التطرف الديني في المجتمع العربي

23-06-2011

التطرف الديني في المجتمع العربي

أفتتح هذه المداخلة بسؤال: إذا كان التطرف الديني يحتمي عادة بالموروث من النصوص الدينية فهل تعتبر تلك النصوص- باستثناء كتب الوحي- نصوصا نقية؟ كمدخل للإجابة عن هذا السؤال يجدر الانتباه إلى أن تراثنا الإسلامي لم يسلم من نزعتين: إحداهما: نزعة التسييس الطائفي للدين، فقد اتجهت أقلام هذه النزعة إلى طمس بعض الحقائق أو اختراع القصص لتسويغ الانحياز إلى هذا المذهب أو ذاك.. فلم تخل الأحاديث المنسوبة إلى رسول اللـه من مأساة انتحالها أو تزويرها لأغراض سياسية ومذهبية.
 
‏والنزعة الثانية: هي نزعة الدجل الديني فقد ظهر في القرنين الثالث والرابع الهجريين بعض الدجالين ممن يزعمون أنهم من رواة الحديث النبوي الشريف وأنهم قد سمعوا الحديث عن النبي مباشرة، وقد عمروا بعده ومن ثم فهم لا يحتاجون إلى إسناد- من أمثال أبو الدنيا وجعفر الرومي وسرتبك الهندي ورتن بن عبد اللـه الهندي.
ومن هنا يبدو لي أن ظاهرة هذا العبث بالنصوص الدينية الأولى قد تركت آثاراً سلبية في فهم الوجدان الشعبي للدين فهؤلاء العوام بحكم أميتهم وجهلهم كانوا على الدوام مصدر استغلال من قوى التطرف الديني الذي وجد في أوساط الجهلة بالإسلام مصدرا لتسويق أفكارهم الدينية المستندة أساسا إلى تلك النصوص المزورة والمنتحلة. ‏
على أن الأكثر خطورة من ذلك أن يجد التطرف الديني في بعض الأنظمة العربية في العقود الماضية مسرحا لأنشطته الرعوية التي كانت تذهب بعيداً في الترويج لثقافة العنف المقدس تحت لافتات إقصاء الآخر المختلف دينيا وسياسيا وتكفيره، وعلى الرغم من الانهيارات المتسارعة التي مني بها النظام العربي بعد الحادي عشر من أيلول وبروز التطرف الديني كقوة مناهضة لمشاريع الاحتلال الجديد، فإن النظام العربي لم يفتح بعد- ملف التطرف الديني- لدراسة ظاهرته الخطرة وأسبابه تمهيدا لتطويقه ومعالجته في ضوء فهمنا العلمي الموضوعي لمنابته وعوامله. ‏
وأكاد أقول إن هذا النظام العربي يتحمل القسط الأوفر من مسؤولية انتشار التطرف الديني لأن إهمال الدولة تحت شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للطوائف الدينية في المجتمع العربي قد ساهم إلى حد بعيد ببروز- ظاهرة الفلتان الديني- التي لم يعد بإمكان المرجعيات الدينية العليا ضبطها، إما بسبب ضعف تلك المرجعيات، أو بسبب انعدام الثقة بها.. وإما بين دولة أهملت موضوع الرقابة على التطرف الديني، ودولة مارست استغلال الدين في التنافس السياسي بدأ التطرف بالانتفاخ ليتغذى من المجال السائب الذي أتاحه إهمال الدولة ولينشط بكامل قواه في كنف الدولة المستفيدة من استغلال الدين في لعبة التنافس السياسي.. ولكي لا يستتر- التطرف الديني- بدستورية الدولة يجب أن نضع فاصلة جوهرية للتمييز بين ما هو إسلامي فعلا وبين ما هو- باسم الإسلام- فلا يكفي أن تذكر الدساتير العربية أن الإسلام دين الدولة بل يجب إيجاد أشكال مؤسسية تحول دون تسييس الإسلام بما هو مخالف لروح عقيدته وشريعته. ‏
من هنا فإنني أدعو إلى ضرورة تنظيم العلاقة بين الدين والسياسة لأنه وفي غياب الصيغة الناظمة لتلك العلاقة، سيظل إشكال التطرف في المجتمع العربي مفتوحا على كل الاحتمالات ذلك أن التطرف الديني لا يتنفس إلا في المجتمعات التي يغلب عليها الجهل والأمية. ‏
فأين برامج مكافحة الأمية? وإذا كان التطرف لا يستقوي إلا بالتراث المزور الدخيل على ثقافتنا الإسلامية السمحاء فأين برامج دعم المنابر الدينية الوسطية? وأين برامج دعم المؤسسات الدينية المعتدلة والمنادية بثقافة الحوار والتسامح؟ لماذا تنفق وزارات الإعلام ووزارات الثقافة والمؤسسات العربية للإعلان والإعلام ملايين الدولارات لدعم صحف ومجلات أقل ما يقال فيها إنها لا تقل خطورة عن التطرف الديني?
