الأديب المضيَّع عبد الكريم محفوض في ذكراه الأولى

30-08-2009

الأديب المضيَّع عبد الكريم محفوض في ذكراه الأولى

الجمل- بشار عيسى:  رغم بريقه المغاير ، ربما الكثير منا انزلق من ذاكرته الأديب المترجم الراحل " عبد الكريم محفوض " لكن للتو عاد وقفز في الذاكرة ركنه المهجور الذي تَقدّم رحيله بسنوات , بعد شح بصره ، آثر عبد الكريم محفوض أن ينطوي وحبره في ركن ارتضاه لنفسه بعيداً عن حراك المشهد الثقافي السوري جسداً لا روحاً ، متابعاً بحثه عن الكتاب الأفضل كي يقدمه للمكتبة العربية ..
ترك إرثاً رومانسياً مقاوماً لكل مدّ موتور يتخفّى كي يقنص برصاصة غدر ذلك الحلم الذي ذهب به الراحل بعيداً كطوفان يرى في أخشابه حطباً لاستواء الحلم واقعاً في وجدان كل من مال وغنّى منتفضاً ... " بلاد العرب أوطاني ....." قبل أن يحتدم صراعه مع المرض ومن خلال الحوار المباشر اليومي معه كثيراً ما قرأت في صلابة وسلامة لغته بأساً مُلقّحاً بالدهشة التي يفعلها شك العالم  بغية الوصول إلى اليقين دون الإحباط  الذي كثيراً ما قبض عليه متسللاً بألوان قميئة شتى ، لم تكن صلابته وسلامة لغته إلا صورة لثقافة واسعة تبدّت من خلال ثلاثين كتاباً ومقالات كثيرة قام بترجمتها إلى العربية ، والترجمة لديه ليست عملية مصمتة تقوم على استبدال كلمة من لغة بنظيرتها في اللغة العربية ، إنما لها باحة تستدير بأقطار لا نهائية من الإبداع الذي يبرر حجة التصنيف " الأدب المترجم " الذي يكون عصباً هاماً في جسدنا الثقافي .
كان يرى أن الإبداع لدى المترجم يتوقف على عوامل عدة أساسها :
1- القدرة على إتقان الحراك في اللغة ونحوها ، فلذا ترى إتقانه لـِ اللغة الانكليزية لا يقل شأناً عن إتقانه ومعرفته الشاملة للعربية وآدابها ، وهنا يحضرني ما كان ردّده في مناسبات كثيرة .... معرفة المترجم للغة أخرى تنقضها قلة حيلته ومعرفته للعربية وآدابها .
2- احترام مبدأ الكيف وليس الكم في عملية النقل و الترجمة ، أي وجوب توخي الدقة والحذر في انتقاء الكتب التي يراد نقلها وهذا يتوقف على التزام المترجم بالثقافة التي تطوره تقدم المجتمع .
وما يشد الانتباه لدى " عبد الكريم محفوض " هو غوصه العميق في التعامل مع هوامش الكتاب المترجم ، لذا تجد في كتبه نوعين من الهوامش هي :
• - هوامش المؤلف الأصل
• هوامشه التي تنم عن أمانة في النقل ، فلا يُحرِّف ولا يتصرف وبذات الحين لا يتورع في الدفاع عن فكرته ، يكثر من تلك الهوامش معتبراً إياها الملاذ الذي يكبح من خلاله أفكاراً ملتبسة يراد تمريرها
والخلق لديه لا يتمثل فقط بمعرفته الواسعة الشاملة للانكليزية لغة وآداباً وقبلها العربية باقتدار ، إنما يتمثل ببحثه الدؤوب المضني حتى يقع اختياره على الكتاب الذي يحقق مقومات نقله للعربية فكراً ومعتقداً ، لذا كان من دوافع ترجمته للمسرحية " أواه لهذه المعمورة " بعد سلسلة دراسات سياسية دينية تاريخية ليس فنّها الجديد إنما أنها ستكون أول ما ينقل للعربية من الأدب الاندونيسي ، إنها ذات الدوافع وبقطب مغاير دفعته إلى ترجمة " التاريخ اليهودي " الذي حقق نجاحاً قلّ نظيره ، و "التاريخ اليهودي " سلسلة نشرتها صحيفة البعث بطول عشرين حلقة وبمستوى حلقة واحدة أسبوعيا  ، والمُتلقي انتظرها بشغف الذي يريد التمكن بحجة أعمق ضد غطرسة الكيان الصهيوني الفكرية الثقافية والاعتداء على الموروث الإنساني ، فضح " التاريخ اليهودي " كذب وزيف التلمود الذي تُغير وتُبدل تعاليمه بين الحين والأخر  ، هذا التغيير الذي يُلبّي نزعات الكيان الصهيونية العدوانية التوسعية ، ومؤلفه" إسرائيل شاحاك" أحد  أبرز مؤرخي هذا الكيان والعائد إلى خطه الإنساني الذي يحترم اليهودية ديناً وديانة سماوية كباقي الديانات ويرفضها ذريعة زائفة على أساسها قامت دولة إسرائيل بما نراه عليها الآن .
