غسان الرفاعي: المثقفون القراصنة وتفسخ الشرق الغامض

21-02-2011

غسان الرفاعي: المثقفون القراصنة وتفسخ الشرق الغامض

-1-
يحاول جيل من المثقفين القراصنة في الغرب, أن يسطو على الفضاءات والمنابر, وأن يمارس هواية الحفر في التضاريس التاريخية, لاستخراج ما يمكن أن نسميه الأمة الغربية بحجة أن إنقاذ الإنسانية يتوقف على انتصار الغرب أمام البربريات الشرقية التي تزحف من كل مكان حاملة معها الهوس الديني والجنون الاثني والإرهاب الحضاري. ‏

وفي حين يتفسخ الشرق الغامض دولا وأقاليم وكيانات, وتتصاعد في أرجائه الدعوة إلى رفض الآخر بل إلى تصفيته أو محاصرته في غيتويات اسمنتية مسيجة, تتلامح الأمة الغربية بعد صراعات ونزاعات دامية استهلكت شعوبها, وتحتاج الدعوة إلى الوحدة الغربية دولا وأقاليم وكيانات, أليس من المذهل أن يسعى الكل في هذا الغرب إلى التجانس وتذويب الفروق بالرغم من اختلاف اللغة والخصائص التاريخية في حين يتفانى الكل في الشرق إلى التشظي, والانقسام, والتفتت, قومياً وطائفياً, وعرقياً, على الرغم من وحدة اللغة والرؤيا؟ ‏

-2- ‏
في عام 1808 شعر الفيلسوف فيخته بضرورة توجيه رسالة إلى الأمة الألمانية وفي عام 1933 شعر المفكر جوليان بندا بضرورة توجيه رسالة إلى الأمة الأوروبية ويحاول اليوم المنظر القرصان فيليب مينو أن يوجه رسالة إلى الأمة الغربية بعد أن شعر أن الظروف الجيوسياسية تستدعي مثل هذه المبادرة. ‏

هناك أوجه تقارب مدهشة بين المواقف الثلاثة: لقد وجه فيخته رسالته في الوقت الذي كانت فيه الفتوحات البونابرتية تهدد ألمانيا في وجودها ووجه بندا رسالته في الوقت الذي كانت فيه الحرب الأهلية تهدد أوروبا في وجودها, عام 1941, وقد ساعد الاثنان على خلق ما يمكن تسميته بالوعي القومي الألماني, والوعي الحضاري الأوروبي, مما ساعد على خلق المؤسسات السياسية القادرة على تكريس الهويتين, عبر التاريخ, أي الوحدة الألمانية التي حققها بسمارك بإرادته الفولاذية, والوحدة الأوروبية التي تحققت حديثاً, وأصبحت تضم 25 دولة. ‏

وتظهر الحاجة في بدايات القرن الواحد والعشرين كما يدعي فيليب مينو إلى المناداة بالوحدة الغربية بسبب تفشي الإرهاب الشرقي, وانتشار أسلحة الدمار الشامل خارج الفضاء الغربي, والعولمة الاقتصادية العشوائية, والهجرات الكثيفة من قارات الفقر, يقول مينو في تفجع استفزازي: «سننادي بوجود الأمة الغربية المتكاملة المتجانسة, ولو اتهمنا بالمغالاة والتزييف, ولن نسمح لهذا النمل البشري الذي يزحف علينا من الجنوب المملق, أن يقضمنا بشره وحقده». ‏

-3- ‏
لكن ما هو هذا الغرب الموحد الأسطوري الذي ينتصب أمامنا كالجني الذي ينفذ المعجزات بعد ملامسة المصباح السحري, على نحو ما تتحدث عنه قصص ألف ليلة وليلة؟ ما هي هذه الهوية العملاقة التي تطفو على السطح الآن؟ على الرغم من التباين الاجتماعي واللغوي والاجتماعي, وهل هناك قيم موحدة تجمعها وتميزها عن العوالم الأخرى, الصينية, واليابانية, والهندية, والعربية الإسلامية, والإفريقية؟ تبرر تماسكها ضد التهديدات العسكرية المفترضة, وضد أخطار التفسخ, أو الخلاسية الحضارية, أو الهجانة الثقافية. ‏

المفكرون القراصنة كما يسميهم بابلو نيرودا يرجحون بأن الهوية الغربية الفضفاضة تقوم على الديمقراطية, والعقلانية, والعلمانية, الحرية الثقافية, وصيانة الملكية الفردية, والشخصانية المتورمة, وهذه كلها ليست متبطنة بالولادة, وإنما هي ثمرة نضال تاريخي طويل, وبناء ارتفع قرميدة فوق قرميدة, عبر مخاضات واشتباكات مضنية. ‏

