أنسي الحاج: قــرار الإنســان

30-01-2010

أنسي الحاج: قــرار الإنســان

ممّا قيل حول مأساة الطائرة الإثيوبيّة: «كلّ ما نرجوه هو أن تكون الفاجعة نتيجة حادث بريء لأن لبنان لا يحتمل في الظروف الراهنة اعتداءات إرهابيّة»، إلخ...
الفرق كبير طبعاً بين حادث «القضاء والقَدَر» والتدبير الإرهابي، كالفرق بين أن يسقط قتلى بخلاف عائلي أو يسقطون بنزاع طائفي أو بتبادل القصف بين جيشين. الفرق هو للأحياء، أمّا القتلى فقتلى على كلّ حال.
يُنسب القضاء والقَدَر عموماً إلى اللّه بينما تُنْسَب جرائم الإرهاب إلى بشر. في الأولى يُفترض التسليم وفي الثانية الانتقام. الأولى مشيئة لا تُردّ والثانية شرٌّ مجانيّ.
هذا التمييز هو في أساس «القبول» بفواجع القضاء والقدر والمرض والأوبئة والحروب الطاحنة، و«رفض» القتل السياسي والإرهابي. أي إن هناك موتين: واحداً لا غبار عليه سوى غبار الدموع، والآخر مستقبح يستدعي المكافحة وغباره الشائعات.
كان الأوائل ينتصبون على الأقلّ في وجه الآلهة ويتمرّدون على القَدَر. واجهوا التهديد باللعنة بالتهديد بالكفر، بل بالكفر. لذلك لا يصحّ القول إننا رجعنا إلى الوراء. ليتنا هنا نرجع إلى الوراء. لقد خرجنا من التاريخ لنعوم في فضاء الموت. موت بريء وموت مذنب. وفاة ومصرع. الاعتراض هو على الصفة القانونيّة لا على الموت.
■ ■ ■
... وموتٌ طبقيّ، قبل كلّ شيء. عنصري وطائفي وطبقي. موت العاملات الإثيوبيّات في حادث الطائرة تحصيل حاصل، فهنَّ إثيوبيّات، حبشيّات بلا اسم. كنّ يمتنَ يوميّاً من معاملة «سيّداتهن» اللبنانيّات، المصرع بالطائرة أَلطَف. (موجعة وشافية مقالة أسعد أبو خليل في هذا العدد).
وموتٌ نوعيّ. لسقوط طائرة دويّ إعلاميّ، ولحادث سير بَرّيّ خبر صغير (أحياناً لا دائماً) في زاوية ثانويّة من الجريدة. في شهرين أو ثلاثة، يموت بحوادث السير على طرقات لبنان أكثر ممّا مات بسقوط الطائرة الإثيوبيّة. لكن سعر الموت البرّيّ أرخص، ولا تحوم عليه عادةً شبهات الإرهاب.
هذه هي الحال في كلّ مكان. الموت أيضاً مسرحي.
■ ■ ■
ماذا رأى الضحايا لحظة التأرجُح؟ غير خلاصة شريط الماضي التي يقال إنها تقفز فجأة إلى الذاكرة قبيل النهاية؟ هل سألوا عن شيء؟ ما هو؟ هل خاطبهم شيء؟ ما هو؟ هل لمع فيهم شيء؟ ما هو؟
يقال إن الله في الداخل لا في الخارج. هل أمسكوا به في صدورهم تلك اللحظة؟ أم «استطاعوا» التخلّي كليّاً عن أيّ أمل؟ ما مكافأة الإنسان، رغم كلّ مساوئه، على فزعه تلك اللحظة؟ على بطولته رغماً عنه؟ كيف يحقّ للأشياء أن تواصل سيرها بعد زلزال هايتي، بعد تسونامي إندونيسيا، بعد غزة ودارفور والعراق واليمن ولبنان؟ بعد مصرع هذا الشاب على درّاجته، هذه المرأة مدهوسة، هذا الولد غريقاً، هؤلاء الملايين الذين ابتلعتهم الحربان العالميتان، بعد هيروشيما وناغازاكي؟
عشتُ ما عشت ولم أتمكّن من استيعاب فكرة أن يقتل أحدٌ أحداً، فكيف بأن يقتل أحد جماعة، أو يقتل لا أحدٌ أحداً أو جماعة؟ يُقْبَل التذمّر والبغض لا الإلغاء. يُقْبلَ الانعزال لا العزل. يُقْبَل الهرب لا المَحْق. يُقْبَل الموت النظري لا الفعلي. والقتل الحلْمي لا الواقعي. لا عذرَ للموت. هاتان العينان الوامضتان بكلّ الحياة بل بأكثر وأجمل ما في الحياة، يتعذّر القبول بانطفائهما. هذا الصوت المضيء وحشة المكان، لا يكون المكان مَنْزلاً ولا وطناً بدونه. هذا الدفء الوارف المنبعث من ذلك الحضور لا يمكن الاستسلام إلى اختفائه كأنه أمر واقع.
