هل الدين عائق للتقدم؟

15-02-2010

هل الدين عائق للتقدم؟

لو قُدّر لمؤرخي الفلسفة في الغرب الاطلاع على فكر أبي العلاء المعري – في حينه – لاعتبروا صاحب اللزوميات أول ناقد عقلاني للفكر الديني التوحيدي، ولاسيما أن أول ذكر للعقلانية باللغة الانكليزية Rationalism ورد في قاموس اكسفورد العام 1531م. وهذا يعني أن العرب سبقوا الغرب في النقد العقلاني للدين، غير أن أمثال المعري كانوا حالات نادرة، فلم تقم مدارس للفكر العقلاني عند العرب، إذ حال دون ذلك فقهاء السلاطين والجهلة من العلماء الذين هاجموا المعري واضرابه، ولعنوا كل مجددي الفكر، وعلى راسهم ابن رشد. وبالرجوع الى الفكر العربي، الى الف عام مضت، نجد ان ابا العلاء المعري المتوفى السنة 1057م تقدم المفكرين الغربيين عندما قام بتصنيف الناس حيثما كانوا الى عقلانيين غير متدينين او متدينين غير عقلانيين، فقال:
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت
ويهود حارت والمجوس مضلّله
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
دين وآخر ديّن لا عقل له
وكتب الفيلسوف والرياضي الانكليزي برتراند راسل ان شروح ابن رشد المهمة لفلسفة ارسطو، مع بعض الاضافات الاصيلة من لدنه، اكسبته عدداً من المهتمين بفكره من اساتذة الجامعات والمثقفين في اوروبا القرون الوسطى، ولاسيما في اسبانيا وشمالي ايطاليا وفرنسا وبريطانيا، وقد اهتم هؤلاء بأفكاره حتى اطلقوا عليه اسماً لاتينياً هو Averroes، واعتبر المفكر الثاني بعد ارسطو غير أن المتعصبين في اسبانيا والحاقدين أحرقوا مؤلفاته.
وقد بيّن المؤلف في هذا الكتاب كم عارض رجال الدين آراء ومقالات العلماء في ما يتعلق بالسحر والسحرة ووجود الشياطين والجن والعفاريت والارواح الشريرة، وشرح أيضاً ما قامت به المؤسسة الدينية من اضطهاد وظلم للذين خالفوا او عارضوا تعاليمها، حتى إن بعض المراسيم والقوانين الكنسية قد شرّعت التعذيب السنة 1252م، وأن بعض البابوات الاجلاء اجازوا حرق المفكرين المارقين الرافضين لتعاليم الكنيسة ومعتقداتها، كما اصدروا مراسيم لحرق اصحاب البدع، لأن الكنيسة كانت مقيدة بوصية الله "لا تقتل" و"لا تسفك دماً" ولذا وجدوا التحريق مخرجاً من ذلك المنع.
يبيّن المؤلف أن المؤسسة الدينية لا تعارض العلم والتقدم العلمي فقط، وانما تقف عائقاً أمام هذا التقدم، وتنتهك شرعة حقوق الانسان بمعارضتها القراءة والبحث والنشر والتأليف والنقد، ولاسيما ان سلطة المجامع المقدسة هي سلطة عليا غير خاضعة لسلطة الدولة او الشعب. وقد أيد القديس توما الأكويني، وهو من أهم اللاهوتيين وأكثرهم علماً، كل ما في عصره من خرافات، كما أيد عدالة الاضطهاد الذي كانت تنزله الكنيسة بالمارقين. وكان يقول إن الله هو مصدر كل سلطة سياسية وإن الحكم الملكي المطلق هو النظام الأفضل، وان العبودية وملكية الاقطاعي للأرض ومن عليها من فلاحين وعاملين هي نظم ضرورية لبني البشر. وقد ذكر في كتاباته أيضاً ان العبيد والحيوانات ليسوا أعضاء في المجتمع المدني، وأن على الملوك الخضوع لرجال الدين.
والأدلة التاريخية الى ان الدين في مفهومه الخاطئ، عائق للحرية والتقدم كثيرة، يذكر منها ان الرئيس الاميركي وليم ماكنلي اعلن العام 1898 أن الله أمره بالسيطرة على جزر الفيليبين لتحضير سكانها وضمان الحرية والآخرة الصالحة لهم، بدعوتهم الى اعتناق الديانة المسيحية. وكذلك كان شأن الرئيس المتدين جورج بوش الابن الذي أعلن السنة 2003 أن الله أمره باحتلال العراق وافغانستان لفرض الحرية والديموقراطية على شعوبهما، وكانت النتيجة المفجعة تدمير وتقتيل وتشريد الآلاف واشعال الفتن والحروب في العالمين العربي والاسلامي ونهب ثرواتهما.
فهل كان الدين عائقاً للتقدم؟ لا ينكر أن هناك عدداً كبيراً من الانسانيين الاتقياء الأوفياء والعلماء بين رجال الدين في كل قطر، وفي كل الاديان، وان منهم من قاد او آزر او شارك في حركات التحرر الوطني، والتعاون الانساني، والتقدم العلمي والاجتماعي، ومن أبرزهم رئيس اساقفة كنتربري في بريطانيا الذي أعلن في غير مناسبة ان من يخشى نتائج اي دراسة فلسفية او علمية او تاريخية يرتكب جريمة كبرى ضد الدين، لأنه يجب ان نرحب ترحيباً حاراً بكل ما يلقي ضوءاً جديداً على مسائل حياتنا اليومية، لأن المعرفة وحدها، هي التي تحرر الانسان وتجعله سيد نفسه.
كتاب تحسن قراءته من كل المهتمين بقضايا الدين والدنيا لأنه يلقي اضواء تاريخية حقيقية على مسائل من صميم الحياة الانسانية. فالمعرفة مفيدة ضد الجهل والتخلف، وهي الطريق الصحيح لبناء مجتمع انساني يشارك فيه الجميع في تأسيس صرح المعارف والعلوم التي اثبتت التجارب انها وحدها التي نهضت وتنهض بالشعوب على مستوى العالم بأسره، وتجعل لديها وعياً بحقيقة الانسان المعاصر والتزاماً لقضاياه.
كتاب يحاول نقض الفكرة القائلة "إن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، لأنها فكرة بعيدة من الواقع والتاريخ، ليبيّن أن الشرق والغرب يلتقيان من خلال الرسالة الانسانية الثقافية، حين اعتبر مؤلفه ان الانسان الحر المثقف هو قبل كل تصنيف انسان عاقل، محب للقيم الانسانية الصحيحة التي تجمع الانسانية السوية في الشرق والغرب وتنشئ وتبني حياة يتحد فيها الجميع ويشاركون في بناء مجتمع انساني واعد راق، وهذه من دون شك رسالة الدين الحق التي حاد عنها المتعصبون من رجال الدين والدنيا.

 

نجيب البعيني    
(تأليف شارلز ت. غورهام، تعريب ربى محمد الصلح، تقديم مكرم سعيد حنوش، صادر عن دار البيروني في بيروت، الطبعة الأولى 2010.) 

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...