التجديد والتحريم والتأويل

15-01-2011

التجديد والتحريم والتأويل

صدر كتاب «التجديد والتحريم والتأويل: بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير» (المركز الثقافي العربي، بيروت، 2010) بعد أشهر من وفاة مؤلفه، المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، والفضل يعود إلى جهود صديقه الناشر حسن ياغي.

ويتطرق المفكر الراحل إلى قضايا رئيسة عدة، طالما انشغل بها خلال مشواره الفكري والبحثي، وتتعلق بالتجديد والتحريم والتأويل، إذ ينظر أبو زيد إلى التجديد بصفته حاجة دائمة، وسيرورة اجتماعية وسياسية وثقافية، ومن دونه تتجمد الحياة وتفقد رونقها، وتدخل الثقافات في نفق الجمود ثم الاندثار والموت. ويعتبر أن كل ما ليس تجديداً في مجال الفكر هو «ترديد» وتكرار لما سبق قوله، وهو ليس من الفكر في شيء ولا يمت إليه بصلة. ولكل تجديد سياقه التاريخي والاجتماعي والسياسي والفكري. ولا ينبع التجديد في أي مجال من رغبة شخصية أو هوى ذاتي عند هذا المفكر أو ذاك. وهو ليس تحليقاً في سموات معرفية، أو عرفانية، بل ينبت في أرض الحياة، كما أنه ليس حالة فكرية طارئة، بل يجسد الفكر في تجاوبه مع الأصول التي ينبع منها، ويتجاوب معها بوسائله الخاصة.

ويصبح التجديد أكثر إلحاحاً عندما تتأزم أوضاع الحياة، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، التي تنعكس بدورها على الفكر وعلى مختلف أوجه الحياة، فيما تعدّ الحاجة إلى التجديد الفكري والسياسي والاجتماعي من أول مظاهر التغيير المجتمعي، على أن يشمل التجديد مختلف حقول المعرفة ومجالاتها، ويشمل أيضاً التجديد في إطار الفكر الديني.

وتعيش بلداننا العربية حالة من التأزم، تحولت مع ضعف مقاومة المجتمع إلى نوع من الركود واجترار إنجازات الماضي والتغني بانتصاراته. وقد كشفت هزيمة حزيران (يونيو) 1967 عن حالة التأزم المستفحلة، على مستوى الواقع وعلى مستوى الفكر وفي النظام السياسي على وجه الخصوص. وجرى تفسير الهزيمة المدوية في الخطاب الديني بشقيه الرسمي والشعبي تفسيراً دينياً، على أساس أن دولة الكيان الصهيوني هي دولة «اليهود»، وأنها انتصرت بسبب تمسك اليهود بقيم التوراة في حين تخلى المسلمون عن قيمهم الدينية والروحية، وانخرطوا في تقليد الغرب العلماني واستيراد أنظمته السياسية والفكرية. ومع ذلك، فإن سيف التكفير والمنع ما زال مسلطاً على كل من يحاول التفكير الجديّ والعلمي في وضع بلداننا المأزوم، حيث تتحالف السلطتان السياسية والدينية في وجه كل من يدعو إلى التحرر من أسر التقليد، وضد كل من يفتح الباب لدخول الهواء الذي يسعى الى تحريك الأفكار الراكدة التي حاول مصلحون قبلنا تحريكها وتعرضوا لسيوف التكفير.

ويعتبر أبو زيد أن الفكر العربي، في مرحلتنا الراهنة، لا يزال يرى في كتابات وأطروحات، طه حسين ومحمد عبده وعلي عبدالرزاق والطاهر عاشور وأمين الخولي ونجيب محفوظ والكواكبي وغيرهم، الأساس الإبداعي والمعرفي لثقافة تطمح لأخذ مكانها بين ثقافات العالم. لكن هذه الأسماء الكبيرة تعرضت لشتى أنواع الاتهامات والضغوط، وأجبرت في أحيان كثيرة على التراجع أمام هيمنة الأفكار التي تنتمي إلى الماضي. وعليه يمكننا أن ندرك ثقل المهمة الطامحة إلى إخراج مجتمعاتنا من أزماتها، وهي مهمة تحتاج إلى التحلي بقوة المعرفة وتحتاج إلى الشجاعة أيضاً. ويلاحظ أن رفض الحوار العلمي في بلداننا العربية، وتكريس منطق النقل على حساب منطق العقل، لا يزال مهيمناً ومدعوماً من سلطات سياسية، ترى في المؤسسة الدينية خير حليف لخنق حركات التجديد والإصلاح. ولسنا بحاجة إلى كثير من الجهد لإثبات أن أي تجديد في أي من هاتين السلطتين لا يمكن أن يحصل في جهة بمعزل عن الأخرى، وأن الإصلاح والتجديد الديني مرتبطان بالإصلاح والتجديد السياسي.

