مياه عين الفيجة

25-08-2007

مياه عين الفيجة

بقي في مقبرة الباب الصغير ناظم باشا، الوالي الذي يذكره أهل دمشق بالخير، لأنه جمع لجنة من أهل دمشق لتوصل إليها مياه الفيجة. يقول علي الطنطاوي: «وأما الماء الذي يجري اليوم إلى البيوت الدمشقية فقد جرّ إليها في نفق وسط الجبل، وعملت على ذلك لجنة من خيار الشاميين كان على رأسها لطفي الحفار». استمر العمل في المشروع من سنة 1922 إلى تدشينه سنة 1932.

كان المستثمرون الفرنسيون يومذاك يسعون إلى امتياز هذا المشروع. فدعا لطفي الحفار غرفة تجارة دمشق وتحدث عن المشروع، واقترح دعوة وجوه المدينة لتأسيس شركة مساهمة. طلبت غرفة التجارة من وزارة الأشغال العامة رئيس مهندسيها وكلّفته بدراسة المشروع ونفقاته التقريبية. وقدرت الكلفة بمئة وخمسين ألف ليرة عثمانية ذهبية. ‏

استشارت اللجنة فارس الخوري. فعرضت له مشروع الشركة المساهمة، وطلبت رأيه القانوني. فأثنى على تأسيس الشركة. لكنه قال: أخشى أن ينقلب هذا المشروع لصالح أموال أجنبية تشتري أسهمه. اقتراحي حصر الفائدة في أهالي مدينة دمشق، بربط ملكية الماء بملكية العقار، لايجوز بيعه ولاتحويله دون بيع العقار أو تحويله لمالك آخر. وبذلك نضمن بقاء هذا المشروع وطنياً أهلياً. وافق الحاضرون، وكلّفت لجنة تحضيرية من غرفة تجارة دمشق أمينها لطفي الحفار بمتابعة الترخيص في دوائر المفوضية الفرنسية في بيروت ودمشق، وأخذ الامتياز باسم بلدية دمشق. كان المفوض السامي يومذاك الجنرال ويغاند. وكان الحفار يعرفه من خلال اللجنة الاقتصادية التي تجمع «البلاد السورية الداخلية والساحلية» ويمثل الحفار فيها غرفة تجارة دمشق. وكانت هذه اللجنة تجتمع في آخر كل شهر برئاسة ويغاند. طلب الحفار موافقة ويغاند على مشروع مياه الفيجة فتردد، لأن شركتين فرنسيتين طلبتا الامتياز. ‏

اتصل مسؤول فرنسي بالحفار وبرئيس غرفة التجارة عارف الحلبوني، وطلب منهما الاتصال بشركة مياه بيروت. وكان العرض لكل منهما لقاء التراجع عن طلب الامتياز: أسهماً قيمتها عشرون ألف ليرة عثمانية ذهبية، وأرباحاً سنوية لهما، كعضوين دائمين في مجلس الإدارة في تلك الشركة الأجنبية، لاتقل عن خمسمئة ليرة عثمانية ذهبية. تظاهرا بقبول الرشوة. وفي موعد اجتماع اللجنة الاقتصادية في بيروت مع الجنرال ويغاند طلب الحفار من ويغاند أن يبحث معه مشروع مياه الفيجة بعد العشاء. وبيّن ماقُدم له وللحلبوني، وقال: «لايمكن أن نطأطئ رؤوسنا لمثل هذه المغريات والمنافع الشخصية»، وإنه مؤمن بفائدة المشروع الأهلي لمدينة دمشق. فقدر ويغاند أمانته وإخلاصه، ووقع له على المشروع. ‏

جرى اكتتاب أهل دمشق على مياه عين الفيجة، وكان القسط الأول للفرد ثلاثين ليرة عثمانية ذهباً للمتر الواحد. وتخطى العمل الصعوبات المادية والسياسية. في 28 تشرين الثاني سنة 1930 صعد الحفار إلى حي المهاجرين، ورأى المياه تتدفق في الخزان الجديد الكبير فكاد يبكي من الفرح. واستضافه الطبيب حمدي الخياط في بيته في الجادة الثامنة، فرأى الماء يفور من النافورة في بحرة البيت، فكتب في مذكراته: «هذه الساعة من أسعد أوقات حياتي». واحتفل بتدشين وصول مياه عين الفيجة إلى بيوت دمشق بنوافير في المرجة، وزينت المدينة. وعرضت الكلفة والنفقات بشفافية مطلقة. ‏

بدأ تشييد بناء مؤسسة عين الفيجة سنة 1937 ودشن سنة 1942. وأراده الحفار أثراً معمارياً عربياً. خططه المهندس عبد الرزاق ملص، ونفذ زخرفته العربية محمد علي الخياط، الخبير في النجارة وفن الحفر والتطعيم والترصيع. وكان هذا أول مشروع مستمد من الفن العربي يشرف على تنفيذه. كُلف بعده بزخرفة المجلس النيابي، ثم بتركيب القاعة الشامية في المتحف الوطني بدمشق. ‏

دفعنا إلى استعادة قصة مياه عين الفيجة مشروع تعليب هذه المياه المشهورة بنقائها. فتساءلنا عن حقوق أهل دمشق الذين اشتروها صافية فصارت تخلط لهم بمياه الآبار. وهل تفيض عن حاجتهم، وهم يعانون من التقنين، أم يفترض أن نعترف بأن طاقة حوض دمشق المائي لاتجيز توسع دمشق وحشو ضواحيها، كالمعضمية، بأبنية ترى الماء في ثلاثة أسابيع يوما!.

د. ناديا خوست

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...