غسان الرفاعي: الهوية الوطنية بين التفتح والانغلاق

09-11-2009

غسان الرفاعي: الهوية الوطنية بين التفتح والانغلاق

ـ 1 ـ كان (اندريه مالرو) الكاتب الفرنسي الذي انتقل من شاطئ الثورة إلى بر المحافظة يقول: قد ننجح في أن نريد ما نكون، ولكننا نفشل في أن نكون ما نريد! ولعل الإنسان العربي الذي ارتشق في مجتمع غريب ومعاد، بملء إرادته تارة، ومرغماً تارات، قد جسد عكس ما قاله (أندريه مارلو) إذ نجح في أن يكون ما يريد، على مستوى التنظير، ولكنه فشل في أن يريد ما يكون على مستوى العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والمأساة ليست في أن الإنسان العربي (المغترب) ما زال مثقلاً بأريج الماضي، وإنما من كونه قد وجد نفسه على شفا هاوية، بين الماضي والحاضر، وليس هناك من يسعى إلى انتشاله.

إن (المشروع العنصري) الذي يطرحه وزير الداخلية الفرنسي، والداعي إلى تحديد (هوية الفرنسي) أو الإجابة عن سؤال (متى يكون الإنسان فرنسياً)؟ والذي يهلل له اليمين الفرنسي الفاشي، وتعارضه كل القوى اليسارية والوطنية قد نزع الأستار والحجب المبرقعة عن الخلفية (المستبدة النابذة) لمجتمع مغلق، يزعم (تفتحه الإنساني والحضاري). ‏

لقد تجاوز التأزم النفسي الذي يعيشه الإنسان العربي في أوروبا مرحلة الإحراج ليدخل مرحلة الانفصام، كان يندس بين واقع يرفضه، ولكنه مرغم على أن يتعايش معه، وبين حلم يتعلق به، ولكنه عاجز عن تحقيقه، فأضحى اليوم، يتأرجح بين الشعور بالإحباط، بسبب تشبثه (بغيتو) لا منافذ له، وبين الشعور بالتحدي، بسبب رغبته في إخضاع ظروفه إلى إرادته، على أن هذه الحالة (الرجراجة) قد تركت إسقاطات على البنية الاجتماعية والاقتصادية (للنخب العربية) التي لا تزال مصرة على الهجرة (القسرية) على الرغم من كل الأحداث التي عصفت بالحياة الدولية في السنوات الأخيرة. ‏

يتنازعني شعوران متناقضان أحدهما بالشفقة والآخر بالتعاطف، حينما ألقاهم، هؤلاء (الملفوظين) عن أوطانهم طواعية أو بالإكراه، هؤلاء (المهمشين) في المجتمعات التي انتقلوا إليها زهداً، أو قسراً، إنهم يتشبثون ببقية من مجد عتيق وأسمال من تميز اجتماعي غابر، ودفقات من الحقد والحيرة ولكنهم متوفرون في الأسواق بغزارة على الرغم من كسادهم وشح الطلب عليهم. ‏

ـ 2 ـ ‏

أربعة أصناف من النخب العربية من المغرب الإفريقي العربي ودول الشرق الأوسط من التي تصدرت الشأن العام في فترات متعاقبة ثم لفظتها طواحين النزاعات والانقلابات وتركتها في العراء بلا ملابس داخلية: النخب الارستقراطية التي تزعم أنها أرست بواكير الحكم الوطني بعد زوال الاستعمار الفرنسي والبريطاني، ثم النخب البرجوازية التي أفرزها ازدهار اقتصادي لقيط، ولد عندها طموحات رخوة سرعان ما أفسدها أخلاقياً واجتماعياً، ثم النخب الفلاحية الريفية التي نمت وازدهرت في ظل الانقلابات الإصلاحية المزورة، ثم النخب العسكرية (الثورية) التي تورمت تحت مظلة (الفساد الاقتصادي والانتفاخ الوطني...). ‏

وتنتظم هذه النخب التي انتهى بها الأمر إلى (سوق الخردة والبراغيث)، وهمان كبيران، أفسدا عليها الرؤية الصحيحة والمنطق السليم: الأول الاعتقاد بأن القدر هو الذي اختارها لمهمة وطنية تبشيرية كبيرة، وأن قوى (غير وطنية) التي حالت بينها وبين تحقيق هذه المهمة، والثاني الزعم أن الشعب بحاجة إلى (وصايتها) بسبب عدم نضجه، واكتمال وعيه، وان رفع هذه الوصاية هو الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه من تفاقم وتدهور. ‏

ـ 3 ـ ‏

ويمكن اختزال الخصال الأساسية لهذه النخب في المهجر في ثلاث: ‏

أولها: الشرنقة: انها تبني لنفسها، وفي معظم الأحيان لعائلتها، سجناً إسمنتياً يقيها الأنوار، والعواصف، وقد لا تفكر بالخروج منه إلا للمجابهة المجانية، وهذا السجن هو أقرب ما يكون بالشرنقة التي تلتف حول صاحبها بغرض حمايته، ولكنه قد يكون أول ضحاياها. ‏