فإذا كان التطرف الديني قد شوه المضمون الحضاري لأدياننا فإن تلك الصحف والمجلات المدعومة قد شوهت المضمون الأخلاقي والحضاري لعروبتنا.. لا أحد ضد الدين ولكننا جميعنا ضد التطرف والعنف ولا أحد كذلك ضد الحريات الفكرية والثقافية والإعلامية ولكننا ضد المجون والاستهتار الذي يمسخ فكرنا ويزور ثقافتنا وينحرف بأجهزتنا الإعلامية إلى تحريف معنى الهوية والانتماء. وفي المثال اللبناني لاستغلال الدولة للدين في التنافس السياسي يرى بعض المفكرين أن المشكلة في لبنان ليست مشكلة مسيحية اكليركية حتى تطرح العلمانية حلا للمشكلة اللبنانية، بل إن المشكلة اللبنانية هي مشكلة إسلامية- مسيحية معا وليست في جوهرها تدخل الإسلام والمسيحية في السياسة بل هي مشكلة عكسية تتلخص في تدخل السياسة ورجال السياسة في شؤون الدين والتحدث باسمه.. ومن طريف ما ينقل عن ظاهرة تسييس الدين في المجتمع اللبناني ما أعلنه الخبير البلجيكي (فان زيلاند) الذي جاء إلى لبنان في الأربعينيات من أجل تنظيم الاقتصاد اللبناني فأعلن عجزه بعد فترة عن أعمال الدراسة وقال للراحل رياض الصلح معللا هذا العجز في بلد يخضع اقتصاده للطائفية الدينية والسياسية: كيف لي دولة الرئيس أن أعرف أن التفاح في بلادكم ماروني، والبرتقال مسلم سني، والزيتون أرثوذكسي، والتبغ شيعي والعنب كاثوليكي، ولو أخبرتني بذلك قبل مجيئي إلى لبنان لما غامرت بسمعتي في بلدكم الذي تنسب فيه كل ثمرة إلى طائفة. ‏
وإذاً عندما ننظر إلى مشاريع التقسيم الطائفي ومشاريع نشر التعصب والتطرف والعنصرية ندرك أن قضية الاستغلال السياسي للدين قضية شاملة يجب البحث في التاريخ العربي عن السبل التي اعتمدت لمنع هذا الاستغلال، بل يجب البحث في التجربة الأوروبية والتجربة اليابانية التي حسمت أشكال هذا الاستغلال.. وأراني أدعو إلى تأسيس صرح ديني مؤسساتي لحوار الأديان من أجل احتواء النزاعات المسيسة دينيا للحؤول دون سيطرة نزعة التزوير الديني أو الدجل الديني على الدين. ‏
وإذا كان تطرف الفكر الديني والفقه الديني هو المضخة المركزية لتطرف السلوك الديني، وإذا كانت المساجد المنتشرة في أرجاء الوطن العربي هي الوسيط المباشر للدعوة الدينية فإن السؤال هذه المرة عن رسالة المسجد والتوعية الدينية يجب أن ينطلق من محاسبة المؤسسات الدينية بوصفها الجهة المسؤولة عن رعاية هذه الرسالة وتلك التوعية، فليس من الرعاية بشيء أن تترك منارات المساجد ومنابرها لأئمة وخطباء لا يفقهون من الإسلام وثقافته إلا الحناجر الصوتية المدربة على توظيف خطبة الجمعة لخدمة خطاب السلطة الدينية أو السياسية. ‏
إن منهج تأييد السلطة لمثل هذا الإمام أو الخطيب سيجعل منه داعية إمّعة وسيصبح مؤهلا للتطرف الديني في زمن مختلف وسلطة مغايرة.. وضمن هذه الملاحظة الجوهرية فإني أدعو إلى ضرورة العناية بشخصية خطيب المسجد وتأهيله عبر دورات تدريبية على صياغة الخطاب الديني المسؤول بعيداً عن الغوغائيات الاستعراضية التي تحرض على العنف والقتل والتكفير باسم الدين.. فكم هو الفارق الجوهري بين سلطة دينية تؤيد الإمام والخطيب لمجرد صيحاته التمجيدية للسلطة ومرجعية تؤيد الإمام وتمده بكل المؤازرة لأنه الأمين على قضايا المجتمع ووحدة الوطن؟ وكائنا ما كانت الانتقادات الموجهة إلى المؤسسات الدينية فإن تجربتها المهمة في الوطن العربي هي الإطار الأمثل للبحث عن علاقة التناغم والانسجام بين الدين والدولة بشرط ألا تنحرف عن جوهر مسؤولياتها الرعوية وتنهي دورها عند حدود استثمار الأموال الوقفية. ‏
