ملامح الجيل الأميركي الحاكم

06-08-2006

ملامح الجيل الأميركي الحاكم

هل يمكن رسم صورة لملامح الجيل الأميركي الحاكم تساعدنا على فهم نظرته لنفسه ولأميركا وللعالم ومن ثم سياساته؟

سؤال صعب يجب الاقتراب منه بحرص حتى لا يقع الكاتب في مغبة التعميم أو تغليب الانطباعات الشخصية على التحليل الموضوعي.

لذا رأينا أن نعتمد في هذا المقال منهجا يتتبع أراء عدد من الكتابات الأميركية المعنية بالقضية الهامة على أمل أن تقودنا تدريجيا إلى ملامح الصورة المنشودة.

الدراسة الأولى الواجب الإشارة إليها هي كتاب "عقيدة جورج دبليو بوش" للكاتب الأميركي ستيفين مانسفيلد الصادر في عام 2004، وهو كتاب يسعى إلى تحديد معالم شخصية الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش نفسه والأحداث الفارقة في حياته.

لذا يتحدث مانسفيلد عن جيل بوش وهو الجيل الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية، ويرى مانسفيلد أن لحظة ولادة هذا الجيل ميزته، إذ جعلته جيلا ولد ليجد بلده يقود العالم.

وهو جيل لم يمر بتحديات موجعة كالكساد الكبير الذي ضرب أميركا والعالم في نهاية العشرينات أو الحروب العالمية التي هزت أوربا والعالم، جيل مرفه ولد وسط وفرة هائلة من الموارد، ووسط أفكار لا تضع حدودا لطموحاته.

لذا يتعجب الكاتب البريطاني أناتول ليفين، مؤلف كتاب "تشريح القومية الأميركية" الصادر في عام 2005 من مشاعر الأميركيين الوطنية التي تتميز بدرجة عالية من الثقة في النفس ورفض مراجعة الذات والمبالغة في الوطنية مقارنة بشعوب الدول الغربية والمتقدمة.

وهذه الظاهرة أدهشت ليفين البريطاني ودفعته للبحث عن أسبابها، ومن بين الأسباب التي رصدها صغر عمر أميركا وعدم مرورها بحروب أو أزمات كبرى تدفع شعبها لمراجعة نظرته لذاته ولبلده وللعالم.

ويقول البعض إن الستينات مثلت لحظة اضطر فيها الشعب الأميركي لإعادة التفكير في ذاته وفي مؤسساته الكبرى بسبب فيتنام وبسبب انتشار الحركات الليبرالية.

وهذه الفكرة يركز عليها كتاب "النزعة العسكرية الأميركية الجديدة" الصادر عام 2005 لآندرو باسفيتش، أستاذ العلاقات الدولية الأميركي الذي يسعى لتتبع أسباب تراجع عقدة فيتنام وتلاشيها تدريجيا من عقل المواطن وصانع القرار الأميركي، مما أوصل أميركا تدريجيا لغزو العراق.

المثير هنا أن باسيفيتش لا يتهم مجموعة أو مؤسسة أو فئة معينة من المجتمع الأميركي، فهو يرى أن عودة النزعة العسكرية الأميركية هي نتاج لجهود جماعات عديدة بداية من السينما الأميركية التي مجدت الجنود والعنف، ومرورا بقادة الجيش وسياستهم التي ركزت على مفهوم الحروب السريعة النظيفة وحولت الحرب إلى عمليات جراحية تشاهد عبر شاشات التلفاز، وبرؤساء أميركيين ليبراليين مثل بل كلينتون وجمهوريين مثل رونالد ريجان مجدوا الجيش، وانتهاء بالجماعات الدينية التي جعلت من الجيش مصدرا للوطنية ونموذجا للأخلاق داخل المجتمع الأميركي.

كما يشير باسيفيتش إلى دور بعض النخب المسيطرة على تشكيل وصناعة السياسة الخارجية الأميركية في الفترة الحالية وعلى رأسها المحافظون الجدد، حيث يخصص باسيفيتش الفصل الثالث من كتابه للحديث عنهم وعن خصائصهم الفكرية والحركية.

وهنا يظهر مفهوم الجيل من جديد، حيث يرى باسيفيتش أن فهم أفكار وسياسات المحافظين الجدد يتطلب النظر إليهم على أنهم جيلان وليسوا جيلا واحدا.

الجيل الأول هو الجيل المؤسس ويضم أشخاصا مثل إيرفينج كريستول الملقب بالأب الروحي للمحافظين الجدد، ونورمان بودهورتز المحرر السابق لمجلة كومنتاري، وهو جيل تبلور في ستينيات القرن العشرين وجاءت أفكاره كرد فعل على الظروف التي مر بها العالم في النصف الأول من القرن العشرين، وظل يؤمن دائما بأن للقوة حدودا.

