«السنترال».. نافذة الرقّة إلى العالم

06-12-2016

«السنترال».. نافذة الرقّة إلى العالم

يفرض تنظيم «داعش» منذ العام 2014 سيطرته المطلقة على مدينة الرقة السورية. التنظيم الذي اتخذ السواد شعاراً له في رايته وزيّ مقاتليه، حوّل الرقة ثقباً مُظلماً ابتلع سكانها أو ما تبقى منهم وعزلهم عن العالم الخارجي، فما توفّره مساحات الرقة الواسعة من حرية لمقاتليه في التنقل والحركة، ساهم بالتأكيد في أن تصبح أكثر مناطق سيطرة التنظيم عزلةً.
ومما زاد من عزلة المدينة، ما تعرّض له قطاع الاتصالات من سرقةٍ وتدمير على مدار أربع سنوات من سيطرة المجموعات المسلّحة المتعاقبة عليها، فتعطّلت أبراج التغطية الخلوية، وأصبحت الهواتف الأرضية للاتصال الداخلي فقط، فقام البعض على إثر ذلك باستقدام أجهزةٍ من تركيا توفّر شبكة الإنترنت عبر الاتصال بقمر صناعي، واستثمرت هذه الأجهزة في أماكن درج الرقاويون على تسميتها (سنترالات).(عن الإنترنت)
تقول سعاد وهي مواطنة من ريف الرقة «قبل سنتين وفي موجة النزوح الكبيرة، غادر أهلي المدينة إلى محافظة أخرى وبقيت هنا مع زوجي، اعتدت التواصل معهم عن طريق السنترالات المنتشرة، لكن داعش منع الاتصالات ولم أعد قادرة على التواصل مع أحد».
والسنترال، عبارة عن محلٍ صغير لا يختلف عن كابينة الهاتف سوى أنه أوسع قليلاً، يستقبل المستخدمين لساعات محددة خلال النهار مقابل مبلغ مادي، وتتوزّع فيه مقاعد متلاصقة لا توفّر أيّ نوع من الخصوصية للمتصلين، وقد بقيت السنترالات الوسيلة الوحيدة للتواصل في المدينة التي نزفت سكانها حتى تقلّص عددهم إلى أقلّ من الثلث، إلى أن قام «داعش» بإغلاق السنترالات ومصادرة الأجهزة، ناهيك عن مشاهد الرعب اليومية من الإعدام في الشوارع والجلد والاعتقال الذي ينتهي بالموت.. بعدها، تصاعدت حالة الاحتقان ضد التنظيم الذي اضطر إلى إعادة فتح السنترالات والسماح باستخدام الإنترنت تحت إشرافه ورقابته.

وتضيف سعاد «في كل مرة أحاول الاطمئنان عن أهلي أو طمأنتهم، اضطر إلى المسير لساعة ونصف الساعة، حتى أصل إلى أقرب سنترال وأحرص على محو كل شيء عن جهازي قبل الخضوع للتفتيش من أجل إجراء اتصال أو إرسال رسالة».
وتتمثل هذه الرقابة بفرز عدد من عناصر التنظيم من الرجال والنساء، مهمتهم تفتيش أجهزة المتصلين والتدخل في المكالمات عبر السؤال عن هوية المتصل به والموضوع المراد الاتصال بشأنه.
وإمعاناً في الرقابة، فقد قلل التنظيم من عدد السنترالات في المدينة، وألزم أصحابها بحصر إشارة الشبكة داخلها فقط، أما الاتصالات الأرضية الداخلية، فلم تنجُ من رقابة التنظيم أيضاً، حيث يروي أحد موظفي الاتصالات السابقين الذي تمكّن من مغادرة الرقة مؤخراً، أنه قد أُجبر مع زملائه على تدريب عناصر من «داعش» على استخدام المقاسم والتنصّت على المكالمات وإعطاء كل «الكودات» والرموز الخاصة ببريد الرقة، ما أجبر الأهالي على استخدام الترميز في مكالماتهم تجنباً للاعتقال، فالسؤال الاعتيادي عن أحوال المناطق تحوّل إلى «شلون الجو عندكم في عجاج؟».
والعجاج تعني الغبار باللهجة المحلية، ليأتي الجواب «لا الجو صافي»، إن كانت الأوضاع الأمنية هادئة، أو «إي والله عجاج كثير»، إن كان الوضع الأمني سيئاً.
ولإحكام العزلة على سكان المدينة، منع التنظيم أجهزة التلفاز و «الستلايت»، وطالبهم بإتلافها علناً مغلفاً ذلك بقناع ديني غير قابل للنقاش في حرمته. أمّا البديل، فهو متابعة أجهزة التلفاز التي يضعها التنظيم في الشوارع في أماكن أسماها (نقاط إعلامية) لا تبث سوى أخبار التنظيم ومعاركه ودروساً دينية ضمن بث إعلامي يُسمّى (أخبار دولة الخلافة)، ما منح السنترالات دوراً آخر وهو استقاء الأخبار عما يحدث في العالم وحتى ما يحدث داخل الرقة نفسها.
يؤكد عبد الحكيم على ذلك بقوله «لا يُسمح لنا بمعرفة الأخبار، ونخشى حتى تداولها بيننا. ما نعرفه هو ما يريدوننا أن نعرفه فقط، منذ أيام علمت من ابن أخي المقيم في ألمانيا أن الأكراد يحاولون التقدم إلى الرقة من الشمال، صدّقني لم أكن أعرف ذلك».
أمّا مصطفى الذي لم تغادر عائلته الرقة ولا يجد من يتصل به خارجها، فيقول «كل بضعة أيام أقصد السنترال وأتصل بأرقام أخترعها أحياناً، أريد فقط أن أحسّ أن الحياة ما زالت تجري خارج هذا المكان، أريد أن أشمّ هواء غير هواء الرقة».
السنترال، وفي ظل العزلة التي يفرضها «داعش» على سكان المدينة، لم يعد مكاناً لإجراء اتصال هاتفي فقط، بل تحوّل إلى شقّ في جدار الزنزانة، يتلمس منه الرقّاويون الضوء ويمنحهم فسحةً من الأمل لاستذكار شذوذ الحالة التي فرضها عليهم التنظيم، فالقبّة السوداء التي يعيشون تحتها، لم يعد يخترقها سوى هذا الصوت القادم من الخارج والذي يحمل معه رائحة الحياة.

قتيبة صالح

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...