أيقن " عبد الكريم محفوض " يقين العالم التكالب على الإسلام والحملة عليه بغية تشويهه وإلحاق الأذى بتعاليمه وفكره الإنساني ،  مما شكل  محرضاً له فكان كتابه " لغة الإسلام السياسي " .
كتب الطيب  تيزيني في لغة الإسلام السياسي مُبيناً أهميته :
( لغة الإسلام السياسي تجربة متقدمة في حقل الدراسات الإسلامية ، وهي تجربة قلما سلك مسلكها باحثون عرب ومستشرقون آخرون... )
وسورية التي هي الحلقة الأولى في انتمائه وحبه لوطن عربي  كبير وقوي ، الوطن الحلم الذي عاش من أجله ولأجله ، أجل سورية التي ساهم مع كثيرين بغية أن تكون في أبهى صورة سواء من خلال عمله الدبلوماسي التربوي أو كأديب ، لهذا وذاك أصدر كتابه " الحرب الخفية على سورية " حاول الكثيرون ثنيهُ  عن هذا الإصدار  مستخدمين " الصراع على سورية " لباتريك سيل فزاعة خوف أن يلتبس على القارئ  الإصداران لكن ثقافته وحكمته وضعت كتابه على سكة مغايرة تماماً بالرغم من أن الإصداران يدرسان ذات المرحلة السياسية في سورية .
و " عبد الكريم محفوض " الذي قام بترجمة " العالم والنص والناقد " لإدوارد سعيد ، لولا ثقافته الواسعة ما تحققت تلك الترجمة ، ولا ينكر أحدٌ أن إدوارد سعيد عصيّ على القارئ العادي من فرض تخصصه وتجربته المثقفة بامتياز .
عايشت " عبد الكريم محفوض " خلال ترجمته لـ " العالم والنص والناقد " كان يقوم بالترجمة مقصياً ما يدعى " مسودة العمل المترجم " ومراعياً بدقة للهوامش المحمولة على الكتاب الأصلي ، وهذا لا يتحقق إلا مع قلة من الأدباء .
الإصدارات الآنفة الذكر هي  جزء من ثلاثين كتاباً قام بترجمتها عدا المقالات الصحفية والقصص القصيرة التي كان يخصّ بها الدوربات الثقافية ، وسلاسل وثائقية  تلفزيونية ، وكثيراً من النصوص الشعرية والقصصية التي كتبها ولم تنشر بعد .
قمت بعرض الإصدارات الخمسة والتي عدا مسرحية " أواه لهذه المعمورة " و " العالم والنص والناقد " تعرضت لسوء في التوزيع مما أحجم وصولها إلى شريحة أكبر من القرّاء ، فلذا من المُلّح إعادة طباعتها  ودفعها من جديد إلى ذاكرة وعقل القارئ .
لم يكن " عبد الكريم محفوض " مُتكسباً ، رضي القليل ..... القليل ،ولم يرضَ أن يكون مُسفاً بأدبه  ، كثيرة هي دور النشر التي استخدمت  معه حيلة لا أخلاقية إذاً كنا بصدد المكافآت المالية المقابلة لحقوق النشر بالرغم من أنه قدّم لها كتباً نوعية لذا نجده وقع كثيراً بمصائد استغلال هذه الدور وانعكس ذلك على الكتاب ومسائل توزيعه ، بعد جملة إخفاقات مع دور النشر وتراجع بصره وانحدار صحته دفع بنفسه إلى عزلة مع قلة  من أصحابه المثقفين في ركن مهجور من الخداع والمواربة يعالج فيه كيمياء الحبر ليبدو في ركنه  جملة كظومة حققت انفجارها الأخير عندما سلّم روحه إلى بارئها .
" عبد الكريم محفوض " ذلك الجميل من الزمن الجميل ، هل سيبقى الفن جميلاً كما كنت تريد ؟ سؤال برسم المثقفين الذين يعتلون منابر الآن  .