إن إدارة الرقابة الدينية من شأنها أن تصون الجوهر الأخلاقي والاجتماعي للدين بدءا من طباعة الكتاب الديني مرورا بالتعليم الديني، وصولا إلى ميادين الدعوة الدينية في المساجد والجمعيات ومراكز التوجيه الديني. ‏
لقد قيل عن التطرف الديني إنه خطر يهدد الديمقراطية ويفتح باب الاضطهاد الديني على مصراعيه وإنه يعيدنا إلى عصور محاكم التفتيش، وإزاء هذه المخاطر مجتمعة أين البدائل المقترحة لإزاحة هذا التطرف عن مواقع التأثير في حياتنا الاجتماعية الدينية والسياسية? وماذا لو أصبح هذا التطرف هو النجم المحبوب الذي يطرب له الشارع العربي?
ويبدو لي أن مشكلة التطرف الديني في الوطن العربي من المشكلات المعقدة التي برزت على مسرح الحدث السياسي متزامنة مع مرحلة الاستغلال الوطني وهي المرحلة التي طرح فيها سؤال الدين وموقعه من هيكل الدولة الوطنية والقطرية.. وقد تفاقمت هذه المشكلة لسببين:‏
أحدهما: نزعة بعض الأقطار العربية لإقصاء كل فكر مختلف عن أيديولوجيا الدولة بما فيها الفكر الإسلامي. ‏
ثانيهما: نزعة الخطاب الإسلامي في تلك المرحلة إلى رفض مشاريع التطوير والتحديث التي كانت تمس ثوابت الموروثات الدينية، الأمر الذي فجر أزمة الصراع بين الدولة الجديدة والمؤسسة الدينية.. وبدل أن يجري الحوار بينهما على قاعدة الفصل بين وظيفة الدولة ووظيفة الدين ظهرت أخطاء أدبيات الخطاب الإسلامي في مشروع تأطير الدين في معادلة خطرة تطرح الدين بديلاً من الدولة، كما ظهرت أخطاء الدولة في اختزال تفسيرها لمفهوم الدين على الجانب العقائدي دون التفات إلى أهمية الجانب الأخلاقي والاجتماعي من الدين في بناء الدولة الوطنية الحديثة.. الأمر الذي حفر فجوة عميقة ليس بين ثنائية الدولة والدين فحسب بل بين الدولة والمجتمع، فلم تدرك الدولة أن خصوصية المجتمعات العربية لا يمكن لها أن تكون نسخة طبق الأصل عن النموذج الغربي للدولة، ولم يدرك الخطاب الإسلامي أن بناء الدولة الوطنية الحديثة هو الإطار الوحيد الناظم لتعددية الأديان في المجتمعات العربية، وهكذا ظل التوتر بين الدولة والدين محتدما ليفتح شهية الاحتلال على تفجير هذا التوتر لإعاقة مشروعنا النهوضي العربي لتبديد مقومات وحدته الوطنية والقومية من خلال أصابع الاحتلال الخفية التي كانت ولا تزال تلعب دور المحرض لتأليب الدولة على الدين وتأليب الدين على الدولة.. وضمن هذه الملاحظة يجدر الانتباه إلى أن مشاريع الإصلاح الوافدة من الخارج تنطوي على لغم موقوت لأن الدلالة الموضوعية للتصديق بفكرة- الإصلاح- تعني أن ثمة انهيارا شاملاً في الدولة والدين والمجتمع، فإن لم تستجب الأنظمة العربية لمشاريع هذا الإصلاح- الخديعة- فمعنى ذلك تثوير قوى المعارضة للنهوض بهذا الدور، وبما أن المزاج الديني مسكون بعماء الأمية والجهل فهو بهذا الاعتبار سيكون الطعم المناسب لوقود المعارضة ليغدو التطرف الديني في مثل هذه الظروف العدائية بمنزلة عود الثقاب الذي سيشعل النار بنفسه وبالجميع ليدخل الاحتلال الجديد رافعا هذه المرة لافتة إنسانية مهمتها إخماد النيران التي تحرق الأخضر واليابس في غابة بشرية لا بد من إعادة تدجين كائناتها وتدريبها على الحرية والديمقراطية. ‏
وإذاً لن يكون الدين مصدرا للاستقرار السياسي والاجتماعي في الوطن العربي إلا بتصفية الوجدان الشعبي وتحصينه من أنياب تسييس الدين ومخالب الدجل الديني الذي يمعن تشويقها بقيم الدين ورسالته السمحة.

الشيخ حسين أحمد حمادة

المصدر: الوطن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...