع الانفتاح الرقابي عموماً!.. هناك انتقاء.. نعم.. ولكن علينا أن ‏نعرف لماذا يتم هذا الانتقاء.. في كل عمل!..‏

‏* توثيق للتاريخ
بالاعتقاد أن الدراما التاريخية هي كل ذلك، مجتمعاً: هي تعبيرات عن وفاء لوقائع وشخصيات، من ناحية أولى. وهي إعادة ‏تأويل، ومحاولة قراءة وفهم، من ناحية ثانية. وهي محاولة للتوثيق البصري، من أجل خلق وثيقة بصرية، عن مراحل ‏تاريخية منصرمة، من ناحية ثالثة. وهي محاولة استنهاض الراهن، والتأهّب للمستقبل، من ناحية رابعة. وفي هذه اللوحة ‏المتشابكة، كل يحدد مكانه، وهدفه، وما يطمح إليه!..‏

تلك أمور نافلة، يستطيع الجميع القول بها.. ولكن، فضلاً عن ذلك كله، يمكن للمرء أن يرى وجوهاً أخرى للدراما التاريخية، ‏ومُضمراتها، يمكن القول إن منها ما هو يأتي على هيئة "توسّل لاستعادة التاريخ"، ومنها ما هو على هيئة "السعي ‏للتخلّص من التاريخ"!..‏

في هذا الإطار، يمكن الحديث عن توجّهات معلنة، لدى البعض، تروم من الأعمال الدرامية التاريخية الدعوة إلى استعادة ‏التاريخ، كما كان: هناك "في الماضي"، حيث كان المجد والقوة والعدل والسمو.. والسلف العظام.. في مواجهة الراهن، هنا ‏‏"في الحاضر"، حيث الضعف والتشرذم والاستعباد.. في ثنائية واضحة، تجعل الخيار يتم بين الماضي المجيد، والحاضر ‏التعيس.. مما يقود إلى الانتصار للماضي المجيد، والسعي إلى استعادته، والنفور من الحاضر..‏

كما يمكن الحديث عن توجّهات مضمرة، لدى البعض الآخر، مفادها أن قراءة التاريخ، وفضحه، من خلال العمل على تفكيك ‏هيبته، ونزع رصانته، وفض اشتباكاته، ينبغي أن يؤدي إلى التخلّص من ثقله، ومن أعبائه!.. وبالتالي يرى "هذا البعض" ‏أن الانطلاق إلى المستقبل لن يتم إلا عبر التخلّص من رزء التاريخ، والإنفلات من أسره، وإعادة شخصياته الكبرى إلى ‏واقعها التاريخي، ليكون محلها في "ذمة التاريخ"، لا أكثر، ولا أقل!..‏
‏ ‏‏ ‏‏* بين التاريخي والديني
ثمة فرق بائن ما بين "الدراما التاريخية" و"الدراما الدينية"، دون أدنى شك. "الدراما التاريخية"، تعريفاً، هي تلك الدراما ‏تتعامل مع الوقائع والأحداث والشخصيات التاريخية، عموماً، بما فيها الدينية.. أما "الدراما الدينية"، فهي تلك التي تتصل ‏بالوقائع والأحداث والشخصيات الدينية، حصراً. وهذا يعني أن "الدراما التاريخية" هي أوسع وأشمل من "الدراما الدينية" ‏التي تتصل، في منطقتنا على الأقل، بالأديان السماوية الثلاثة..‏

وطبعاً، من الصعب الفصل الحاد بين "الدراما التاريخية" و"الدراما الدينية"، والقطع بينهما، تماماً، وذلك على اعتبار أن ‏الدين هو أحد المحركات الكبرى في التاريخ البشري. وهذا ما يجعلنا نرى أن في كل حدث تاريخي، مؤثراً دينياً، من طراز ‏ما، وبقدر ما.. كما نرى أن في الكثير مما هو ديني، بعداً تاريخياً..‏

‏* محاكاة وإسقاط!‏
في الأعمال الأدبية، كما في الأعمال الفنية، التي تسعى إلى تناول مرحلة تاريخية ما، خاصة تلك المراحل المنصرمة، القريبة ‏أو البعيدة، يبدو من المهم الانتباه إلى "سؤال المحاكاة"، الذي يصل بتلك الأعمال إلى وهم السعي إلى "حدّ المطابقة"، إزاء ‏‏"أو بمواجهة" تلك الأعمال التي تسعى إلى "سؤال المفارقة"، الذي يصل إلى حدّ المغايرة، والإحالة، والدلالة، والترميز!..‏

الأصل في الأعمال التي تتناول الوقائع، والأحداث، والشخصيات التاريخية، أنها تسعى لتحقيق "المحاكاة" أولاً، بالقدر الذي ‏يمكّنها من أن تجيب من خلالها عن "سؤال المحاكاة"، بداية، وصولاً إلى "حدّ المطابقة"!.. بمعنى محاولة الإجابة عن ‏سؤال: إلى أيّ قدر كانت هذه الواقعة، أو هذا الحدث، أو هذه الشخصية، لها علاقة بما نقول؟..

