غسان الرفاعي: الجيــل المتبـرعــم يتحــرّك

24-01-2011

غسان الرفاعي: الجيــل المتبـرعــم يتحــرّك

-1-
في مناخات القتام التي تحيط بنا، تتلامح للبعض منها صحوات افتراضية هي أقرب إلى التفريج عن الكرب، التهرب من الضيق، منها إلى الحلول المتمهلة المبنية على الدراسة والتحليل. أحد الأصدقاء وهو شيخ لا يخلو من حكمة ووقار قال لي ذات مرة: (لا يمكن تطهيرنا من التلوث والخمول إلا بالاغتسال بالدم، قد لا نصحو إلا إذا حلت بنا نكبة مثل هيروشيما أو ناكازاكي..!) وتذمر صديق آخر وهو معروف باتزانه الملتبس وقال: (وماذا لو قبلنا المشروعات الأميركية المعروضة علينا بدهاء عوضاً عن ادعاء المقاومة؟) وتفاخر مثقف مغربي قائلاً: ما نحتاج إليه هو تقشير جلودنا والتنصل من وجوهنا التراثية القبيحة؟. ‏

-2- ‏
قد تكون الذكريات على ما فيها من رومانسية وفانتازيا ونرجسية ملاذاً لمن أطبقت عليه الكآبة وأفقدته القدرة على الرؤية الواضحة، ولعل الذكريات التي أختزنها وتسكنني باستمرار هي المهماز الذي يدفعني إلى مواصلة العمل والكتابة، خصوصاً حينما تصبح الأحداث الجارية جروحاً دامية، وقد تقتضي النزاهة أن أعلن بأن هذه الذكريات تخلو من البعد الايديولوجي ولكنها مثقلة بالكثافة العاطفية، لقد أثارتني صورة نشرت في صحيفة (الاندبندنت) البريطانية إبان الغزو الأميركي للعراق تصور جندياً أميركياً يدوس بجزمته العسكرية على رأس مواطن عراقي مبطوح على الأرض ويصرخ به: من أنت؟ ويجيب العراقي بإباء (أنا عربي) ويعود الجندي الأميركي إلى الصراخ: (واسم مدينتك العراقية؟)، ويجيبه العراقي: (أية مدينة من المحيط إلى الخليج!) وشعرت بالفخر، وتذكرت أننا كلنا ذات يوم كنا نتحدث عن الوحدة العربية وعن وطن كبير يمتد من المحيط إلى الخليج وأن جيلاً بكامله قد ارتبط بهذه الوحدة. ‏

-3- ‏
مازال متوهجاً في ذاكرتي المقال التحليلي الذي كتبه دانيال باييز المستشار السري للرئيس بوش في (النيويورك صن) عن (فوائد الحرب الأهلية في العراق) فلم أصدق أن الشر يمكن لن يتغلغل داخل تلافيف الدماغ إلى هذه الدرجة، وعجبت كيف يختزن هذا المستشار كل هذا الحقد وهو الذي صك فكرة (محور الشر) التي استخدمها رئيسه لتعبئة الرأي العام ضد دول لا تزال ترفض الاستكانة والخضوع لإملاءاته. ‏

يعترف دانيال باييز في مستهل مقاله بأن الأوضاع في العراق (سيئة للغاية) لكنه يسارع إلى القول إن الولايات المتحدة ليست مسؤولة عن هذا السوء، ولا يخجل من الاعتراف بأن هذا السوء هو من مصلحة الولايات المتحدة ويورد مجموعة من الأسباب المقنعة لدعم وجهة نظره (المبتكرة!). ‏

الأول: إن المسلمين والعرب منهم خاصة ليسوا (ناضجين) بما فيه الكفاية لتقبل الديمقراطية، ومن الخطأ الإصرار على فرض هذه الديمقراطية عليهم لأنها لن تؤدي إلا إلى المزيد من الأذى وستكون وبالاً على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، إن الحرب الأهلية جزء لا يتجزأ من التكوين الاجتماعي والسياسي للتاريخ الإسلامي، ومن العبث محاولة (انتشال) المجتمع الإسلامي العربي من الاقتتال الطائفي والاثني، وعلى هذا الأساس يتوجب على الولايات المتحدة أن تستفيد من هذه الخصوصية وأن تستثمرها بذكاء وبراعة. ‏

الثاني: إن الحرب الأهلية المتأججة في العراق ايجابية على المستوى الجيوستراتيجي لأنها لا يمكن أن تنحصر في العراق ولابد أن تصيب البلدان المجاورة بالعدوى ثم إن هذه الحرب الأهلية ايجابية على المستوى السياسي لأنها تثبت أن وهم إشاعة الديمقراطية التي يتمسك بها بعض السذج في الإدارة الأميركية، مؤذ جداً على اعتبار أنها لن تكون نزيهة وديمقراطية فعلاً إلا بانتصار الاسلاميين وحصولهم على الشرعية الدستورية، عن طريق الاقتراع، كما حدث في الأرض الفلسطينية وخاصة غزة. ‏

