مارون نقاش أو إشكالية الأوبرا في نشأة المسرحية العربية

04-11-2011

مارون نقاش أو إشكالية الأوبرا في نشأة المسرحية العربية

لست ميالاً إلى المبالغة ولا إلى المبايعة. غير أن الكتاب الجديد يحمل رؤية أخرى مغايرة تماماً لمفهوم التواتر حول تجربة مارون نقاش في المسرح اللبناني. ليست تجربة النقاش تجربة. بل بداية. غلفة البداية طبائع الفلسفة. لأن النقاش في استجلابه المسرح من أوروبا أراد أن يفلسف حضور المسرح في لبنان. لا أن يثبت حضوره. يؤكد ذلك: موت تجربة النقاش في خلال فترة قياسية، إثر إعلان الرجل وصول التجربة إلى انسداد أفقها الاجتماعي بعد ثلاث مسرحيات فقط لا غير بلغة الاقتصاد. تم هجران المسرح هنا، لا مغادرته. ثم: تم التعامل مع المسرح كشكل ميتافيزيقي، باعتبار تجربة المسرح تجربة ذاتية محضة ولو عطف صاحبها غيابها على غياب الأفق الاجتماعي للمسرح.
مارون نقاش جاء بالمسرح من أوروبا كفكرة. وحين أراد اكتشاف صفات المسرح، اكتشف وصفاته. هكذا عاين نوعين من الانفصال. الانفصال بين الجسم المعروف والجسم العارف. بقي المسرح في لبنان جسماً عارفاً لا جسماً معروفاً. أكد المقولة هذه كتاب صغير في مئة صفحة لأنطوان معلوف بعنوان «مارون النقاش (1817 ـ 1855) إشكالية الأوبرا في نشأة المسرحية العربية». كتاب صغير في عدد الصفحات، كبير في طرحه علاقة جوانية مسرح مارون النقاش لا ملمسه الخارجي. ذلك ان الكتاب لا يمتثل إلى كلية تعاطي اللبنانيين والعرب مع مارون النقاش أو تجربة مارون النقاش أو مسرح مارون النقاش لأن هؤلاء تعاطوا مع تجربة النقاش بالكمية أكثر مما تعاطوا معها بالنوعية. يعيد أنطوان معلوف بناء تجربة النقاش وفق ضوابط، تعقلن التجربة وتخضعها إلى ظواهرها الحثية. الآن أدرك أن أزمة المسرح العربي هي أزمة بداية. حيث ان تجربة النقاش انتهت بسبب انسداد الأفق الاجتماعي أمامها. مسّت التجربة القناصل والسفراء وعلية القوم. لم تصب الناس العاديين. لعل ذلك يمثل ميزة إرادة الناس في كتابة حضور أشكال التعبير. إذاً: غابت تجربة النقاش بسبب انسداد الأفق الاجتماعي. وهجرت تجربة أبي خليل القباني بسبب ممارسات الشيخ سعيد الغبرا تجاه تجربته. لا يلخص موقف سعيد الغبرا إشكالية شخصية. بل إشكالية علاقة الدين بكل تجربة تحاول إثبات حضورها في وسط محفوف بالمحرمات. بالأخص الدينية منها. طارد الاولاد أبا خليل القباني في شوارع دمشق. رشقوه بالحجارة ورددوا وهم يرشقونه بها: أبو خليل مين قلّك/ وعالكوميضة مين دلّك/ إرجع لكارك أحسن لك/ إرجع لكارك قباني. لم تنجز عقول الأطفال ولا أيديهم رسم الأهزوجة المنتقدة تجربة القباني وهي تدعوه إلى العودة إلى الشغل على القبان. ثالثا: وأدت السياسة تجربة يقعوب صنّوع. لا يزال المسرح يعاني في الآونة الراهنة مما عاناه في البدايات. انسداد الأفق الاجتماعي أولا. ثانيا: الأحوال السياسية معطوفة على نشاط الرقابة المتزايد + التابوهات الدينية. صورة هندسية. أو نوع من التأسيس الرياضي المحاصر للمسرح منذ بدايته في العام 1847. لم يتغذ المسرح إلا من ذاته في المئة سنة الفائتة. لذا: لم يتحلل بدنه وهو في طريقه إلى التأثرات الرطبة في مكونات العالم العربي. ما علينا. ذلك ان الفن الكلي هذا بقي على نار بداياته حتى لم يبقَ شيء أشكل وقرأ بطرق لازمة. بقي فوق مغنطيسه الأول، غير سامح بالتحليق أو الطيران فوق التجربة، حتى ترى بوجودها وخاصياتها بعيداً من التخيل والأوهام.