ويجمع «حفار الأثريات» كما يسميهم روجيه غارودي على أن الهوية الغربية قد تكونت وتفولذت عبر خمسة أحداث جوهرية تضافرت وبنسب متفاوتة, على تحديد مقومات هذه الهوية: أولها بلورة مفهوم الدولة, القائمة على القانون على نحو ما رسمته المعجزة اليونانية ممثلة بمفكري اليونان «الكبار سقراط, ارسطو» وثانيها: تحديد مفهوم الحق ببعديه الشخصي والاجتماعي وهو أكبر انجاز للامبراطورية الرومانية. وثالثها: الثورة الأخلاقية المستمدة من اللاهوت المسيحي, واكساب العدالة بعدا إلهياً مقدسا. ورابعها: التحرك البابوي في القرن الحادي عشر, والثاني عشر, والثالث عشر والذي أعلن عن ولادة الحلف المقدس بين أثينا وروما والقدس, وخامسها: ظهور الليبرالية الاقتصادية, وولادة الحداثة بالمفهوم المتداول حالياً. ولئن اتخذت هذه الأحداث أبعاداً محلية, وقومية خاصة بعض الأحيان, إلا أنها ظلت هي القاسم المشترك لما يسمى بالهوية الغربية. ‏

لا أحد من القراصنة أو حفار الأثريات يدعي بأن كل الحضارات ينبغي أن تمر في ذات المسار فهذا تعسف لا يخلو من عنصرية ولكن الكل مجمعون على أن المسار الغربي هو المسار الوحيد الجدير بالاحترام والتقدير, ولا بد من رفض بديلين يكثر الحديث عنهما الآن: التعددية الثقافية أولاً, والخلاسية الحضارية ثانياً ذلك أن التعددية تشابه لعبة يلعب فيها كل لاعب حسب قوانينه الخاصة باللعب ثم أن الخلاسية هي بالتعريف نفاق وهجانة وقبول التزوير. ‏

-4- ‏
وكان قد تم الاتفاق بين القراصنة وحفار القبور عشية غزو العراق على تنصيب الرئيس بوش قيصرا على الأمة الغربية الموحدة, وتزويده بكل الصلاحيات اللازمة للدفاع عنها, وفي مقدمتها تسوير الأمة الغربية بسياج فولاذي يحميها من تدفق المهاجرين الملعونين وتفتيت كل التجمعات والتنظيمات المعادية مثل مؤتمر عدم الانحياز, والتحالفات الجنوبية الأخرى, واتهام كل الرافضين لسيادة الأمة الغربية بالإرهاب, وتهديد السلام العالمي: كما تم الاتفاق على شحن المواطنين في الأمة الغربية بالحماسة الدينية والتعصب العنصري. ويبدو أن هناك خطة مبرمجة تطبق بنودها, بدهاء وتصميم, وما يجري حالياً ليس أكثر من تكريس متسلسل لهذه الخطة, ولكن الخلل لابد من أن يتسرب إلى الخطة فيما يرى مثقفو التفاؤل ليحدث فيها تشققا, بل قد يدفع بها إلى الانهيار الكامل, وهذا ما عبر عنه الرافضون للاستكانة حينما أعلنوا بلسان ايفناسيو رامونيه كلا لن ينجح الاستئثار ولو تسلح بأفتك أسلحة التدمير الشامل, ولابد من حوار الحضارات, ولابد من بزوغ فجر الإنسانية الجديدة, آجلاً أم عاجلاً!

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

التعليقات

تحيايتي لك دكتور غسان وللصديق الذي أرسل إلي المقال أتفق معك في كل جوانب المقال عدا واحدة .... أي أنني ضد كل هذه الأشكال من الطروحات الغربية القائمة على إلغاء الآخر وإهمال تأثيره وحتى وجوده في هذا العالم .... رأيي أن النقطة الوحيدة التي لا أتفق معك فيها هي تسمية الحضارة الناشئة من هذه المنطقة، في معرض طرحك للعوالم الأخرى الموجودة على الأرض والمكونة للنسيج البشري العام حضاريا وفكريا واجتماعيا، بالحضارة العربية الإسلامية أو لأجل الدقة العالم العربي الإسلامي ... هذه التسمية تشعرني بنوع من الظلم والغبن والإهمال لبقية الحضارات والعوالم المكونة لحضارة هذه المنطقة أو هذا العالم، دون أن أنكر أهمية العامل الإسلامي كمكون للحضارة العربية، حتى أنه في اعتقادي هو العامل الأهم لتكوين هذه الحضارة و هذا الفكر. وقد تكون هذه التسمية مريحة جغرافيا وسياسيا من ناحية أنها تظهر تأثير الحضارات الأخرى الغير العربية في فكرنا وحضارتنا الحالية ولعل أهم مثال على ذلك هم الفرس وتأثيرهم الأهم في الحضارة والفكر الإسلاميين. هذا غير أن الإسلام ومنتجه الحضاري والفكري الهام جدا إنسانيا لم يأت من الهواء ولا من الفراغ و إنما هو ثمرة صهر كل الثقافات والحضارات التي وجدت في المنطقة وحولها، هذا بداية، ومن ثم إضافة تأثير كل البلدان التي وصل إليها الفتح الإسلامي، دون أن يعني ذلك أن ما قام به من هذا أو ذاك خاطئ أو منافي للأخلاق بمثل الدعوات الغربية التي ذكرتها في مقالك. وأعود لأكرر بأنني متفق معك في كل جوانبه، لكن يبقى أن هذه التسمية لا تريحني و تشعرني بالظلم لباقي المكونات الاجتماعية والحضارية في منطقتنا العربية. شكرا

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...