في ذكرى مي زيادة

02-11-2010

في ذكرى مي زيادة

في التاسع عشر من تشرين الأول من كل عام، تحل ذكرى الأديبة مي زيادة. لعلني لن آتي بجديد، فقد كُتب الكثير عن جوانب حياتها الثرية بالفكر والعمل والعذاب والفقد وعن رباط العشق الروحاني الذي ربطهما هي وجبران، وغير ذلك من الزوايا والرؤى التي تناولت بالبحث والدرس آثارها الأدبية. إلا أنني ربما أستطيع أن أشيع أطيافا من خيالات ذكراها النبيلة في قلوب محبيها، ومريدي أدبها، أو عساي أنبه إلى غفلة في ما لا تصح معه الغفلة. على خلفية ذكرى مي زيادة، سأبدأ بمعلومات بسيطة أؤكد بها مدى الفارق الكبير، بل الهوة السحيقة، بين عصرين عربيين، بين عام 1941 الذي شهد رحيلها عن دنيانا بجسدها، وبين سنة 2010 الذي تمر فيه ذكراها مرور الكرام. فقد أقام لها الاتحاد النسائي المصري حفلة تأبين ضخمة في دار الاتحاد بالقاهرة، مساء يوم الخميس الرابع من كانون الأول 1941 وأصدر كتابا بعنوان "ذكرى فقيدة الأدب النابغة مي" حوى بين دفتيه مجموعة الخطب والقصائد التي ألقيت في حفلة تأبينها، فضلا عن مراثي الشعراء والأدباء وأقوال كبريات الصحف عقب رحيلها. يتصدر الكتاب إهداء خطي من السيدة هدى شعراوي، ننشر صورة منه وكذلك الصور التي يراها محبو مي للمرة الأولى. يكفي القارئ أن يمر بعينيه الكريمتين على أسماء "حضرات أعضاء لجنة التأبين"، ليدرك عمق الهوة بين الزمنين، وهول إظلامها. فهم كانوا: رئيسة الاتحاد النسائي السيدة هدى شعراوي، وزير الأوقاف العمومية الشيخ مصطفى عبد الرازق، مدير جامعة فؤاد الأول سابقا أحمد لطفي السيد، المدير العام لدار الكتب المصرية الدكتور منصور فهمي، مدير الثقافة العامة بوزارة المعارف الدكتور طه حسين، عضو مجلس النواب ورئيس تحرير "الأهرام" الأستاذ أنطون الجميّل، شاعر القطرين خليل مطران. هذه هي اللجنة المشرفة على التأبين، أما داخل الكتاب، فلا يوجد علم من أعلام الشعر والنثر والصحافة في ذلك العصر، وليس له قصيدة أو كلمة في مي، فضلا عن بعض الكلمات بالفرنسية والإنكليزية.
عرفت مي زيادة مبكراً، في سنين صباي. التقيت بها داخل مكتبة مدرسية، كنت في هذه السن مدفوعا بالرغبة في القراءة ومصاحبة الكتب أكثر من الرغبة في التعرف إلى الآخرين ومصاحبتهم. ولا أزال. كنت أكثر ميلاً إلى الوحدة مني إلى الانخراط بالمجموع. كان يمكنني أن أمدّ يدي إلى كتاب ولا أستطيع أن أمد يدي في يد فتاة، أو أنغمس مع أقراني في أمور، غالبا لم تكن تستسيغها روحي. انقلب هذا الأمر بعد قليل في سنوات الدراسة الجامعية. ولكن حين وجدتُ"الغيتو" الذي كان بديلا حرا من غربتي وسط تناسخ المجموع، وفي أمان "الغيتو" ارتبطت القراءة بالحب والصداقة والسياسة ومتعة الحياة، وأغاني فيروز ومارسيل خليفة وحفلات الشيخ إمام.
يوم قابلتُ مي كنت على أعتاب شبابي، قابلتها في وقت أشعر فيه بالحب الجارف والحنين، من دون أن أستطيع التواصل مع فتاة تواصلا طبيعيا... لأسباب منها عادات ذلك العصر، وتربيتي. كما كان عبد الحليم حافظ يحب نيابة عني، وعن جيلي بكامله، حين استدعت الثمانينات الجديدة سياسيا آنذاك أغانيه العاطفية بغزارة، ليتوارى شيئًا فشيئًا صوت عبد الحليم الثوري، ويحضر صوت "العندليب"، الرومنطيقي. لا أزال أحب الكثير من أغاني حليم، لكن الاستماع إلى أغانيه لم يكن كافيا لإشباع خيال مراهق جائع. كان الاكتفاء بسماع أغانيه يعني ركوني وتسليمي بهذا الخصاء العاطفي الحاصل، فكانت القراءة تكمل بعض الإشباع المنقوص إلى جانب كتابة الرسائل التي غالبا ما يكون مصيرها التمزيق إربا بعد أن تهدأ عاصفة الرغبات، وتنطفئ حمّى التواصل الإنساني المفقود.