يحول كتاب إشكالية الأوبرا في نشأة المسرحية العربية كل ما هو رطب في تجربة النقاش إلى حار. أي كل ما هو مثبت بالتواتر وكل ما هو مغفل لجسد المسرح وروح المسرح، إلى مناطيد الاستبصار الحقيقية غير اللاهية. لا توهمات خلق أول على سطر بنقطة على آخره وكفى الله المؤمنين القتال.
مسرح النقاش
يقاتل الدكتور أنطوان معلوف على مسرح النقاش، على خلقته الأولى، على صحة الخلقة والهيئة، وعلى جملة الوضع الأول المستقر على ما هو عليه منذ إبصار تجربة النقاش حضورها بالكلام المتواتر لا بالرؤية المتمحصة الحريصة. بقي مسرح النقاش مطروحاً في الطريق على أنه مسرح النقاش. ثم لا شيء. لا شيء، سوى أنه مسرح النقاش. بقي مسرح النقاش في حلق الدارسين النظري بدون استضاءة بهدي المسرح بشروطه ومواصفاته الحقيقية. يكسر نص الكتاب الجديد البؤر البلاغية القديمة في صالح معايير انبثاق النص من تجربة شعرية، إنصاعة إلى الشعر باستمرار وكسرت كبريائه في مواقيت قليلة. جزم الكثيرون بأن مسرح رائد المسرح اللبناني والعربي عبارة عن تجربة تقوم على الإلقاء والغناء. غناء على المسرح. بلا: التبس المصوغ حتى قيل إن مسرح النقاش مسرح غنائي. أي انه مسرح درامي تلعب فيه الأغنية دورها في روح المسرح الفردية والجماعية. جرت توأمة مسرح أبي خليل القباني مع مسرح مارون نقاش. توأمة النظرية بدورها. في حين أراد الإثنان أن يبنيا صرحيهما الحديثين بالاستفادة من التراث والثقافة التراثية في إنتاجات بقيت عصية التحديد على كل من تصدى لتجربة النقاش. هكذا بقي مسرحه يراوح على قول المعرّي: أبكت تلكم الحمامة أم غنّت/ على فرع غصنها المياد. بقي الكلام بلا تمييز، حتى جاء كتاب الدكتور أنطوان معلوف «مارون النقاش ـ إشكالية الأوبرا في نشأة المسرحية العربية». جاء الكتاب الصغير الحجم ـ الكبير القيمة ـ بقراءة لكل المظاهر الفيزيائية والنفسية والأنشطة اللغوية فيهما في مقاربة علمية وفكرية وعُرفية. مقاربات ضد المقاربات الزوقية القديمة. معيار جديد لنقد تجربة النقاش في قواعد جديدة ضد القديمة المهيمنة على الكتابة النقدية، حيث تراسب الأنواع وتمازج الصفات. يقطع الدكتور أنطوان معلوف الشك باليقين يزكي الكاتب قول من رأوا أنها أوبرا ـ وهم قلة ـ غير أنه يأخذ عليهم اعتبار «البخيل» (أولى مسرحياته) مسرحية صرفة. وقعت الإشكالية هنا. مسرحية أم أوبرا. يغوص الكاتب على مسرحيات النقاش عموماً فيشبعها درساً، وعلى «البخيل» خصوصاً، حتى تنكشف له جلية الأمر وهي أن النقاش، من الآن فصاعداً، يحسن اعتباره رائد الأوبرا والمسرحية معاً. واعتبار البخيل الأوبرا العربية الأولى وأم المسرحيات العربية. واعتبار مسرح النقاش المبني في بيروت ـ عام 1953 ـ أول دار أوبرا في العالم العربي (على غلاف الكتاب الصادر عن الهيئة العربية للمسرح ـ الشارقة).
المثقف
يطارد الدكتور أنطوان معلوف المنفلت في تاريخ المسرح العربي. ليس النقاش محباً للسياحة والسفر فقط، حتى وصل إلى بلاد الطليان. إنه أحد المثقفين اللبنانيين القلائل في تلك المرحلة. خصوصاً على الصعيد الموسيقي. لذا: اهتم الرجل بالموسيقى. لذا: كتب النقاش مسرحية البخيل بشعر أغنية من أول المسرحية إلى آخر المسرحية. واستعار لها ألحاناً معروفة، أسقط كلمات الأغنيات على موازرها بدون نصائح موسيقية أو إرشادات درامية. قدم النقاش «البخيل» في بيته. إنها رواية موسيقية عند معلوف. إنها أوبرا. لأن الأوبرا مكون غنائي من أول سطر إلى آخر سطر. إنه أول مبدع لهذا الفن باللسان العربي. (ص8 ـ المقدمة). يكتب النقاش شعره بأوزان الشعر. إنه إكسترا كلاسيكي، طالما أن تجربته تحدرت من العادات ـ لا من بقايا العادات ـ وهي متدعمة