غسان رفاعي: سأقتل للتسلية واللهو

30-09-2007

غسان رفاعي: سأقتل للتسلية واللهو

ـ 1 ـ تشاهد، وتسمع، وتقرأ، فتتمنى أن تكون محروماً من حواسك، مجرداً من قدراتك الفكرية والعاطفية، أشبه ما تكون بأحد أبطال «سارتر»: «كتلة كتيمة، يتعذر عليها أن تضيء من الداخل، وتستعصي على الاختراق من الخارج...» وإلا فكيف يمكن أن تتحمل، ببرودة أعصاب، الفواجع التي تسقط عليك كحبات البرد الكبيرة، والاتساخ الإعلامي الذي يستفز كرامتك الإنسانية.

مشهدان سورياليان ينغرسان في شعوري، وأنا أتشاغل عن نفسي وعن الآخرين، متجنباً متابعة الأحداث الفاجرة التي تتلاحق في عالمنا العربي: مشهد الرجل الذي يتحدث عنه ميشيل فوكو، وهو يمشي على طريق طويل، دون أن يتوقف، ولكن الطريق يختفي من تحته بعد قليل، فإذا به يمشي في الفراغ، وتحته هوة سحيقة، فلا يكترث، بل لعله يتلهف ليسقط فيها، ومشهد الرجل الذي تحدث عنه كافكا، وهو يخطب بعصبية، وراء منبر مرتفع، في قاعة ضخمة مترامية الأطراف، ولكنها فارغة، وكلما أرعد وأزبد زاد اتساع القاعة، أفقياً وشاقولياً، إلى أن يتداعى المنبر، ويسقط الرجل في حفرة سحيقة. ‏

وإنجازان حضاريان يولدان عندي الغثيان: ‏

ـ 2 ـ ‏

الإنجاز الحضاري الأول هو ما سربته أجهزة استخبارات غربية عن ممارسات جيش بلاك ووتر السري «الماء الأسود» الذي يعمل تحت علمه الخفاق، في ربوع العراق، ما لا يقل عن 20000 من المرتزقة المحترفين، ويتصرف بـ20 طائرة عسكرية وهليكوبتر، ويخضع لقيادة المليونير الأميركي إيريك برانس، الذي مول الحملة الانتخابية للرئيس بوش بسخاء نادر. ‏

ولولا الجريمة المروعة التي ارتكبها أفراد «طائشون» من جيش بلاك ووتر في 16 أيلول الجاري، وأودت بحياة 28 مدنياً عراقياً، لما تجرأ أحد على فضح ممارسات هذا الجيش الخاص، الذي يعتبر «أقوى جيش خاص» في العالم، حسب جيريني سكاي هل، مؤلف كتاب «بلاك ووتر ـ تاريخ ملطخ..». ‏

ـ 3 ـ ‏

يصف باتريس كلود، الذي رافق دورية من بلاك ووتر في جولة روتينية ـ وهو يرتعد خوفاً: ‏

ـ حسناً، يا شباب، لنتقدم، أريد أن أقتل عراقياً هذا اليوم!. ‏

ـ ولكن لماذا هذا اليوم؟. ‏

ـ ها، ها، سأذهب في إجازة غداً، إجازة طويلة. ‏

في ذلك اليوم كان وشبورن وأصحابه من مرتزقة بلاك ووتر يفتشون عن «هدف» على طريق الموت، الذي يصل وسط بغداد بالمطار الدولي. ‏

ـ نريد أن نلهو، أن نتسلى، الوقت يمر بسرعة. ‏

وشبورن في سيارة مصفحة، ومعه زملاؤه الأربعة، إنه في العشرين، طوله 195، رأسه حليق، له ذقن مطحلبة صغيرة، وذراعه موشوم في عدة أماكن، ويضع على عينيه نظارة سوداء، ومن وسطه يتدلى مسدس كبير. ‏