                                          -----------------------------

تعريف :
-  عبد الكريم محفوض
الولادة : سلمية 1935
الرحيل : سلمية 2006
• -  بعضاً من إصداراته :
- حبة القمح – روايه
- لغة الإسلام السياسي ، دار جفرا
- الحرب الخفية على سورية ، الناشر : د . أحمد سليمان
- العالم والنص والناقد ، اتحاد الكتاب العرب
- أواه لهذه المعمورة ، وزارة الثقافة
- التاريخ اليهودي ، دار البعث
• - عضو اتحاد الكتاب العرب
• رئيس المجلس التنفيذي لنقابة المعلمين ( نقيب المعلمين – سورية )
• مدير تربية الرقة
• ملحق ثقافي في الاتحاد السوفيتي السابق
• إجازة في الأدب الانكليزي – جامعة دمشق 1958


 

الجمل- جميل الضحاك: عندما طُلب منّي أن أكتب عن عبد الكريم محفوض المناضل والأديب المترجم في ذكرى رحيله الأولى لم أعرف من أين أبدأ. فالكتابة عن عبد الكريم  هي الكتابة عن جيل من أترابه تفتّحت أعينهم على مشروع عربي نهضوي وكانت الدنيا تعجّ بحركات التحرر الوطني في كل مكان ، وبالطبع ، لم تكن المسيرة سهلة ولا الطريق  مفروشة بالورود . فقد كان النهوض بهذا المشروع يعني التصدي للمشروع الاستعماري الصهيوني الذي يعمل على تفتيت الأمة وكان لتوه قد انتهى من زرع الدولة الصهيونية في قلب المنطقة العربية ولا بد لي من أن أُذكّر بمشروع المستر كامبل رئيس الوزراء البريطاني  في العام 1914 ( كما أعتقد ) والذي – للعجب لم يعد أحد يذكره الآن  مع أنه هو أصل المصائب كُلها حتى اليوم والذي قال في مؤتمر له مشهور ما مفاده بأنه في جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط هناك أمة لها مقومات الأمة كلها وهي ذات حضارة عريقة . فإذا ما أتيح لها أن تتوحد وتنهض  فسيكون في ذلك خطر وأي خطر على مشروعاتنا ومصالحنا الإستراتيجية ، ولذا يجب زرع جسم غريب في المنطقة العربية لا يمتّ إلى المنطقة بصلة يفصل جناحها الأفريقي  عن الآسيوي . بعد ذلك بسنتين قامت مؤامرة سايكس – بيكو السيئة الصيت ، وبعدها بسنة  واحدة صدر وعد بلفور  المشؤوم
.. بلفور وزير خارجية بريطانيا .. وتولّت بريطانيا الإنتداب على فلسطين لكي تسهل هجرة اليهود إلى فلسطين وهذا ما كان وفي نهاية عهد الانتداب كانت  الدولة الصهيونية قد وجِدَت .
في هذا الجو  نشأ المشروع العربي الذي نهض به  هذا الجيل والذي يبين حجم الحمل الثقيل الذي كان ينوء به كاهل من تصدى له .
من هذا الجيل كان عبد الكريم محفوض حيث نشأ وتعلم في مدارس سلمية الابتدائية على أيدي أساتذة ومعلمين بسطاء ولكنهم كانوا متشبعين بالفكر  القومي وأزعم أنهم  كانوا مُتشبعين بأفكار ساطع الحصري وذلك قبل نشوء الأحزاب القومية وزرعوها  في أفكار طلابهم  منذ الصغر فنشأوا عليها وعملوا على تحقيقها قدر المستطاع .