بالأحداث المحورية والهامشية لتقوية دعائم الفعل الحافر. الهامشية هنا ذات قيمة. وإلا لما شدت الانتباه. غير ان النقاش شد الانتباه إلى ما كتبه بدون أن يلحنه في تقديم أوبرا سماعية أولاً. ثم بصرية. يتلصص البصري على عمله ولا يقيم فيه. في حين يحتل السماعي المراكز المسرحية كلها، بما فيها المراكز المقموعة والمحرومة. (رواية الوردتين اليوم قد ظهرت/ فقرظت كل تقريظ كتلبيخ ـ ص11). تقريظ للشعر. شعر أصولي على ألحان مشغولة سابقة. قامت مغامرة النقاش على ذلك وهو يستدرج صفوة الناس إلى مسرحه. ليس هذا شأن المسرحيتين التاليتين. إذ ان النقاش ـ على ما يعرف الكثيرون ـ قدم ثلاث مسرحيات. ثم أعلن ان المسرح فن بلا أفق اجتماعي في بلاد الأرز. الأهم في ما يشير الكتاب إليه: أن النقاش تأثر في «البخيل» بالأوبرا بوفا. وهي أوبرا نابوليتانية «عامية سوقية لا غشّ فيها» على ما يتردد في صفحات الكتاب. إنه أول الكتب وآخر ما يؤكد أن بداية المسرح العربي هي بداية أوبرالية غير حائرة بين النثر والشعر. أوبرا هازلة. تعتمد الأوبرا هذه الكلام الفصيح المسجع المسقط في ألحان جاهزة، رددها الناس قبل ان يعيد سماعها في أغنيات البخيل. حد النقاش من انطلاق النص بذلك «حتى لا تضيق به الألحان» (ص 52). وإذ بقي الكلام المغنى أبطأ من الكلام المُرسل، سمح تلحين البخيل للمشاهدين ـ بامتداد ألحانه ـ أن يستوعب معاني النص السريعة أحيانا كثيرة. و«المهرولة أحيانا أخرى» (الصفحة ذاتها).
هناك في بيت من حي الجميزة ـ خارج أسوار بيروت ـ شهد العالم العربي ولادة تجربة المسرح العربي في أوبرا عربية منقولة عن أوبرا بوفا لا عن الدرامات الإغريقية أو الإيطالية أو الإنكليزية. أخذ عن المسرح الغربي «طريقة تقطيع المسرحية إلى فصول والفصول إلى مشاهد سماها أجزاء» (صفحة 55). إنه أول من سمى الفصل فصلاً. لذا: جعل البخيل في خمسة فصول. في حين كتب المسرحيتين التاليتين في ثلاثة فصول لكل منها. وفي «نهاية كل فصل يصير تنزيل الستار الحاجب بين محل التشخيص وحاضري الرواية» (صفحة 55). ليست رواية النقاش عبوسة. إنها رواية مضحكة. أشير إلى ذلك، لأن النقاش ميز بين الكوميديا والدراما وبين التراجيديا. أنجته الكوميديا من وحدتي المكان والزمان. هنا يختصر الدكتور أنطوان معلوف مسرح النقاش بـ: أولاً، الموقف عند ارتفاع الستارة. ثانيا: مراحل تصعيد العقدة. ثالثا: مراحل تنزيل العقدة (الصفحة 65 و66). إنه مسرح راسيني أكثر مما هو مسرح موريري. حتى ان النقاش جاهر بتفضيله المسرح الأول على المسرح الثاني.
تبحر المؤلف في تجربة مارون النقاش فارداً عناصرها أمام المهتمين بروح بحثية تقيم اعتبارها على فك الارتباط بين ما هو متداول كآثار وبين ما هو حقيقي غائب في وقوع تجربة النقاش في الكليشيهات المتنقلة على الألسن من جيل إلى جيل. ثمة أفكار حثية وأفكار عملانية. المهم أن الأفكار ترتبط هنا بنتائجها. النتائج مفيدة، لأنها جديدة. ثمة انقلاب في تعريف تجربة النقاش وخصوصاً في مسرحيته الأولى البخيل. ما يؤخذ على الكتاب ليس المعاني ولا الألفاظ ولا التوجه ولا السلوك المعني ولا التغيرات المتنوعة على مستوى الواقع. ما يؤخذ على الكتاب أن مادته عبارة عن ثلاث محاضرات بقيت في الكتاب كما كتبت كمحاضرات. لذا يتكرر مقطع كما تتكرر جملة. لو أن الدكتور أنطوان معلوف راجع نصوص المحاضرات، لأسقط ما هو غير متكرر وغير نافع وغير مفيد ومدعاة للتساؤل. إنه كسر اللحظة الأخيرة في إصدار كتاب ممتاز.

عبيدو باشا

 المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...