وإلى أي حدّ يمكن لما نقوله ‏أن يكون على علاقة بالواقع، كما كان، وبالحدث كما تم؟.. وبالتالي فإن العمل الذي يسعى إلى "المحاكاة"، أولاً، هو العمل ‏الذي يسعى إلى "المطابقة"، تالياً، في مجال التفاصيل جميعها، بدءاً من التفاصيل الشكلية، إلى التفاصيل النفسية، إلى ‏المواقف، وردود الأفعال، وكل ما يتعلق بذلك..‏

في الأعمال التي تريد "محاكاة الواقع"، لا يمكن أن يتمّ التغاضي عن أي تفصيل، مهما كان صغيراً، ومهما كان عابراً، لا ‏على المستوى الفيزيولوجي، ولا على المستوى النفسي، ولا على المستوى الفكري.. بل وليس على صعيد العلاقة بين هذه ‏جميعاً، وتأثيراتها في تكوين الشخصيات، والأحداث، والوقائع..‏

‏"المحاكاة" تتطلب الأمانة التاريخية، كما تتطلب المقدرة العلمية، على النفاذ إلى جوهر الأشياء، ودراستها، وربطها بغيرها ‏من التفاصيل، للحدث، أو بالتكوين العام للشخصية.. فعندما يريد هذا العمل، أو ذاك، تناول مرحلة تاريخية ما، أو شخصية ‏ما، فإنه يسعى إلى اكتشاف ما يمكنه من التفاصيل المكونة لهذا العصر، أو الشخصية، على المستويات كافة، ويكون هاجسه ‏أن يحقق كل ذلك، ويقدمه..

أما "الإسقاط التاريخي" فتعتبر من أكثر المهمات شيوعاً في التعامل مع الموضوعات التاريخية، ‏وذلك بسبب قناعة سائدة لدى العديد مفادها أن "التاريخ يعيد نفسه"!..

أصحاب هذه الرؤية يريدون القول إنّما جرى من ‏قبل، دروساً، وعظات، لمن يريد أن يفهم، ويتعظ.. ويتبنون القول إن التاريخ في سياقاته التي مضت، هو عبارة عن ‏دروس، يمكن أن تكون بمثابة أجراس تنبيه للغافلين، وإشارات واضحة للتائهين..

وهكذا، فإن من يصنعون الأعمال الدرامية ‏التاريخية، في سياق "الإسقاط التاريخي"، إنما يريدون الخلاص إلى الدرس المُستفاد من أحداث التاريخ، ووقائعه، ‏وشخصياته.. دون الاهتمام تماماً بمسائل التماثل، أو المطابقة، إذ يكتفون بالتركيز على العبرة، ووضع المشاهد أمامها، ‏وجعله يتناولها..‏

في الأعمال التي تروم "الإسقاط التاريخي"، ليس من المهم تناول الموضوعات التاريخية بتشابكها، وجدلها، وتفاعلها.. بل ‏يتمّ التركيز على دلالتها، وعلى معناها.. هكذا يصبح هذا نموذجاً للبطولة والفداء، وذاك مثالاً للعطاء، وآخر للبذل، أو ‏الخيانة.. دون النظر في تفصيل هذا وذاك والآخر، التي صارت فيما بعد.. وبالتالي فإنهم يعفون أنفسهم من الدخول في ‏مسائل التاريخ وتشابكاته، وتعقيداته..‏

في أعمال "الإسقاط التاريخي"، لا نرى من الناصر "صلاح الدين" الأيوبي، إلا صورته في إهاب المنتصر على الفرنجة في ‏حطين، وتحرير القدس، ولا نرى من "الظاهر بيبرس" البندقداري، إلا المنتصر في "عين جالوت".. وفي النهاية، يتم ‏الإيحاء بأننا نحتاج طراز أيّ منهما.. لننهض من جديد!..‏

ربما من المهم القول إن الأعمال الدرامية، على تنوعها، وعلى مختلف إشكالياتها، استطاعت أن تقوم بمهمة فتح الأبواب ‏على الكثير من المسكوت عنه. الدراما فتحت المجال لتناول العديد من الوقائع، والأحداث، والشخصيات، الإشكالية، أو ‏القلقة..

الدراما فتحت الباب أمام التفكير في تناول المُتوافق عليه، على الرغم مما فيه مما يمكن أن يُقال.. والأهم من هذا ‏وذاك أن الدراما العربية تقوم بحرث الأرض أمام السينما العربية حتى لا تكاد تترك لها شيئا.‏

بشار إبراهيم

المصدر: العرب أون لاين

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...