ويؤكد أبو زيد أن خطاب التحريم، في شكل عام، لا يقتصر على الخطاب الديني، على رغم أن الخطاب الديني هو الأبرز حضوراً والأعلى صوتاً بحكم مركزية «الدين» في أفق الحياة العامة في مجتمعاتنا. وهناك خطاب التحريم السياسي، وخطاب التحريم الاجتماعي، وخطاب التحريم الثقافي، فضلاً عن خطاب التحريم الأكاديمي، حيث يعتبر الخطاب الديني جزءاً من الخطاب الثقافي العام في أي مجتمع، ويزدهر بازدهار الخطاب العام، ويكون منفتحاً وتحررياً وإنسانياً بقدر ما يكون الخطاب الثقافي العام كذلك، وبالتالي حين يختنق الخطاب العام ويسوده التعصب، وتحكمه معايير اللاعقلانية والتمترس خلف هوية تعادي الآخر وتكره الاختلاف، يصاب الخطاب الديني بالداء ذاته، داء التعصب واللاعقلانية، وتتحكم فيه معايير الهوية الجامدة، وكراهية الاختلاف.

وتتجسد مشكلة التحريم في كل العصور في عدم التمييز بين مستويات «الحقيقة» وتجلياتها المختلفة، فهناك «الحقيقة الفلسفية»، و «الحقيقة الاجتماعية»، و «الحقيقة السياسية»، و «الحقيقة الثقافية»، و «الحقيقة الدينية»، و «الحقيقة الفنية». وجميع هذه الحقائق لا تتماثل وإن كانت تتقاطع وتتفاعل. أما الحقيقة الدينية فهي ليست واحدة، بل تتعدد بتعدد التفسيرات والتأويلات، وتتحول إلى «عقائد» عند علماء اللاهوت.

ويرفض أبو زيد اعتبار الحقيقة اللاهوتية هي الحقيقة الإيمانية، لأنها تشير إلى الحقيقة المؤسساتية، وهي ليست ثابتة، إذ هناك تفسيرات لاهوتية متعددة للحقيقة الدينية. في حين أن الحقيقة الإيمانية هي مجال التعبيرات الفنية، وتحتمل التساؤل والشك، لأنها حقيقة فردية. وباعتبار أن الطبيعة التساؤلية هي جوهر الفن وجوهر التعبير الأدبي، فإنها تمثل الحقيقة الفنية. ومن حق الفن والفكر أن يتحديا الإجابات التي يقدمها اللاهوت بطرح التساؤلات عنها وإثارة الشكوك حولها، لأنه من دون هذه التساؤلات والشكوك تتجمد الحقيقة اللاهوتية وتفقد خصوبتها.

ويطاول التحريم الفنون بمختلف أنواعها، كونها تنهض على الخلق والإبداع، مع أن الدين لا يحرم الفنون، إنما يحرمها من يتصورون أنفسهم حماة الدين والأخلاق والأعراف والتقاليد. وهم أنفسهم حماة الأمر الواقع، ومن يلفّ لفّهم من بعض الإعلاميين والمثقفين، الذين يدافعون عن قرارات السلطات، التي تسمح وتمنع وفق منطق ينتمي إلى الماضي.

وبخصوص تأويل القرآن قديماً وحديثاً، يشير أبو زيد إلى تفضيل العلماء المسلمين، منذ القرن الرابع للهجرة، لمصطلح التفسير على مصطلح التأويل، حتى بات شائعاً أن التأويل جنوح عن المقاصد والدلالات الموضوعية للقرآن، ودخول في إثبات عقائد وأفكار من خلال تحريف عمدي لدلالات ومعاني المفردات والتراكيب القرآنية. وقد اكتسب مصطلح «التأويل» دلالته غير الحسنة تدريجاً، وذلك من خلال عمليات التطور والنمو الاجتماعيين، وما صاحبهما عادة من صراع فكري وسياسي.

ويقترح أبو زيد مقاربة جديدة للتعامل مع القرآن، ينتقل فيها من تناول القرآن بصفته «نصاً»، حسبما جسده في كتابه «مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن»، إلى تناوله بصفته «خطاباً»، وذلك في سياق البحث عن تأويلية إنسانوية، إذ يرى أن التعامل مع القرآن في الحياة اليومية بصفته نصاً يقلل من حيويته، إلى جانب أن التصور النصي يتجاهل حقيقة أن القرآن ما زال يمارس وظيفته في الحياة اليومية للمسلمين بصفته خطاباً لا مجرد نص. ويلفت النظر إلى أن الدراسات الغربية عن القرآن، بدأت من التسليم بطبيعته النصية، شأنه في ذلك شأن العهدين القديم والحديث.

وقد دأب المفكرون المسلمون على التعامل مع القرآن بصفته نصاً، ولم يدركوا أهمية القرآن بوصفه خطاباً، ثم سار الدارسون في العصر الحديث في درب مواصلة المنظور التراثي في التعامل مع القرآن بصفته نصاً، الأمر الذي أنتج على الدوام تأويلية «كليانية»، و «سلطوية»، تزعم إمكان الوصول إلى الحقيقة المطلقة. ويؤكد أبو زيد أن أي مقاربة جديدة للقرآن لا تضع في حسبانها إعادة الاعتبار لطبيعته الأصلية الحية بصفته خطاباً، لن تستطيع أن تنتج تأويلية حية ومنفتحة. ويحدد الخصائص الخطابية للقرآن في تعدد الأصوات بين من يتكلم ومن ينصت ويستمع، وفي الحوار والسجال مع المشركين ومع المؤمنين، وفي الحوار التفاوضي مع النصارى واليهود، ثم الانتقال مع الحوار إلى الجدال معهم.

عمر كوش

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...