وفجأة تتقدم سيارة ببطء، من فيها؟ وجهاء من السلطة؟ موظفون مهمون؟ زعماء عشائر؟ إرهابيون؟ ‏

ويأمر وشبورن: دعوهم يقتربوا أكثر! ‏

ويفتح وشبورن باب سيارته، ويتمدد على مقعدها الأمامي، ثم يصوب رشاشه ويطلق، ويخترق الرصاص زجاج السيارة، ثم يطلق زملاؤه، مرة ومرتين وثلاثاً. ‏

ويقول وشبورن بهدوء: جيد، جيد، عمل متقن، تهانينا، قتل ركاب السيارة الأربعة. ‏

بمقدور وشبورن، الآن أن يقضي إجازته بسعادة: لقد حقق أمنيته، وقتل أربعة عوضاً عن واحد، ألا يكفي؟. ‏

حوادث القتل، الاغتصاب، السطو، في «الغابة البربرية» التي أصبح العراق كله مسرحاً لها، لا حد لها ولا حصر لها، معظم المصابين لا يكلفون أنفسهم عناء الشكوى، لا فائدة! تشكو لمن؟ أجهزة الأمن فاسدة، الميليشيات المسلحة تفعل ما يحلو لها، والعدالة لا وجود لها، الوزراء والمسؤولون يختبئون داخل أسوار «المنطقة الخضراء» تحت الحماية الأميركية، وكل من يبتعد عن هذه المنطقة أكثر من 10 كم يتعرض للأخطار الماحقة، الحق في هذه الغابة البربرية هو للأغنى، للأقوى، للمزود بالأسلحة الأفضل! ‏

لقد صدق الكونغرس الأميركي عام 2006 على قرار يخضع كل المرتزقة نظرياً لقواعد الجيش وأنظمة الجيش النظامي، ولكن هذا القرار لم يطبق قط، ولم تأخذ به الإدارة الأميركية. ‏

تحرك المالكي، آخر الأمر، وبدأ يشكو من المرتزقة الأجانب وأنه «لا يمكن السكوت عن تجاوزاتهم وجرائمهم»، وأعلن عن فسخ العقود المبرمة معهم، وخاصة مع جيش بلاك ووتر الخاص، ولكنه تراجع بعد أن تلقى مكالمة من كوندوليزا رايس. ‏

ـ 4 ـ ‏

أما الإنجاز الحضاري الآخر الذي كشفته صحيفة «اللوموند» فيتعلق بالنشاط الإعلامي المشبوه الذي كان يمارسه البروفيسور ألكسي دوبا الذي كان يلفق مقابلات مع شخصيات سياسية معروفة وينشرها في أهم الصحف العالمية، ويقدم نفسه على أنه خبير فرنسي في الإرهاب، وأنه يقيم في واشنطن، ويعمل في قناة ABC وفي مركز نيكسون للأبحاث التابع لإدارة المحافظين الجدد. ‏

انفضح أمر هذا البروفيسور فجأة حينما أعلن موقع على الانترنت «رو 80» أن المقابلة التي أجراها مع المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية باراك أوباما «مزورة» من ألفها إلى يائها، وأن المرشح لم يلتق قط الخبير المزعوم، ولدى التحقيق تبين أن كل المقابلات «الهامة» التي أجراها هي مزورة وملفقة، وأن نشرها في الصحف الكبرى كان «توريطة» من المخابرات الأميركية، للضغط على الشخصيات السياسية، وإرغامها على «قبول» ما ينسب إليها، في إطار خدمة المصالح الأميركية العليا وتنفيذ مخطط مدروس «لغسل الأدمغة». ‏