وفي نهاية المرحلة الابتدائية ولحسن الحظ تأسست في سلمية أول مدرسة إعدادية أتاحت لشريحة كبيرة من جيلنا ممن لم يكن بمقدورهم الذهاب إلى المدن المجاورة لاستئناف دراستهم  ، أتاحت لهم أن يستأنفوا الدراسة
انتسب عبد الكريم محفوض إلى حزب البعث منذ المرحلة الإعدادية  في سلمية  في مطلع الخمسينات أو قبل ذلك بقليل استأنف دراسته الثانوية   ثم الجامعية  - فرع اللغة الإنجليزية  وآدابها وتخرج منها ليعمل مدرساً وتسلّم مناصب عدة من مدير تربية إلى ملحق ثقافي في إحدى السفارات السورية إلى أن أصبح نقيباً للمعلمين في الدولة السورية .
بعد ذلك اتجه عبد الكريم لإشباع ميوله الأدبية فعمل في حقل الترجمة وصدر له أكثر من عشرين كتاباً من أمهات الكتب . ولم يكن همّه الكسب المادي بقدر ما كانت الترجمة تعني له التبادل الثقافي وتعزيز التضامن بين الشعوب ونشر ثقافة التفاهم والمحبة والسلام . ولم تفتر عزيمته بالرغم مما تعرّض له من غُبنٍ وابتزاز على أيدي بعض دور النشر الخاصة التي كانت في معظمها أشبه ما تكون ببازارات همّها الربح غير المشروع أكثر منه نشر الثقافة والمعرفة . كنّا  نقول له : احترز حتى لا تقع فريسة في المرة القادمة بين براثن هؤلاء فكان يجيب : أنا قروي بسيط وسأقع من جديد مهما احترزت . وبقي يعمل في الترجمة حتى كلّ بصره ووهن جسمه فالتزم بيته واختار العزلة الطوعية ولم يخرج من بيته أبدأً لأنه لشموخه واعتداده بنفسه لم يشأ أن يظهر على الملإ بمظهر الضعف والوهن وتلكاءٍ بالمشي بعد فتوة وشباب وقامة منتصبة وهو السبب الذي حدا بأصحابه المخلصين ألا يزوروه إلا لماماً إشفاقا منهم  على أنفسهم من أن يروه بهذه  الحالة حتى أنه عاتبني مرة تلميحاً وقال : حتى زميل الطفولة وصديق الشباب وأقرب الجيران إليّ أصبحت  لا أراه إلا لماماً فعدت إلى زيارته بانتظام حتى آخر أيامه .
وقف عبد الكريم حياته على بلورة المشروع القومي مع رفاقه المخلصين آمن بالممارسة فعلاً لا قولاً ، وانحاز إلى جانب المستضعفين والمقهورين  . بقي حتى النفس الأخير رجل المواقف الصلبة وترك التذبذب لمن يلهثون وراء السفاسف وقرر أن يبقى مثالاً ، وبقى حتى النهاية بانتظار أن يتحرك شيء ما في سكون هذا الليل العربي الطويل أو أن يبصر بصيصاً في نهاية النّفق ولمّا لم يظهر له شيء قتله الانتظار  .
لقد وهن الجسد ولم تهن الروح وغادرنا سامقاً كشجرة السرو دون أن يدير ظهره للأمل .. ما أصغر الموت وأعظم الروح .

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...