كان لا بد من قول شيء ما، ولو حتى على الورق، لأي شخص آخر يتخلق حسبما تريد البوح به، تظن أنه يسمعك وينظر إلى كل حرف تكتبه. ففي البيت ليس مِن حولك مَن يمكن أن يفهم، أو لديه تصور لشيء آخر غير نجاحك الدراسي، وبتفوق يليق بمكانة الأب اجتماعياً، وبزهوه بين أصدقائه. هذا ليس اختياراً. في الحقيقة لم يكن في بيتنا أي اختيارات سوى اختيار القراءة الخاص بي، والتي كنت أمارسها سرا، فأدخر للكتب من مصروفي الزهيد. لذلك كنت أقرأ دائمًا وأنا منتبه إلى اللحظة الخاطفة التي سأترك فيها كتابي المختار، لأتناول سريعا كتابا مدرسيا مقررا، إذا ما دخل أحدهم غرفتي فجأة.
كانت مي في هذا المعنى أول فتاة في حياتي، حبيبتي الأولى وأنيسة وحدتي. التقيت بمي مصادفة، وجدتها محشورة بين الكتب فوق رفوف مكتبة مدرستي الثانوية، أيام كانت مكتبات المدارس عامرة بالكتب. ليس اسم مي ما جذبني إلى الكتاب في البداية، بالرغم من شفافية الحرفين، شفافية تكاد تهدد الاسم بالتلاشي عند نطقه. ليس الاسم إذاً ما جذبني إليها، إنما الحب. الحب في عنوان "الذين أحبّوا مي" لكامل الشناوي. لم أكن أعرف مي إطلاقا قبل ذلك اليوم السعيد، ولكن بسبب الحب أيضا كان بيني وبين مؤلف الكتاب سابق معرفة، فقد كنت أحد قراء بابه الأثير "جراح قلب" في جريدة "الجمهورية" الذي كان يختمه بحكمة فاتنة في كل مرة: كلمة قصيرة ومكثفة بعنوان "من أفواه المجانين".
سرعان ما انضممت بعد صفحات إلى الذين أحبوا مي. أخذتني من يدي وعرّفتني الى كبار مثقفي عصرها من روّاد صالونها الأدبي العامر: منصور فهمي وطه حسين وعباس محمود العقاد وسلامة موسي وخليل مطران وشبلي شميل وإسماعيل صبري وغيرهم كثيرون. أثناء القراءة شعرت بغيرة كامل الشناوي على مي، تطل من خلف بعض السطور، خصوصا وهو يرسم لوحة سردية يصف فيها واحدا من هؤلاء الذين أحبّوها، لا تخلو من الإشارة إلى بعض عيوبه الشكلية أو الشخصية. لكنه لم يرسم أهم صورة كنت أنتظرها، صورة مي. فصرت كأنني أكرر ما طلبته صاحبة "المرأة الجديدة" جوليا طعمة دمشقية: "أريد صورة لك يا ميّ". بعد وقت أمضيته صحبة الكتب، لم أجد هذه الصورة على أكمل ما يكون الوصف ودقة التعبير، إلا عند المفكر واللغوي منصور فهمي الذي يبدو أن كياسة طبعه، وغلبة الفكر وروح الأستاذية على طبيعة علاقته بمي بشهادة الشناوي نفسه، جعلت حبه لها يتوارى عن عين كامل الشناوي، فيأمن "تلسينه". ويبدو أن عاطفة الأستاذ ظلت سرية، على ما فيها من حنو لعدد من السنين، فلن يبوح بها منصور فهمي إلا بعد ثلاثة عشر عاما على رحيل مي، بل سوف يعلنها ببراعة أسلوبه وبلاغة وصفه، على ملأ من تلاميذه، حين يسجلها في إحدى محاضراته المهمة عن مي زيادة ورائدات النهضة، ألقاها عام 1954على طلبة معهد الدراسات العالي في جامعة الدول العربية.
