غسان رفاعي: الخبز الحافي

07-09-2008

غسان رفاعي: الخبز الحافي

ـ 1 ـ رأيتهم في شوارع الدار البيضاء الفسيحة، المرصوفة بالبلاط الأرجواني، وفي أزقتها الضيقة، المثقوبة بالحفر الموحلة: بعضهم بثياب فاخرة مستوردة من شارع الفوبورغ ـ سانت ـ اونورية ـ في باريس، والبعض الآخر بأسمال بالية تكشف عن بقع من جلدهم المتغضن. تنازعني شعوران: شعور بالانتماء، لأنني معتاد رؤية أمثالهم في شوارع العواصم والمدن العربية الأخرى، وشعور بالشفقة لأنني أعرف أنهم يجسدون واقعاً اجتماعياً فاجراً، لا يمكن التستر عليه، إذ لم يعد بالمستطاع، بعد الآن نكران ان مجتمعنا العربي قد انشطر الى طبقتين تتسع المسافة بينهما باستمرار، بعد ان حفرت قبور الطبقة المتوسطة: طبقة المنافقين التي تنهب السلطة الحاكمة، وتقتسم خيراتها، وإغداقاتها السخية، وطبقة الدهماء التي تتشقق، وتكشف عن عوراتها الدميمة، وهي تحتال للحصول على لقمة العيش: الطبقة الأولى تقتات من فضلات الإنتاج الاستهلاكي الغربي، والطبقة الثانية تعتاش من فضلات صناديق القمامة.

ـ 2 ـ ‏

اجتمعت بهم في مقاهي «المتبرجزين المتفرنسين» التي تحمل أسماء اجنبية براقة، واستمعت اليهم، وهم يتحدثون عن «التطفل الحضاري» الذي يفترس الانسان العربي، ليجعل منه «عالة» على حضارة القرن الحادي والعشرين، ثم اجتمعت بهم في المواخير الشعبية المرشوقة في الأزقة الخلفية، المسيجة بالجدران العالية، خشية ان تقع عيون السياح الأجانب عليها وهم يفاخرون «بالتخلف العقائدي» الذي يوفر لهم الكرامة، ويكرس انتماءهم وهويتهم. ‏

قال لي استاذ جامعي بلغة فرنسية مغناجة: «لماذا لا نعترف بأننا لقطاء ننتحل التواجد في واجهات الحضارة، بغثاثتنا السمجة، اننا نعيش في عالم الطائرات، والسيارات، والهواتف المحمولة، والانترنت، والروبوتات الإلكترونية، ولكننا مازلنا نمتطي الجمال، ونتمنطق بالخناجر، ويقتل بعضنا بعضنا الآخر بالأحزمة الناسفة» وقال لي شيخ بلحية كثة سوداء: «نعم، لا يخجلنا ان نواجه العالم بابن تيمية وابي ذر الغفاري وطرفة بن العبد، ألم ندمر ناطحات سحابهم في نيويورك، ألم نقبرهم في متاهات التورا ـ بورا في أفغانستان، ألم نفجر دباباتهم في شوارع الفالوجة وبغداد؟» وأعلمني وراق في شارع خلفي، وهو لا يخفي اغتباطه: «أجازت الرقابة كتاب رجوع الشيخ الى صباه للعلامة شهاب الدين التيفاشي، ولكنها صادرت خمسة كتب تتحدث عن جرائم الامبريالية الأميركية الفاسقة.. الرقابة تسمح لنا بعرض الترجمة الفرنسية لرواية محمد شكري الروائي المغربي المرموق، «الخبز الحافي» ولكنها تحظر علينا عرض الأصل العربي للرواية، الترجمة الفرنسية للطاهر بن جلون تسلي الأجانب وتستدر إعجابهم، في حين ان النص العربي فضيحة مخجلة حتى الفجيعة..» ‏