أما الجيل الثاني فقد ترعرع في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين وهو يضم أولاد الجيل الأول ومن هم في أعمارهم.

وهذا الجيل صعد للسلطة في فترة أصبحت فيها أميركا القطب الأوحد بالعالم، مما جعل هذا الجيل مشغولا بفكرة استخدام القوة الأميركية لإعادة تشكيل العالم على صورة ترضيه، ناسين تحذير آبائهم من المبالغة في استخدام القوة.

الفكرة السابقة ترد بشكل مشابه في كتاب "ثورة المحافظين الجدد" الصادر في العام الماضي للمؤرخ اليهودي الأميركي موري فريدمان، ويشير فيه إلى أن الجيل الأول من المحافظين الجدد نشأ في أحياء نيويورك الفقيرة لآباء مهاجرين يشعرون بالغربة في أميركا بعد أن هاجروا إليها هاربين من التمييز الذي تعرضوا له في أوروبا.

لذا آمن أبناء هذا الجيل بأن لأميركا دورا في حماية العالم من شرور النازية والشيوعية والأيديولوجيات المتطرفة، ولكنهم ظلوا جيلا محافظا يخشى الإفراط في استخدام القوة كما يخشى المشاريع الكبرى والأهداف البعيدة التي يصعب تحقيقها.

أما أبناء الجيل الثاني فقد ولدوا بعد أن أصبح آباؤهم جزءا من النخبة السياسية الأميركية المسيطرة، وأصبحوا هم الأبناء المدللين لتلك النخبة واسعة النفوذ، واقتصرت مهامهم على البحث في سبل استخدام الثروة والقوة والنفوذ التي بناها الجيل الأول.

ولعل هذا السبب هو أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت أحد أنبغ تلاميذ الجيل الأول من المحافظين الجدد -وهو الكاتب الأميركي الشهير فرانسيس فوكوياما- إلى الخروج عن الجيل الثاني وإعلان نقده لهم في كتابه الصادر أوائل العام الحالي بعنوان "أميركا على مفترق طرق".

وقد خصص فوكوياما أجزاء كبيرة من هذا الكتاب للحديث عن أفكار المحافظين الجدد ومعانيها الحقيقية ولإعلان أسباب نقده لأفكار وسياسات الجيل الراهن من المحافظين الجدد باعتبارها انحرافا عن أفكار آبائهم الأصلية.

وعلى رأس الأفكار المنسية فكرة "الهندسة الاجتماعية" التي رفضها الجيل الأول وتبناها الجيل الثاني، حيث يرى فوكوياما أن الجيل الأول من المحافظين الجدد الذي رفض النظم الشمولية ظل دائما يخشى من تدخل الدولة في مشاريع كبرى لإعادة بناء المجتمعات في الداخل أو الخارج.

أما الجيل الثاني فلم يدرك هذه الحقيقة كما ظهر في حرب العراق التي شنها الجيل الثاني معتقدا أنه قادر على إعادة تشكيل العراق -بل والشرق الأوسط- على صورة ترضيه.

تجب هنا الإشارة إلى أن المحافظين الجدد ليسوا الفئة الأميركية الوحيدة التي تحكم أميركا حاليا، إذ تتسع النخبة الأميركية الحاكمة لثلاث فئات أخرى إضافية على الأقل يحددها كتاب "حكم أميركا" تاريخ القوة والثروة في بلد ديمقراطي".

وهذا الكتاب الصادر في العام الماضي عن مطابع جامعة هارفرد الأميركية لعدة مؤلفين، يرى فيه مايكل ليند الباحث في معهد نيو أميركان فاونديشين أن النخبة الأميركية الحاكمة في أميركا حاليا تتكون من أربع فئات رئيسية تضم أثرياء الجنوب الأميركي، وقيادات اليمين الأميركي المتدين، وقيادات الحزب الجمهوري، والمحافظين الجدد.

ويقول ليند إن التحالف بين الجماعات الأربع بدأ في التبلور منذ السبعينيات كرد فعل على انتشار الحركات الليبرالية الجماهيرية في المجتمع الأميركي خاصة في أوساط الشباب خلال الخمسينيات والستينيات.

وهذه الحركات التي شنت هجوما واسعا على مختلف فئات المجتمع الأميركي التقليدية كالدين والأسرة والثقافة الأميركية الغربية أشعرت الجماعات الأميركية المحافظة بخطر كبير يهددها جعلها تشن ما يسميه الكتاب بالثورة المضادة لاستعادة مقاليد السيطرة داخل المجتمع الأميركي ومؤسساته الحاكمة.