قد يفضّل الواحد ميتة على أخرى، من باب المجازفة القصوى، ولكنّ هذا يأس من الجواب وليس جواباً. لعلّه بطولة ولكنّه ليس شفاء. في بداية الحرب الأهليّة أبديتُ أمام الأستاذ سعيد عقل شعوراً من هذا النوع استفظاعاً لضحايا التقاتل، وكان موقفي أنّهم جميعاً بيادق وأبرياء، ومضيتُ فأعربتُ له عن قلقي على حياته من عنف مقالاته. وسيظلّ جوابه يتردّد في خاطري: «أحسنْ لي مُوتْ برصاصة من إنّو موت بالسرطان».
ألن يُعطى الإنسان أن يختار إلا بين أنواع من الموت؟
■ ■ ■
كان باسكال يكره «إله العلماء والفلاسفة» لأنه مادة تشريح، تستنبطه اللفظة أكثر ممّا تتحسّسه الروح. ومثله قال هيدغر.
يمكن أن نضيف إلى العلماء والفلاسفة، الأديان، وأسوأ من الأديان، الدول والأنظمة التي تسوّق آلهة.
تبدأ الآلهة في القلب وتنتهي في الدم. ويبقى الإيمان بالغائب وحيداً في صمته، شيئاً آخر بريئاً، مرشّحاً للمصادرة والسطو ما دام الإنسان إنساناً، كما هو كل شيء خميرة للشيء وعكسه، ابتداءً من الثلج وانتهاءً بالرغبة.
ظهرت الآلهة المؤدلجة يوم فقد الإنسان علاقته الشخصيّة بالسماء. لم تكن كلْفة بين الله والكائنات. لم تكن لامبالاة ولا كان يأس. اللامبالاة تولَّدت من إحساس الإنسان بالعجز أمام الضربات، وحين افتقد الحماية فلم يسمع صوتها. أمّا اليأس فإذا صدّقنا الروايات الميثولوجيّة والدينيّة فقد نشأ بأمرٍ من الله نفسه لمّا لَعَنَ إبليس لتمرّده وألقى به من السماء إلى أعماق الجحيم و«أيأسه» اليأس المطلق، كما يقول الطبري.
لكنّ اليأس رواية خارجيّة تنعكس في الداخل مثل حكم الإعدام. أُنزل الموت بالإنسان كما يُنْزَل الطغيان بشعب. كما ينزل النشاز في النغم. الحياة طبيعيّة والموت افتراء. الوجع افتراء. خُلق الإنسان للسعادة لأن الحياة أعجوبة لا كابوس. ولا شيء يُعزّي عن الفَقْد، لأن المتعزّي سيصير مفقوداً بدوره. لا بدّ أن تصبح الحياة اختياريّة ويُلغى الموت.
■ ■ ■
ماذا تقول السماء لضحايا الطائرة الإثيوبيّة؟ لأهلهم؟ وهل قالت السماء مرّة كلمة لمضروب جواباً عن سؤال؟ الفلاسفة أيضاً والعلماء تُفْلس هنا حِيَلهم ويتساوون في الانفعال مع سائر الخَلْق. تشارلز داروين كان مؤمناً ممارساً يعتقد بروايات التوراة اعتقاداً حَرْفيّاً، وقد درس اللاهوت الأنغليكاني في جامعة كمبريدج معدّاً نفسه لدخول السلك الكهنوتي. كان يرى في الطبيعة برهاناً على وجود الله. وحتّى عندما بدأت حرارة التقوى تخفّ عنده ظلّ يرى في الكتاب المقدس مرجعاً أخلاقيّاً، وإن يكن قد تبخّر اعتقاده بجديّة العهد القديم على الصعيد التاريخي. وظلّ، رغم تقدّم أبحاثه التي أدّت في ما بعد إلى وضعه نظريّة النشوء والارتقاء وإلى دخول الصدفة حيّز العلم، يرى في الله «المشرّع الأعظم»... حتّى لحظة وفاة ابنته آني في العاشرة من عمرها عام 1851. عندئذٍ فارقه الإيمان بالمسيحيّة ولم يعد يردّ ظواهر الألم والعذاب إلى «تدخّل إلهيّ» وبات يراها ظواهر ناتجة من «القوانين العامّة». وكانت كلماته الأخيرة لزوجته إيما وهو على فراش الموت تحيّة محض إنسانيّة لا أثر فيها للغيب: «تذكّري دوماً تلك الزوجة الطيّبة التي كنتِها».
ومعروفٌ أَثَر نظريّاته الحاسم في دكّ المعتقدات الدينيّة.
العلاقة بالله، حتّى بين العلماء والفلاسفة، ليست في منأى من ردّ الفعل العاطفي. حين يقول باسكال إنه مع إله إبراهيم وإسحق ويعقوب لا مع إله العلماء والفلاسفة يقصد أنه مع الإله الحيّ النابض في اللحظة والعَصَب لا مع ذلك المنقوع في جليد المفاهيم والنظريّات، لكنّ هذا معناه أيضاً أن إله التجربة الحيّة عرضة لغضب الإنسان ونقمته وكفره، بينما يبقى إله العقل مصوناً داخل التجريد.