ـ 3 ـ ‏

كنت في مطلع حياتي الثقافية، ومازلت حتى الآن، مولعاً بالكتب الممنوعة، ولا قدرة لي على مقاومة اغرائها، يكفي ان يبلغني أي صاحب مكتبة، وهو ينتحي بي جانباً: انه قد استحوذ على هذا الكتاب أو ذاك من الكتب الممنوعة، حتى أبادر الى شرائه دون استيضاح، وان اكتشف، فيما بعد، ان بعض الكتب الممنوعة ضحلة ومسطحة الى درجة لا توصف، ولكن هذا الاكتشاف لم يخفف من اقبالي على الكتب الممنوعة. ‏

ولعل هذا الولع «النابي» بعض الشيء، هو الذي ورطني في علاقة غريبة مع صاحب مكتبة متواضعة، في زقاق ضيق متفرع عن سوق مدحت باشا في دمشق، كان صغير القامة، بعين واحدة، واذن مشرومة، وفم صغير يكاد يشبه ثقب المفتاح، ولكنه كان لطيف المعشر، حاد الذكاء، موسوعي الثقافة، ما ان يراني مقبلا على مكتبته، حتى يقفز علي بحذر، ويهمس في أذني، وهو يفرك بيديه: ‏

«عندي مجموعة نادرة من الكتب الممنوعة وصلتني حديثاً» ‏

وكان ينزلني الى القبو ـ وهو مكان منخفض السقف، يكتظ بالكتب من كل الأنواع والحجوم ـ ويبدأ بتقديم ملخص واف عن كل كتاب ممنوع يعرضه علي، وكانت له فلسفة خاصة في الكتب الممنوعة يمكن اجمالها على النحو التالي: الكتب الممنوعة من ثلاثة أنواع: فهي اما ان تكون سياسية تتناول الأنظمة المستقرة، واما ان تكون كتبا جنسية تتناول التقاليد الاجتماعية المستقرة، واما ان تكون كتباً فلسفية تتناول المعتقدات الفكرية المستقرة، وفي رأيه ان الكتب الممنوعة «موسمية» ترتبط بمرحلة معينة من التطور، وقيمتها مؤقتة، مرهونة بظرف محدد، والشيء الذي يحدث عادة هو ان الكتاب الذي يكون ممنوعاً جدا في فترة زمنية محددة، في بلد ما، قد يكون مباحاً جدا في فترة زمنية أخرى، وفي البلد ذاته، وعلى هذا ينبغي ان يقرأ الكتاب الممنوع في الفترة التي يمنع بها لا بعدها، وإلا انتفت المتعة في قراءته. ‏

كان يقول لي، وهو يحاصرني في زاوية من الجدار: «الناس في كل مكان، زاهدة فيما هو مباح، شغوفة فيما هو ممنوع، وهذا عائد الى ان الناس عصاة، تكره ما هو رسمي، وتقبل على ما هو خارج عن القانون، والكتابة الجيدة، من هذا المنظور، هي عصيان، خروج عن القانون، شغب، اما الكتابة السيئة فهي إذعان، وخضوع وتدجين». ‏

وقد ساهم صاحب المكتبة هذا، ذو العين الواحدة، والأذن المشرومة، في «افسادي» على نحو ما، هرّب الي كل مؤلفات ماركس وانجلز ولينين وروزا لوكسبيرغ، وكاد يجعل مني ماركسياً متطرفاً، في وقت كانت شبهة الماركسية تكلف الانسان الطرد من وظائف الدولة، والنبذ الاجتماعي، ثم زودني بكل كتب الإلحاد، والزندقة، والتجديف، وكاد يغسل الايمان من قلبي لولا انتسابي الى عائلة محافظة متدينة، ولولا بقية من خوف وتعقل، ثم سرب الي في حذر وخبث شديدين الكتب الاباحية التراثية ـ وما أكثرها، وما أفدحها! ـ حتى كاد يجعل مني متخلعاً، لولا ذماء من خجل ورهبة! ولم أتحرر من سحره وارهابه إلا بعد ان سافرت، ونسيت كل شيء عن مكتبته وكتبه، وآرائه حول «الكتابة العاصية». ‏

