رحيل الشاعر غونسالو روخاس والروائي إرنستو ساباتو: وعي أميركا اللاتينية

03-05-2011

رحيل الشاعر غونسالو روخاس والروائي إرنستو ساباتو: وعي أميركا اللاتينية

على مدى أيام قليلة، فقدت الثقافة «الهيسبانية» (الأميركية اللاتينية الناطقة باللغة الإسبانية) اثنين من كبار كتابها، اللذين، عرفا – شعرا ونثرا – أن يخطا فرادة في الكتابة، عرفت صداها عند الكثير من كتّاب العالم. الأول، الشاعر الشيلي غونسالو روخاس الذي رحل الإثنين الماضي في سانتياغو (شيلي) عن عمر 93 عاما بعد أن كان أصيب في شهر شباط الماضي بانسداد في الشرايين، وفق ما أعلنه ابنه، ما جعله يحيا الأشهر الأخيرة من حياته في ظل وضع صحي صعب. أما الغائب الثاني فليس سوى الروائي الأرجنتيني الكبير إرنستو ساباتو، الذي رحل السبت الماضي عن عمر 99 عاما من جراء التهاب رئوي أصيب به مؤخرا.غونسالو روخاس
ثمة الكثير من الأشياء المشتركة بين الكاتبين، إذ عرفا هذا العمر المديد ما أتاح لهما اجتياز القرن العشرين بكل ما حمل من انزياحات وانقلابات، على اختلاف أنواعها. كما عرفا المنفى، الأول في عهد حكم بيرون، والثاني تحت حكم بينوشيه، إذ جابها الدكتاتورية على مختلف أنواعها، ما أتاح لأدبهما أن ينمو في ظلّ هذه الإنسانوية التي بحثا عنها، حتى لحظات الحياة الأخيرة. روخاس ولد غونسالو روخاس العام 1917 في مرفأ ليبو، الذي يقع على بعد 500 كلم إلى الجنوب من العاصمة سانتياغو. كان الابن السابع لأحد عمال المناجم هناك، وكانت أولى محاولاته في الكتابة في مجلة أدبية. انتمى في بداية مسيرته الأدبية إلى الجيل الذي أُطلق عليه «جيل 1938» الذي وسمته سوريالية كبيرة، بيد أنه ابتعد عنها، ليخطّ دربه الشعري المتفرد، ما جعله واحدا من أشهر شعراء أميركا اللاتينية، على الرغم من أن هذا الخط، يبدو امتدادا للتيار الشعري الذي أبدعه شاعر البيرو الكبير سيزار باييخو، الذي مارس تأثيرا وسحرا على غالبية شعراء أميركا اللاتينية. هذا السحر، الذي وصفه شاعر شيليّ راحل آخر، هو روبرتو بولانيو، بالقول: «ما يتبقى لنا من ذلك كلّه، هذا الإحساس الغريب بأن الأدب كان على مستوى الواقع». هذا السوريالية التي تشهد عليها إحدى أولى قصائده التي يقول فيها: «أرى نهرا سريعا مثل سِكينة، يقطع/ ليبو إلى حيّين من العطر، أسمعه/ أحسه، أداعبه، أجتازه مثل قبلة طفل، كما/ حين الرياح والأمطار تهدهدني وحين أشعر بها/ مثل شريان زائد بين صدغي وأذني».
بعد هذه المرحلة، ذهب روخاس عميقا إلى اختيار موضوعاته الأثيرة، ليكتب عن بؤس الإنسان وفقره، كما نضاله ضد الموت والإنسان، وهي موضوعات جعلته يحضر كواحد من أكثر الشعراء المحترمين في تلك القارة.
خلال حكم أللندي، عمل روخاس في السلك الدبلوماسي، فمثل بلاده في الصين ومن ثم في كوبا. بيد أن انقلاب بينوشيه جعله يرحل إلى «ألمانيا الديموقراطية» ومن ثم إلى فنزويلا، والمكسيك، حيث درّس في العديد من الجامعات هناك، ولم يعد إلى بلاده إلى في العام 1994. إرنستو ساباتو
حاز روخاس العديد من الجوائز الأدبية المهمة، لعل أبرزها جائزة ثربانتس العام 2003، وهي التي تعتبر أكبر جائزة أدبية في العالم «الهيسباني»، كما حاز جائزة الملكة صوفيا في اسبانيا (1992)، وجائزة أوكتافيو باث في المكسيك (1998). إرنستو ساباتو ثمة سوريالية أيضا، عرفها إرنستو ساباتو في بداية حياته، حين كان يعيش في باريس في ثلاثينيات القرن الماضي، إذ كان يعمل في معهد كوري. هذه السوريالية هي التي دفعته إلى اختيار الأدب على الرغم من أنه حاز دكتوراه في علم الفيزياء. لكن على خلاف روخاس، لم يتخل عن هذه الفكرة (أو هذا التيار)، بل جمعها بالوجودية، ليؤلف هذين القطبين، اللذين حركا كلّ عمله الأدبي.
ولد ساباتو في بوينس أيرس في 24 حزيران من العام 1911، وبعد نضال قصير في الحزب الشيوعي، ابتعد عن الستالينية، تحت تأثير الأفكار الفرنسية، حيث زار تلك البلاد للمرة الأولى العام 1935. هذه المدينة التي عشقها، عاد إليها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
قليلة هي الروايات التي كتبها ساباتو (ترجمت كلّها إلى العربية)، لكن ذلك لم يمنعه من تبوّء مكانة يقول عنها الجميع إنها جعلته واحدا من كبار الكتّاب في أميركا اللاتينية. صدرت روايته الأولى «النفق» العام 1948، والثانية «أبطال وقبور» عام 1961، والثالثة «ملاك القبور» في 1974.