لكن عاطفة الواصف سوف تربك لغة الوصف؛ فتجعل منصور فهمي فيلسوف الفصحاء، يصرف اللون الأسود الممنوع من الصرف، عامدا، ويسند الشفتين المؤنثتين إلى ضمير مذكر غائب، حين يقول عن مي "فتاة ربعة بضة، ووجهها الصبوح أقرب إلى الاستدارة، وبشرتها بيضاء من غير سوء، وتقاسيمها مليحة مشرقة، وعيناها دعجاوان واسعتان، سبلاوان، ويشع فيهما بريق الذكاء، ويعلوهما حاجبان يمتد كلاهما عريضا أسود من أول العين إلى آخرها في تقوس منسجم، دون أن يقترنا أو يتقاربا من أعلى أنف أزلف جميل، وفمها يزدان بشفتين رقيقتين قرمزيتين لا يمتدان في خديها إلا بما يتجاوز قليلا نهاية الأنف. وهي ذات جيد مليء لا يعيبه قصر، وقد يزينه عقد قاني الحمرة إن لبست ثيابا قاتمة اللون. وأسنانها بيضاء فيها فلج، وفي الغالب لا تفارق الابتسامة محيّاها. وشعرها أسود فاحم لامع، وقد تقترن أحاديثها بحركات ناعمة متواصلة عند رأسها وجيدها، فتبدو هذه الحركات الخفيفة كأنها نبرات الضحك الهادي ينسجم مع البسمات المتواصلة الرشيقة، تزيدها ظرفا وتكسبها لعوبية وسحرا" (محاضرات عن مي زيادة، ص 103 - 104).
أدارت مي صالونها الأدبي الذي كان مركزا حيا للفكر والثقافة في مصر، ومهبط الأدباء والشعراء الرحل شرقا وغربا، مستعينة بما اكتسبته في ضهور الشوير من خبرة التعامل مع غرباء المصطافين من كل جنس ولون. قالت عنها: "خبرة موفورة فيّ لدرس أخلاق الناس، وتمرين ميسور في أساليب المعاملة والإرضاء". فهي تعرف متى تتصل ومتى تنفصل وكيف. تقول: "الأرواح الكبيرة تنكمش في المحافل العادية، ولا تتجلى إلا في العزلة لمن كان على استعداد لتلقي فيض بهائها". أتصور أن دارتها في مصر بما لعبته من دور ثقافي وفكري كبير، هي النموذج الآخر من كوخها الأخضر الصغير في ضهور الشوير، لكن الأكبر حجما والأكثر رحابة وتأثيرا.
حين طالعت اسم مي للمرة الأولى في صباي، لا أدري لماذا شعرت أن صاحبته في مثل سني، حتى حين صار اسمها يتغير بالتقدم مع القراءة، فيزيد حجم حروفه ليعود إلى ماري أو يصبح إيزيس. لم أشعر مع ذلك أن مي، حبيبتي الأولى، قد تغيرت، إلا بقدر ما يتغير في عود الفتاة من طول واستدارة مع اكتمال الأنوثة. مارست مي لعبة المحو والإثبات فكتبت باسم لتمحوه، وكتبت باسم آخر لتمحو السابق، من دون أن يتأثر بهذه اللعبة الدالة اسم مي؛ أول اسم اختارته لها أمها السيدة نزهة، تيمناً باسم شخصية كانت الأم قامت بدورها في مسرحية مدرسية مترجمة عن كورناي. من دلالة لعبة المحو والإثبات أنه كلما تغير الاسم تأكد لنا ثبات جوهره الواحد؛ فماري هي مريم الغربية، وإيزيس هي مريم المصرية، كما أن كوبيا مفردة لاتينية تعني زيادة، اسم جدها لأبيها.
تقول عن اسمها في لحظة من لحظات أساها الكبير: "عندما أعود إلى منشأ الكائنات ومرجعها، وأرقد بين جلال المدافن في قبري الضيق، حيث تنقلب صورتي البشرية ترابا فهباءً، وينحل ما ارتبط بجسمي الصغير، فلا تمثل الميم منه سوى حرفين من حروف الأبجدية فحسب، يومذاك سيكون التماسك والحياة نصيب ذكراي". هذا ما حدث من دون شك يا مي. ما تمّ هو خلودك. لكن محوك الاسم وإثبات غيره يا سيدتي، لا يخلو من دلالة أخرى، على أنك انطلقت في رؤيتك للعالم من مفهوم رحب للإنسانية، ربما كنت تحتمين به لأنه يليق بروحك الكبيرة، ويناسب توقد ذكائك القاتل، وحسك المرهف الذي كثيرا ما عذّبك. تلوذين برحابة الإنسانية لتصوني قيمة الإنسان، وتبقيها نقية، خارج الحدود المصطنعة المضروبة حولها، سواء الدينية منها أو العرقية. هكذا تعلمتِ وتثقفتِ وتربيتِ في الناصرة وعينطورة، فجاء نتاج عقلك وروحك ليعمق فينا الإحساس بضرورة التآخي والتراحم بين بني الإنسان من كل جنس ولون. ويعلي فينا من قيم التسامح. ألم يكن هذا دافعاً من دوافعك وأنت توقعين "أزاهير حلمك" باسم إيزيس كوبيا المصرية اللاتينية، ثم تهدين الباقة كلها إلى فرنسي عظيم هو لامارتين، وكأنك تقولين لنا: كونوا مثلي أبناء الإنسانية.