وفي أوروبا، تخلصت من عقدة الكتب الممنوعة، حينما تبينت ان المطابع ـ وهي ادغال من الحديد، وأحراش من اللوالب والأكر والمزالج ـ جائعة باستمرار الى الكلمات والنصوص، وان مهمة الكاتب هي ادخال الأحداث والشخوص من ثقب، لإخراجها كلمات من ثقب آخر، تماما كما تدخل بقرة كاملة في آلة من الآلات فتخرج بعد قليل حبلا من السجق المغلف من فتحة في أسفل الآلة. ‏

ذات يوم، لم تكن الكلمة أكثر من شهقة من شفتين، وحبة من قلب، لا تفترسها ادغال الحديد، ولا تصنعها أحراش الآلات، ولكنها كانت تخترق الجدران، وتستقر في الاعماق، وتصوغ الانسان، قالها «سقراط» في براءة عنيدة، فسرت «كالنار في الهشيم» وفجرت الكبرياء والأمل، وقالها آخرون كثر، في براءة أكثر عناداً، أو عناد أكثر براءة، فكانت قطعاً من الجمر، ترجم المزورين، والمضللين، وتقدس الحالمين بالانسان، وبمستقبل الانسان، واليوم أصبحت الكلمة «سلعة» بين أدغال الحديد، تنقل الى كل مكان، في أقل من بضع دقائق، وبضاعة بين أحراش اللوالب، تزرع حتى في الصحارى المقفرة، ولكنها لا تخترق الجدران، ولا تصوغ الانسان، وانما الدبق واللزوجة، الكلمة اليوم، على الرغم من معجزة التكنولوجيا متسخة، مزيفة، تدخل كل بيت ولكنها تبقى في الخارج، في متناول الجميع، ولكنها مرفوضة، مدانة كالمومس، يرغب الجميع في وصالها، ولكنهم لا يصدقون متى يطردونها ويتخلصون منها. ‏

ـ 5 ـ ‏

يقف الكاتب العربي، في هذا الزمن الرديء، بين المجهر والخنجر، فلا هو قادر على إخفاء «بثوره» عن المجهر، ولا هو ناجح في حماية نفسه من الخنجر، يحاسب على اللفظة، والتنهدة، وطقطقة الاصابع، وغالباً ما يرسب في امتحان الموالاة، واذا به بين خيارين: الصمت، أو الزنزانة. ‏

لابد من التحرر من عقدتين مازالتا ترهقان كتّابنا وتسببان لهم توترات في غنى عنها: عقدة الخجل من الامتهان أولاً، ان عصرنا ما عاد يتحمل الكاتب الهاوي الذي يناوش الهموم المصيرية مناوشة الطفل لكرته المطاطية، انه بحاجة الى الكاتب ـ الملتزم الذي يعيش همومنا بكل تفاصيلها، وتناقضاتها، وكما يعاب على الجراح الصناع عدم المامه بكل تقنينات فن الجراحة ، فكذلك يعاب على الكاتب ـ الملتزم عدم المامه بكل تطورات «الميدان». ‏

وثاني العقد التي ينبغي أن يتحرر منها الكاتب هي عقدة «الهوس على استقلاليته» وفي اعتقادي ان الاستقلالية ليست بكارة تنفض عند أدنى تماس مع السلطة أو مع مظاهر الانحراف، في الحياة اليومية، انها موقف نضالي يغتني بالتماس والتجاذب والاحتكاك، الابداع الحقيقي هو دوماً من وحي الصدام والكر والفر، ولا يعيب الكاتب اذا تشققت يداه، وتشرب وجهه بالدخان الأسود، انما يعيبه هو الانسحاب والهزيمة، هو الشعور بأنه فائض عن الحاجة، هو الصمت، هو رمي السلاح. ‏

د. غسان رفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...