الثالث: إن أهم خصوصية لاستمرارية الحرب الأهلية هي إشغال العراقيين بقتل بعضهم للبعض الآخر، وتخفيف الإجماع على مقاتلة القوات الأميركية المحتلة، وتبرير بقائها في العراق، إذ سيحاول كل فريق في الحرب الأهلية (الاستنجاد) بهذه القوات والتحالف معها للانتصار على الفريق الآخر. ‏

الرابع: سيكون العالم أكثر أمناً واطمئناناً، بعد استجرار المسلمين إلى الاقتتال فيما بينهم، مما سيؤدي إلى زوال التهديد الإرهابي للولايات المتحدة في نهاية المطاف وتفتيت الوحدة الإسلامية وتحقيق الهيمنة الأميركية على بعض الدول التي لا تزال تحتكر الطاقة النفطية، ولا تزال تحلم بمحاصرة إسرائيل بل وزوالها، كما يكرر الزعيم الإيراني الشاب من دون توقف. ‏

والنتيجة التي توصل إليها هذا المستشار المحافظ الشرير هي التالية: قد تكون الحرب العراقية الأهلية كارثة إنسانية ولكنها (بركة استراتيجية)، ولا يجوز السعي إلى إنهائها، أو إلى إطفاء نيرانها، أو إلى إقناع الأطراف المتنازلة بإيجاد تسوية لها... ‏

-4- ‏
كتب أحد المثقفين الشباب، التونسي الأصل، في صحيفة الأكسبرس، يصف الحالة التي توصل إليها شباب بلاده: جيلنا المهزوم بقياداته التاريخية، وأحزابه المتناحرة وطروحاته المترهلة، أوصلنا إلى هذا المأزق: الوطن الفسيح يتقلص وينقلب إلى زنزانات والتصحر يزحف إلى حقولنا وبساتيننا الخضراء والمهانة تطارد شبابنا وهم يتسولون (كسرة عمل) في الفيافي والقفار، ومستنقعات الوحل المروية بالدمع والدم تجتذب الجميع وليس هناك إلا هتاف واحد يعلو مع قرقعة للسياط وزمجرة الجلادين (الله يستر!). ‏

غير أن الجيل الجديد المبرعم بدأ يتحرك ويدق أبواب المستحيل ليكشط عنا طيات الخمول والاستكانة وليجري في عروقنا دماء طازجة جديدة، وقد يبدو تحركه متلعثماً وصراخه مبحوحاً ولكن هذا كله من تباشير الصحة ومن بواكير العافية. ‏

-5- ‏
وفي صخب المسيرات التي جيشها الجيل الجديد من التونسيين المهاجرين، التقيت شاباً في حارة من حارة (مونمارتر) فقال لي بحذلقة غير مألوفة: احتفظ في مكان مخبوء في صدري بصندوق صغير تتراكم فيه طموحات وآمال ورغبات مزركشة كقوس قزح، وحينما اعلمت أنني سأسافر إلى الخارج، نقلت محتويات الصندوق إلى قلبي: فشعرت بالدفء والخفة، وكأنني أقفز فوق حواجز الممنوع والمحرم والمحظور، لرصد كل عالم السحر والضوء والضجيج المخملي ولكن تونس بقيت مضفورة كحبل من الياسمين حول عنقي وشذاها تهرب إلى عروقي ويسكن خلاياي لتبقى معي وأنا أطوف حول تور ايفيل أو قوس النصر وحدائق التوليري رمزاً لأصالة أتعلق بها وحرية مرهون لها وبساتينها تنفرش في بشرتي لا تلغيها الأشجار الباسقة ولا بسط الاخضرار الدائم، صدقني أنا مسكون بانخطاف شرقي دائم ووجد وطني يحيرني ويبهرني. ‏

‏ -6- ‏
وفاجأتني فتاة في مقهى (كلوني) يتردد عليه هامشيون يتفاخرون بقدرتهم على التمرد والغضب: لن تجعلوا مني آلة تنسخ غثاثتكم، ولن أفقأ عيني للتستر على تخاذلكم ولن أجعل من ذاكرتي مخزناً لضلاكم أشعة الشمس تحرق شراييني، ووهج الحقيقة يغلي في قلبي وحرقة التمرد تنطلق من شفتي جارحة مؤلمة قاتلة. ‏

(إنكم مزورون، لا فرق فيكم بين من يحتمي بالتراث ومن ينتحل المعاصرة، ومنافقون لا فرق بين الحاجب الذي يقف على باب السلطان والثوري الذي يزرع الموت في الساحة العامة. هل ترتجفون؟ هل أخافكم أن تسقط الأقنعة عنكم، امرأة شابة تعودتم أن تحتفظوا بها جارية في سراياكم، وألفتم أن تصلبوها في أقبيتكم؟). ‏

-7- ‏
المدهش في الشهادتين أنهما تصدران عن مواطنين فضلا (الاغتراب) القسري واندمجا في نسيج المجتمع الجديد الذي انخرطا فيه، بكل ما يملكان من حيوية ومطامح، قد يكونان نموذجين خارقين لا علاقة لهما بخصوصية المواطن العادي، ولكن اللافت في اقوالهما هذا الارتباط العميق بتراب الوطن، هذه اللهفة الرومانسية للعودة إليه، والمساهمة في تطويره وتحديثه وتحريره من عاهاته وعلله.

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...