وقد عارض أثرياء الجنوب مطالبة الليبرالية بالحقوق والحريات المدنية، ورفض رجال الدين هجوم الليبراليين على الدين، وعارض المحافظون الجدد موقف الليبرالية "المتسامح" تجاه الاشتراكية وهجومهم على القيم والمؤسسات السياسية الأميركية.

أما الحزب الجمهوري فكان بمثابة الوعاء السياسي لالتقاء تلك الجماعات لإعادة رسم الخريطة السياسية لأميركا.

كما يذكر ليند أن المحافظين الجدد تميزوا بكونهم جزءا من نخب مساندة لإسرائيل صعدت في دوائر صنع السياسة الخارجية الأميركية بشكل ملحوظ خلال النصف الثاني من القرن العشرين، مما جعلها تحول نظر أميركا ومصالحها الإستراتيجية إلى أجزاء مختلفة من العالم يأتي على رأسها الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.

في حين أن النخب الأميركية الأنجلوسكسونية التي سيطرت على السياسة الخارجية الأميركية في الفترات السابقة كانت ترى أن أوروبا وأميركا اللاتينية هي الساحات الرئيسية للسياسة الخارجية الأميركية.

الإفراط في القوة وتآكل الديمقراطية
تقودنا الأفكار السابقة إلى طرح سؤال هام حول ما إذا كانت ملامح الجيل الأميركي الحاكم السابق شرحها تنطبق على موقفه من العالم ومن السياسة الخارجية الأميركية فقط، أم أنها تنطبق أيضا على نظرته للسياسة الداخلية الأميركية؟

قد نجد الإجابة على السؤال السابق في دراستين هامتين، أولاهما كتاب "أمة اليمين: قوة المحافظين في أميركا" الصادر في عام 2004 للصحفيين البريطانيين إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت، الذي يعد بمثابة موسوعة متميزة عن أسباب صعود ونمو اليمين الأميركي.

المثير هنا هو أن الكتاب يشرح أسباب قوة اليمين وجماعاته المختلفة وكيف أصبح اليمين يتمتع بالسيطرة على الكونجرس بمجلسيه وبالسيطرة على البيت الأبيض وعلى عدد كبير من مراكز الأبحاث الأميركية بواشنطن وعلى عدد متزايد من وسائل الإعلام.

ويطرح المؤلفان سؤالا هاما حول حدود هذه القوة والعوامل التي قد تقود إلى تقويضها، ثم يجيبان على السؤال السابق إجابة مفاجئة، يريان فيها أن القوة ذاتها قد تمثل عاملا رئيسيا لتراجع اليمين في أميركا إذا أفرطت النخبة الحاكمة في تقدير واستخدام قوتها.

الكتاب الثاني هو كتاب "الثورة الديمقراطية وتآكل الديمقراطية الأميركية" الصادر في العام الماضي لأكاديميين أميركيين هما جاكوب هاكر وبول بيرسون، ويكاد يؤكد أن النخبة الأميركية الحاكمة وقعت في الخطأ السابق في تعاملها مع الداخل قبل الخارج.

إذ يركز المؤلفان على الداخل بالأساس ويؤكدان أن الجيل المسيطر على مؤسسات اليمين الأميركية والحزب الجمهوري بالغ في استخدام قوته بشكل أضر بالديمقراطية الأميركية ذاتها.

كما بالغ هذا الجيل في الاعتماد على قواعده الجماهيرية المتشددة دينيا وأيدلوجيا، وبالغ في إسكات الأصوات المعارضة له داخل الحزب الجمهوري ذاته قبل الحزب الديمقراطي.

وقد بالغ كذلك في إضعاف رقابة المؤسسات السياسية الأميركية على سياساته الجديدة كخفض الضرائب لمصلحة الأثرياء، كما بالغ في إهمال المهادنة والتفاوض، بل بالغ أحيانا في إهمال القانون الأميركي ذاته كما ظهر في فضائح الإدارة وبعض رموز الجمهوريين في الكونجرس التي تكررت في الشهور الأخيرة.
أخيرا بقي لنا أن نوضح أن الرسم الموضوعي لملامح الجيل الأميركي الحاكم يتطلب الإشارة إلى وجود أصوات معارضة داخل الحزب الجمهوري واليمين الأميركي لسلطة وتصرفات هذا الجيل وهي أصوات في ازدياد خاصة بعد أخطاء الإدارة الأميركية في العراق.

كما تجب الإشارة إلى أن المقال الراهن ركز بالأساس على النخب اليمينية الحاكمة ولم يتناول النخب اليسارية التي تستحق دورها من الاهتمام على الرغم من أنها لا تحكم في الفترة الحالية وإن كانت تمتلك قدرا كبيرا من النفوذ والسيطرة على الرأي العام والسياسة بأميركا يستحق الاهتمام والدراسة المتعمقة.

علاء بيومي

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...