كان البروفيسور يدعي أنه يحمل شهادتي دكتوراه من جامعتين، دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة ايدرناك الأميركية، ودكتوراه ثانية في الآداب من جامعة السوربون الفرنسية، وقد تبين أن الجامعة الأولى ليس لها وجود، وأن جامعة السوربون لم تسمع باسم البروفيسور، والمدهش في سيرة هذا الدعي، أنه كان يكتب في افتتاحيات عدة صحف عالمية، كـ«الهيرالد تريبيون»، و«الفايننشال تايمز»، و«لوس أنجلس تايمز»، وتحقيقات مذهلة في مجلات كبرى، كمجلة «تايم»، و«نيوزويك» وأخبار الولايات المتحدة، بل إنه كان يتصدر الصفحات الأولى من مجلة «الناشنيل أنترست» التي كان يرأس تحريرها هنري كيسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة السابق. ‏

‏ ـ 5 ـ ‏

هبط كتاب مثير، في مطلع هذا الشهر، على المكتبات الكبرى في فرنسا، بعنوان «رئاسة جورج بوش: اليقين الفولاذي» يشتمل على ستة لقاءات مطولة أجراها الصحفي روبرت دوابر مع الرئيس بوش في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، سمح فيها بوش لنفسه أن يسترسل في الحديث ـ خلافاً لعادته ـ وأن يكشف بعض «أسراره الشخصية» وطموحاته بعد أن يغادر الرئاسة. ‏

أعرب بوش عن رغبته في أن يمتلك مزرعة خاصة في تكساس تصلح لأن تتحول إلى مؤسسة للدفاع عن الحريات، وهدفها نشر الديمقراطية في العالم، قائلاً: «لا أطيق أن أبقى عاطلاً عن العمل، ولا أتحمل الملل، والفراغ، والخمول!». ‏

وتظهر اللقاءات أن بوش يشكو من الوحدة الموحشة، ويتمزق من الندم، ويبذل جهداً كبيراً لتجاوز هذه المشاعر، أعترف «لا أستطيع أن أسمح لنفسي بالكشف عن نقاط ضعفي في البيت الأبيض، أنا أكثر من جلد الذات، ولكنني أتكتم، وأخشى أن يكتشف الناس الذين يعملون معي ما أعانيه»، وحينما تطرق للحديث عن ضحايا حرب العراق، وعن عبثية هذه الحرب قال: «إنني أبكي كثيراً، لقد ذرفت من الدموع أكثر مما يعتقد الجميع» ولم يخف الرئيس بوش شعوره بالمرارة لتدني شعبيته في استطلاعات الرأي العام، وكان يشير إلى كلبه بارني ويقول: «كم كان صائباً من قال: إذا أردت أن يكون لك صديق في واشنطن، اعتمد على كلبك!». ‏

‏ ـ 6 ـ ‏

مرتزقة أجلاف يقتلون أبرياء «للتسلية» في شوارع بغداد، وإعلاميون دجالون يلفقون مقابلات، بهدف «توريط» رجال السياسة، وإرغامهم على تبني مواقف ضد قناعاتهم، ورئيس لامبراطورية «عظيمة»، يندم، ويبكي، ويعترف بأن «لا صديق له إلا كلبه بارني»، وصواريخ الحقد العنصري تحصد الأطفال والنساء والشيوخ في غزة والضفة الغربية، فيقال بقلة أدب «عملية دفاع عن النفس» وطائرات الأباتشي تغير على المحتفلين بالأعراس فيقال: «إسكات مصادر نيران العدو!» ثم تمسرح مشاهد التوبة والاعتذار، والصفح، والأسف، والشعور بالخطأ، وتوزع في كل مكان كبالونات مطربي الروك أند رول، ويكرر مهرجو العهر السياسي، بما يشبه نواح ساحرات شكسبير في مسرحية «مكبيث»: «الحضارة زاحفة على الشرق الأوسط» لإنقاذه من التخلف والفساد، والمطلوب منا جميعاً ـ هكذا يؤكد لنا السادة ـ أن «نضبط أعصابنا» وأن نتجنب الوقوع في فخ «التطرف والمعاندة». ‏

غسان رفاعي

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...