وكيفما أُخذتْ لا أحد يجيب عن سؤال: لماذا؟ لا العقل ولا القلب. «طائرة إلى الأبد» كارثة بلا سبب ولو عُرف السبب. ضحايا طحنتهم سماء مجنونة وبحر لا يشبع. لن يبرّد جمرة الحسرة عليهم غير الزمن، والزمن هو التراب لا الجواب. الزمن إسعاف التراكم وتكاثف صمغ الترهّل لا حل المعضلة. كانت الشيخوخة تبدو «مبرّراً» نسبيّاً للموت، وبدأ تطوّر الطبّ يرفع نسبة طول العمر وقد يبعدها إلى ما وراء الحدود فيسقط بدوره «عذر» الشيخوخة. إذاً لمَ الموت؟ لمَ جميع عوامله وعملائه، من مرضٍ إلى حربٍ إلى قضاءٍ وقَدَر؟ إذا كان الله، حسب التعريف المكرَّس، هو الخالق اللانهائيّ القدرة اللانهائيّ المحبّة، فلمَ محدوديّة حياة خليقته ولمَ عذاباتها؟
في جوابه عن أسئلة المشاهدين قال الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في «الجزيرة» قبل أيّام «إن العبادة، كما فسّرها ابن تيميّة، هي كلّ ما يحبّه الله ويرضاه من أخلاق وأفعال»، وإن «حاجة الإنسان إلى الدين وعبادة الله فطريّة، واستشهد بقصّة «حيّ بن يقظان» لابن طفيل، ذلك الولد الذي نشأ وحيداً في البريّة وانتهى إلى الإيمان بالله، وقال: «هذه الحاجة تنبع من ضعف الإنسان (...) تأتيه الشدائد فتردّه إلى فطرته». يأتيه الإيمان بعد الكسر ولكن الكسر، كما حصل مع داروين، قد يذهب بإيمانه. أمّا أيّوب، الذي صمد على إيمانه قبل الهزيمة وخلالها وبعدها، فهو ظاهرة غير بشريّة، بمعنى أنْ لا عدلَ فيها ولا يحتملها غير أبطال الأساطير. وليس نموذجاً للعدالة الإلهيّة ولا قدوةً لحياةٍ تُشْتهى. وثوابه في النهاية يروّع أكثر ممّا يُطَمْئن. وإذا كان الإيمان ثمرة الخوف من الشدائد، فما الفرق بينه وبين الإرهاب؟
■ ■ ■
انوجد العالم من ثلاثة ملايين عام، وعاش فيه حتّى اليوم مئة مليار نسمة. لا أحد يعرف كيف كان الأوائل يُحسّون ويفكّرون حيال سرّ الوجود رغم أن ثمّة مؤشّرات نقشيّة وأثريّة أخرى تحكي عن التساؤل والقلق وعن أمنيات وتصوّرات. لا حاجة إلى القرائن للقول إن الإنسان كان كلّما كبر حجم دماغه وتعَمّق وجدانُه اشتدّت حاجته إلى الأجوبة، حاجته إلى تعييش السكون، إلى ملء الشغور وشعشعة الغياب. قبل أن يكون الإيمان لاهوتاً وطقوساً كان غريزة فينا كأنّها سابقة لنا. نسمة الحياة، ولو في الحيوان والنبات، أعجوبة حتّى للملحد. أعجوبة بمعنى اللامحسوس واللاظاهر لا بالمعنى اللاهوتي الأكاديمي. الألوهة ليست في التجلّي الخارجي لأنّ جذرها في الفكر. وسمّها ما شئت.
الطائرة، وكلّ مأساة، تعيد تحريك الأسئلة ذاتها: إذا كان فينا هذا الجذر الإلهيّ، لماذا تتهاوى أشجارنا؟
■ ■ ■
يعرف الإنسان في طيّات نفسه، وراء عصوره وإلى أمامها، خلف مظاهر العجز الخادعة، أنّه قادر يوماً ما على قهر ما يقهره. لذلك يتعذّب. يعذّبه الوقت المسفوح على طريق الانتظار.
■ ■ ■
أيّتها الأرواح العائمة فوق الموج، الهائمة في الرياح، الراقدة أو الصاحية، سلّمي علينا. لو كان للأحياء أرواح يعيرونك إيّاها لوهبوها وهباً. يتّكل الزمن على الزمن ليجعلنا ننسى فقيدنا عبر انشغالنا بصحّتنا، بما تبقّى لنا من العمر. لكنّه واهم بقدرته كما نحن واهمون به. لا ينسى المرء أن أمّه ماتت صبيّة حتّى لو أمسى هو عجوزاً، ويظلّ يحلم بردّها إلى الحياة.
هذا هو قرار الإنسان ضدّ الموت. هذا هو حلم الإله فيه ضدّ الآلهة التي خارجه.

أنسي الحاج

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...