عودة البرجوازية إلى الديار السورية

12-03-2008

عودة البرجوازية إلى الديار السورية


بعد قطيعة دامت ثلاثة عقود، بدأت طلائع البورجوازية تعود إلى الحياة الاقتصادية من جديد، مستفيدة من جملة متغيرات محلية وإقليمية ودولية، لكن هذه العودة كانت وماتزال حذرة أملاً بمزيد من الحوافز.هذه العودة كانت فأل شر عند بعض شرائح المجتمع، التي رأت فيها – البورجوازية – سبباً مباشراً في ارتفاع الأسعار، وتركز الثروة في أيدي قلة قليلة، وبالمقابل ازدياد الفقراء فقراً.

- لعل مصطلح "البورجوازية" من أكثر التسميات التي تثير الحساسية حتى لدى أصحابها، والذين يُفترض أن يبدوا ارتياحاً لدى سماعه، إلا أن الثقافة التي سادت طيلة العقود الأربعة الماضية، والتي حملت على البورجوازية بشدة، أدت إلى تشويه هذا الطبقة في أذهان الناس، وبالتالي لم يكن مستغرباً أن يلجأ معظم مَن تنطبق عليهم هذه التسمية إلى نكران انتمائهم لها..
ومع عودة البورجوازية إلى المشهد الاقتصادي السوري في السنوات الأخيرة، فقد حدثت جملة إفرازات فيما بينها، ليغدو لها أكثر من تصنيف.
المحلل الاقتصادي نبيل سكر (ابن العائلة البورجوازية) صنف البورجوازيين إلى فئتين: كتلة العائلات البورجوازية المعروفة، والطبقة الجديدة (أي ممن كونت ثروات بطرق شتى دون إرث سابق)، وهناك من يضيف إلى هذا التصنيف فئتين أخريين:
* البورجوازية التابعة (تلك التي حصلت على امتيازات دون غيرها).
* البورجوازية الصغيرة (التي تعمل في صناعات صغيرة).
في تعليقه على هذا التصنيف، يرفض الصناعي سامر الدبس مصطلح البورجوازية، لأنه يذكره بحقبة ماري أنطوانيت و"أكلة البسكويت" ولأن هذا المصطلح يحمل دلالات لدى شرائح واسعة من الشعب توحي بأنها مستغِلة وطفيلية.
وبذا يفضل الدبس تسمية الطبقة المنتجة على البورجوازية لأنها – برأيه – طفيلية عفنة.
كذلك اعتبر الصناعي عصام أنبوبا من البورجوازية (الوطنية)، وهو المصطلح الأدق برأيه لأصحاب رؤوس الأموال ممن يستثمرون في البلد، وتصب استثماراتهم في الصالح العام.
في حين امتنع الصناعي عدنان مكتبي عن تصنيف نفسه أو عائلته إلى البورجوازية، معتبراً نفسه أحد رواد الأعمال الشباب، وإن ألمح إلى أن جميع اقتصاديات العالم – وليس الاقتصاد السوري فحسب – بحاجة للبورجوازية التي تخدم الاقتصاد.
مكتبي صنف البورجوازيين في فئتين: الأولى ممن يملكون المال، لكنهم يعتبرونه وسيلة لتحقيق غاية تتمثل في تحقيق مصلحة مشتركة لهم وللاقتصاد الوطني على حد سواء. والثانية ممن يملكون المال، وهو بالنسبة لهم غاية أولاً وأخيراً، وهؤلاء يمثلون البورجوازية التقليدية التي أكل عليها الدهر وشرب.
ابن العائلة البورجوازية، رئيس غرفة تجارة دمشق راتب الشلاح ذهب إلى أن البورجوازية لم يعد لها وجود "فالأسماء التي كانت موجودة قبل 30 عاماً لم تعد ذات فاعلية، والأسماء القليلة المتبقية لم تعد مؤثرة".
البورجوازية – وفقاً للشلاح – التي تتركز الثروات بيدها، سواء الصناعية أم الزراعية أم التجارية، وهذا غير موجود في الوقت الحالي. والثروة الحقيقية برأيه تكونت اليوم إما عن طريق استثناءات استغلها البعض، أو نتيجة لارتفاع أسعار العقارات. أما التجارة فلم يكن لها نتائج مهمة، معترفاً بنجاح بعض الصناعات نتيجة الرؤية السليمة.
وحول الخلاف بشأن التسمية بين البورجوازيين السابقين – افتراضياً – يرد نبيل سكر على مَن يرفض تسمية القطاع الخاص بالبورجوازي بالتأكيد على أصالة هذا المصطلح، داعياً إياهم إلى البحث عن معناه في القاموس..