المفهوم الوجودي، حاضر بقوة في رواية ساباتو الأولى «النفق»، التي يعالج فيها «دراما الغيرة». لكنها أيضا، تشكل تأملا عميقا حول توحد الفنان كما حول عدم القدرة على التحاور مع شخصيته التي لا تفهم العالم المعاصر. لكن بعيدا عن ذلك، تأتي الرواية لتموضع هذه العلاقة الآسرة بين الكاتب والكتابة التي تشكل شغفه العاشق، وإن كانت كتابة صافية وقاسية في الوقت عينه. نفق طويل، يقودنا إلى «ما وراء الخير والشر» لنصل في نهايته إلى دواخل قلوبنا.
من داخل زنزانته، يكتب الرسام خوان بابلو كاستيل اعترافاته حول الجريمة التي ارتكبها: لقد قتل ماريا ايريبارن هنتر، وهي امرأة كان التقى بها في «معرض الربيع» حيث عرض بعض لوحاته. خلال العرض، لاحظ خوان الاهتمام الذي ابدته هذه الشابة بواحدة من لوحاته. فيقترب منها في أحد شوارع بوينس أيرس، لتصبح عشيقته. إلا أنها تقرر الهروب منه، من دون توقف، ليغرق في «نفق حبه» ووحدته وغيرته، لغاية أن يجد «حلا» بقتلها.
حين صدورها عام 1948، حياها كل من ألبير كامو وغراهام غرين، ما أعطى الكاتب شهرة كبيرة، جعلته يتبوأ هذه المكانة منذ الرواية الأولى.
هذه المكانة تأكدت، عبر الرواية التالية «أبطال وقبور»، التي اعتبرت إحدى روائع الأدب، لا في أميركا اللاتينية فقط، بل في العالم بأسره. رواية كبيرة، تحمل الكثير من الضياء الخاص، الذي أتاحت لها أن تكون في هذه المكانة. ويلجأ فيها الكاتب إلى «مزيج متفجر» ما بين «الرومنسية الغوطية» والغنائية الوجدانية المعاصرة، عبر نفحة من الفانتازية التي تجتازها من أولها إلى آخرها.
الحب أيضا موجود في هذه الرواية، ذلك الحب الذي يجمع ويفرق كل من مارتن دل كاستيو – الشاب الفاقد لأي وهم – وأليخندرا، الشابة المعذبة. هي أيضا قص حنين لمدينة، لبوينس أيرس. مثلما هي قصة «جماعة» ما: العميان، التي يحاول أحدهم الكشف عن أسرارها وإن كلفه ذلك حياته.
هي بالفعل، من تلك «الروايات الشاملة»، التي وصفها «غرومبفريتش» بأنها: «تنتمي على أكثر الأنواع شبهة: شبهة تلك الروايات التي تنتهي منها في الساعة الرابعة صباحا». يمارس ساباتو في روايته هذه، لعبة أدبية «قديمة» حيث يبدل بطريقته الخاصة، كل شوارع بوينس أيرس، كما «أحشاؤها» وهندستها، ليقترح فيها تأويلا خاصا للأرجنتين، ولماضيها المضطرب ولحاضرها القلق. من هنا، لا عجب في أن يصبح الفصل المعنون «تقرير حول العميان» من أكثر النصوص الأدبية التي قُرئت في أميركا اللاتينية وتمّ التعليق عليها.
هذه الأجواء القابضة، نعود لنجدها في روايته اللاحقة «ملاك الظلمات»، إذ تبدو وكأنها تكملة لسابقتها لكنه يضع فوق خشبة أحداثها المؤلف نفسه، الذي يبدو بالغ التأثير على الرأي العام في تحقيقاته وتناقضاته. من هنا، ربما، ونظرا لهذه «السلطة المعنوية» التي يتمتع بها، عينته حكومة راؤول ألفونسين على رأس اللجنة الوطنية المنوط بها عمليات التحقيق حول الذين اختفوا خلال عهد دكتاتورية آل بيرون، وقد جاء التقرير الذي كتبه وقدمه بعنوان «مطلقا»، وثيقة مهمة في الاتهامات التي رفعت بوجه مسؤولي الطغمة الحاكمة. إذ أشار، في مقدمته، إلى تضاعف عمليات التفجير والقتل التي ارتكبها ثوار اليسار المتطرف كما مجموعات اليمين المتطرف المرتبطة بالشرطة المحلية خلال حكم بيرون (1973 – 1976). التطلب طيلة حياته، بقي ساباتو ملتزما، بالمعنى السياسي للكلمة. هذا الالتزام، أبقاه حذرا تجاه البيرونية، على الرغم من أنه وقف في وجه من قام بالانقلاب العسكري الذي قلب نظام الحكم البيروني. من هنا، لا عجب، في أن يبقى هدفا للبيرونيين ومن ثم هدفا لمحازبي كريشنر الذين أتوا إلى سدة الحكم خلفا لهم.
كلّ عمل ساباتو يتحرك في دائرة من الإحساس بالمأزق تجاه الفكرة الوضعية وتجاه قدرة الإنسان على اقتراف «الذي لا يوصف» باسم العقل والمنطق. هذا المأزق، دفعه ايضا لأن يكون كثير التطلب، في الكتابة. تطلب وصفه الجميع بأنه يتخطى حدود العقل، ما منعه من كتابة الروايات مجددا. أضف إلى ذلك مئات الصفحات التي مزقها. من دون شك، يعود ذلك أيضا إلى شخصيته الصعبة، وفق المقربين إليه، الذين اعتبروا أن هذه القسوة، بادية على وجهه، ويضيفون: «لقد جسد، في أدبه كما في حياته كمواطن، وعي الأرجنتين الأليم».

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...