ليس هذا غريباً على من رأت العالم أول ما رأته من الناصرة، بلدة السيد المسيح، التي تفتحت عينا مي عليها، وعاشت فيها سنوات تكوينها الأولى، حتى بلغت الرابعة عشرة. الناصرة المكان، مرتبطة في كل نفس سوية الطباع، بالنورانية والطمأنينة والقداسة. مي نفسها تؤكد ما أقول، حين ترى أن مبعث تسامحها الروحي وكراهتها للتعصب، يعود في صورته الأولية إلى تباين مذهبَي والديها الديني؛ فالأب ماروني والأم أرثوذكسية. كذلك استقت مي خلاصة فكرها من معينين أصيلين، هما تربيتها الروحية الخاصة التي أورثتها التسامح والسمو، والرضا والصبر كمعانٍ للترقي الروحي وجهاد النفس منذ الصغر، ومن تثقيف كنسي جاد متعدد المنبع، تواصلت عبره مع منتج الفكر البشري، متنقلة بحسب قولها "بين آشور وبابل والصين والهند ومصر وأثينا وروما". من اجتمعت له هذه العناصر الروحية والأخلاقية والحسية والعلمية، يجب أن يجمع في شخصه معاني الإنسانية بأسرها. تقول مي إن "الإنسانية قيثارة ذات ألوف الأوتار، توقع عليها أصابع الحياة الألحان الرائعة من تشبيب وتأوه وتهليل ونوح وهتاف، لذلك نرى دواما في النوابغ ذوي الشخصيات الغنية، مزيجا من عناصر الإنسانية جمعا" (كلمات وإشارات).
في رسالة منها إلى توفيق الحكيم، أثبتها المفكر منصور فهمي في محاضراته المذكورة، تثني مي على رواية الحكيم "شهرزاد" بسبب ما فيها من "عناصر الحضارة المسبوكة" على أحسن ما يكون، مع عناصر التجديد الأدبي، لكنها لا تنسى أن تحيي الحكيم على تسامحه مع طه حسين بعد انتقاده الجارح لمسرح العبث عنده، وتعبر عن سعادتها للصلح الذي تم بينهما.
في الإصلاح، نهجت مي نهجا فكريا ميّزها إلى حد كبير بين أصوات النهضة في النصف الأول من القرن العشرين. فقد نشأت في عصر عربي باحث عن الهوية، يتلمس الخلاص من الماضي؛ فاستجابت حاجات عصرها الفكرية وبواعثه الروحية. نجدها من بين الصيحات المنادية آنذاك بضرورة هدم الماضي، وقد تميزت دعوتها إلى الإصلاح بالعقل والاتزان الفكري الذي لا يرى قيامة للحاضر والمستقبل بدون الماضي. لم تكن مي أيضا ممن يرون أن المدنية مقتصرة في الغرب وحده، دون غيره من الأمم والشعوب، التي يحمل تراثها الإنساني الضخم كثيرا من معاني المدنية والتحضر (الصحائف). كما لم تمنعها ثقافتها الواسعة وإجادتها لغات عدة، قراءة وكتابة وفهما، من الدفاع عن اللغة العربية، فأشارت في مواضع كثيرة من خطبها وكتاباتها، إلى أهمية تمسك الشرقيين بلغتهم العربية في الداخل وفي المهجر، بوصف اللغة العربية عاملاً أصيلاً بين عوامل النهضة المرجوة، وعنصرا مهما من عناصر هويتنا الشرقية. من ذلك ما ذكرته لنا عن مدى فرحة الرجل الإيطالي بائع الكتب في روما، حين سألته بالإنكليزية عن كتاب معين، فقال لها الرجل دونما اهتمام إنه موجود باللغة الإيطالية وليس بالإنكليزية. فقالت له مي أريد نسخته الإيطالية. فاهتم وسألها ما إذا كانت تتحدث الإيطالية، فأجابت أن نعم. فرجاها أن تحدثه بها ولو قليلاً. فحدثته. ولشد ما كانت سعادة بائع الكتب الإيطالي بسماع لغة بلاده من غريب. كما أشارت في مجال آخر، إلى دقة السكسونيين وحميتهم تجاه جذورهم اللغوية التي تدفعهم إلى الاستغناء فورا عن المفردة اللاتينية، حال وجود مرادف سكسوني لها.