وثانيها الانشطار: انها تصنع سلوكين متناقضين، أحدهما للاستهلاك الخارجي، ويتصف بالكياسة واللزوجة والانصياع، وثانيهما للاستهلاك الداخلي ويتصف بالشراسة والعدوانية والفظاظة، ومن التجاذب بين السلوكين تتكون شخصية فريدة في تناقضاتها وعربدتها وانسحاقها، القفز من تطرف إلى تطرف مضاد، دون إحراج أو تردد، من الدمعة السخية التي لا مبرر لها، إلى القهقهة الفاجرة التي ليست أكثر من رد فعل اعتباطي على موقف عسير، من الثورة الهادرة المدمرة التي لا حدود لها، إلى الانصياع المقهور أو الاستسلام الذليل الذي ليس له مبرر ولا هدف. ‏

وثالثها الشعور بالدونية: المهاجر يقلص إمكانياته بعمل إرادي، وكأنه يعاقب نفسه على اثم لم يقترفه، ولكنه يورم هذه الإمكانيات في ظروف أخرى، وكأنه يعاقب الآخرين على مواقف لم يتخذوها، وهذه الحركة الدائمة من التقلص إلى التورم، وبالعكس، تنعكس على طرز المحاكمة العقلية وأنماط السلوك اليومي، حتى ليصعب على أقرانه ومعارفه المقربين منه أن يتعرفوا إلى حقيقة معاناته النفسية الداخلية. ‏

ـ 4 ـ ‏

وتتفشى بين صفوف الملفوظين خارج أوطانهم »ديكتاتورية متطرفة« مخملية الملمس، مضمخة بالطيب، ومتمكيجة بذوق برجوازي رفيع تتحكم بسلوكهم وتفكيرهم، ببراعة وخبث، سلاحها في الاقتناع: هو الزعم انها تملك (المعرفة الموضوعية) التي لا يرقى إليها الشك، لا المسدس ولا السوط. ‏

وزبانيتها من كبار المتخرجين من الجامعات الراقية، هارفرد، وكامبردج، والسوربون ومن ذوي »الياقات البيض« كما يحلو للأوروبيين أن يطلقوا عليهم ـ وهؤلاء يعملون في مراكز البحوث الاستراتيجية والدبلوماسية الغربية، ويحتلون مراكز الصدارة في الاستشارات »العلمية« ولا يتورعون عن توزيع (صكوك الثقافة الرصينة) من على المنابر، وميكروفونات الإذاعة وشاشات التلفزيون والصحف والمجلات (المهاجرة) وشهاداتهم كطابع البريد يلصق على »المبشرين بالجنة« فإذا بهم يعبرون الحواجز دون جواز مرور، ويصبحون رسمياً من »كبار المثقفين المناضلين من أجل الديمقراطية« ويسمح لهم أن يقدموا نصائحهم بترفع وكبرياء بعد أن يكونوا قد تخلصوا من رواسب العالم الثالث، وتحرروا من أقفاص »الاستبداد الشرقي« وانتهاكات الحريم السياسي والكبت الاجتماعي. ‏

ـ 5 ـ ‏

الخطأ الفادح في تحليل (الياقات البيض) هو الإصرار على تقييم كل ما يجري في وطننا من منطلق غربي بحت، دون حساب لخصوصيتنا التاريخية وكما يقول »جاك بيرك« كبير المستشرقين الفرنسيين: حينما نعرف بأنفسنا، فلابد من مرجعية ثابتة، وهذه لا يجوز أن تقتصر على الأرض أو العرق أو اللغة، وإنما على الجذور التاريخية »ومن هنا فإنه لا يكفي نقل وصفات الديمقراطية الليبرالية الجاهزة إلى العالم العربي لأنها تفاقم من أزماته، وإنما ينبغي أن نعمل على إنفاذ هذه الوصفات في صميم النسيج التاريخي للأمة العربية، ثم إن دولة القانون في أوروبا لم تقم بين عشية وضحاها، وإنما هي تتويج لنضالات دامية مستمرة شاركت فيها الجماهير والتيارات السياسية والثقافية، ولهذا لا يجوز أن يقال: إن نموذج الدولة المملوكية هو النموذج السائد في الشرق العربي، وإنه من العبث إسقاط ما يسمى (الاستبداد الشرقي) على كل الأنظمة القائمة. لقد كان من الممكن أن تحقق (الطفرة النهضوية) لو أفسح لها المجال، تحديث المجتمع العربي، غير أن الغرب هو الذي يسعى دوماً إلى إجهاض هذه النهضة، بسبب إصراره على اعتبار الانبعاث القومي خطراً عليه وعلى مصالحه. ‏

ـ 6 ـ ‏

بين الخوف من أن »تستنقع« النخب والياقات البيض، والخوف من أن تعربد بلا احتشام، يتحرك حوار فظ، يزداد عنفاً، بسبب احتدام التناقضات الاجتماعية والسياسية، ولئن كان من المباح فيما مضى، الاستجابة لإغراء اللامسؤولية والهامشية، بتذرع الزهد أو الحياد، فإننا لابد أن نكون في »مغطس ما«، مهما تهربنا، حتى ولو احتجبنا وراء أنأى خلوة، ومهما أغرانا الصمت الأنوف، فإننا لا نستطيع أن نحلق فوق عصرنا. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...