تذوقت مي ضمن ما تذوقته من ثقافة إنسانية جامعة، اطلعت عليها بلغات عديدة، الفلسفات الهندية القديمة بما فيها من أمور الحلول وتقمص الأرواح، والإيمان بتلاقيها، وتعارفها في مختلف الأزمان. وهو ربما ما يفلسف لعقولنا وشيجة الحب القوي الذي ربط بينها وبين جبران الذي كلمته ورأته ولمسته، ولكن بعناصر روحها المركبة على هذا النحو الخاص. وهي السمات الروحية التي كثيرا ما نجد صداها واضحا في ما لديها من نزعات التحليق وشطحات الخيال الجامح، واقتحام المجهولات، وسرائر النفوس، والتعلق بالمُثل الرفيعة، والصدق، وجمال الأسلوب. كثيرا ما تسببت لها رقة روحها بالعذاب، إلى درجة أنها تمنت مرة أن تكون صخرة لتتفادى الشعور بالألم: "كيف أصير صخرة؟ حدثيني أيتها الحجارة كيف صرت حجارة؟" (يوميات عائدة في "أزاهير حلم"، ترجمة جميل جبر). ولكنها تتسامح حتى مع الألم بأن تجعل منه باعثا على التفكير والإنتاج، فنراها تقول: "ولا ننقمنّ على الألم، فهو مغذي الذكاء ومهذب الشعور ومنبه الإدراك الى معان جمة وأساليب فكرية كثيرة" (باحثة البادية).
كانت حياة مي ساطعة كالشهاب القوي الذي انطفأ فجأة، ولكن بعدما رآه الخلق كلهم وهو يشقّ ببريقه الناري سكون السماء، وحيادها العجيب الذي حارت هي كثيرا في تفسيره. عاشت على الأرض بيننا بجسدها، لكن روحها ظلت طوال الوقت معلقة بالسماء، حيث معنى النقاء والطهر والسمو والجمال الكامل. ونرى في كثير مما كتبت، انعكاسا روحيا واضحا للطبيعة والسماء والفصول باضطرابها وتناقض ألوانها وتقلب أحوالها. فقد عاشت أغلب سني عمرها وحيدة تحت هذه السماء. كان الفضاء المفتوح الموحي، والطبيعة الهائلة بحضورها الطاغي الضارب في القدم، أنيسيها وباعثي شجونها في الوقت نفسه: "كم عبدت الطبيعة عبادة حارة خاشعة كعبادة المتدينين والشعراء والمتيمين. أولئك الذين يقدسون الحياة خارجًا عن أشخاصهم، ومحصورة في إله أو رمز أو إنسان". عبّرت مي كثيرا عن أنها لن تعيش طويلا. من ذلك مثلا أنها لا تتخيل بقاءها حية حتى تصبح عجوزاً:"يخيل إلي أنني سأرحل قبل ذلك، وأن الموت سيحملني غضة الشباب، ليطير بي حيث تسبح الملائكة وتلبث الأزهار ناضرة". وقد تحقق لها ما تنبأت به.
إذا كانت هذه شهادة قارئ عاشق لها عشق الروح والعقل، فليس أقل لي من أن أراها هناك الآن بين الملائكة فعلا، وربما شعرت بي هي كما شعرت بها وأنا أكتب هذه السطور. لقد عاشت مي متدينة مؤمنة. وكثيرا ما ارتفع بها إيمانها إلى نزعات صوفية، لا يرقى إليها إلا من تتحلى نفسه بالإيمان الراسخ الشديد، ويمتلئ عقله بالعلم الواسع والتفكير السديد. وهي لم تتمنَّ منا نحن المعاصرين إلا "إنصافها". أما ما يحتاج إلى الترحم عليه، فهو عصرنا الغافل، حين تمر ذكرى مي زيادة من دون ذكر أو تقدير!


حسن خضر    

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...