- بعيداً عن الخلاف حول التسمية، يرى المراقبون أن عودة الطبقة البورجوازية تزامنت مع صدور قرار عن وزير الصناعة عام 1988 يسمح للقطاع الخاص بالاستثمار في المجال الصناعي.
سامر الدبس الذي عاد إثر هذا القرار، أرجع الفضل في عودة البورجوازية إلى القانون رقم /10/ عام 1991 الذي شجع على استقطاب الاستثمارات، وتوج فيما بعد بنهج الإصلاح عام 2000 مع تسلم الرئيس بشار الأسد مقاليد الحكم، الأمر الذي كان له أكبر الأثر في عودة الرساميل الوطنية المغتربة.
بالمقابل لم يختلف أستاذ المصارف في كلية الاقتصاد أكرم الحوراني على أهمية القانون /10/ في عودة الرساميل، إلا أنه يرى في المؤتمر القطري العاشر عام 2005 حجر الأساس في عودتها، نظراً لما تضمنه من إعلان واضح عن التحول في اقتصاد السوق الاجتماعي والذي يعني إفساح المجال واسعاً أمام القطاع الخاص يستثمر في معظم القطاعات، وهو ما تجسد – بحسب الحوراني – في صدور عدة قوانين مالية ومصرفية ونقدية، إضافة إلى صدور قانون جديد للاستثمار (مرسوم 8)، وكان من شأن هذا كله فتح المجال للقطاع الخاص للإسهام بقوة وفاعلية في مسيرة الاقتصاد الوطني.
بينما كان لعصام أنبوبا رؤية مغايرة حول عودة البورجوازية، فهي ظهرت على ثلاث موجات: "الأولى تزامنت مع القانون (10)، وأنا قدمت معها، والثانية بعد مجيء السيد الرئيس عام 2000، والثالثة ظهرت مع بروز الشركات الضخمة (القابضة والمساهمة) إضافة لإحداث المصارف وشركات التأمين..".
عدنان مكتبي خالف الجميع، مشككاً بإمكانية الجزم بأن القوانين والتشريعات الحكومية قد ساهمت فعلياً في عودة البورجوازية، "لأنه لم يعد هناك بورجوازية بالمعنى الحرفي القديم، فالبورجوازية الحالية تتمتع بالمرونة، لذلك فهي تستطيع أن تتبلور وتأخذ أبعاداً ومنحنيات جديدة تتناسب مع أي من التشريعات والقوانين ولو نسبياً، وفي كل زمان ومكان يمكننا أن نرى أشكالاً ونماذج جديدة منها متناسبة مع مسيرة الاقتصاد الوطني".

- يبدو أن ظهور البورجوازية من جديد، وإن كان ذا منفعة وداعماً للاقتصاد، إلا أنها بدأت تتلقى الاتهامات بسحب البساط من تحت الدولة، واستغلال حالة اختلال الوزن الذي يشهده الاقتصاد نتيجة التحول، وبالتالي الوقوف وراء موجة انفجار الأسعار المستمرة خلال السنوات القليلة الماضية.
في رده على هذا الاتهام، نأى سامر الدبس بالبورجوازية الصناعية عن هذه الحملة، ملقياً باللائمة على البورجوازية التجارية التي تتسبب في ارتفاع الأسعار "الحلقة المفقودة بين المنتج والمستهلك هي مَن تتسبب في ارتفاع الأسعار، فالتاجر والمستورد هما المستفيدان وليس الصناعي، والتجار والوسطاء والسماسرة هم المسؤولون، هذه الطبقة تستفيد ولا تشبع، وهنا دور الدولة في لجم هذه الطبقة التي أستثني منها بعض التجار الوطنيين".
رئيس غرفة التجارة راتب الشلاح استغرب من اتهام الصناعيين لهم، من منظور وجود منافسة كبيرة تنتفي معها إمكانية تحكم أحد بالأسواق، "لابد من الإقرار بوجود موجة غلاء عالمية يشهدها العالم وتشكو منها أوروبا وأمريكا وحتى الصين".
إنما الأسعار ليست مشكلتنا الوحيدة – بنظر الشلاح – بل إن المشاكل الداخلية مؤثرة أيضاً "ترى الحكومة مثلاً في موضوع دعم المشتقات النفطية استنزافاً للخزينة، وهذا الموضوع سيكون له أثر كبير ومباشر على رفع الأسعار، إضافة إلى أن استقطاب المشاريع الاستثمارية مازال دون الطموح، فضلاً عن كونها بعيدة عن القطاعات الرئيسية المحركة للنمو".
الشلاح وجد في تغير العادات الاستهلاكية عاملاً لا يمكن إغفاله، ذلك أن الثقافة الاستهلاكية انفجرت، بالرغم من أن الدخول لم ترتفع بالشكل المطلوب.
من جانبه حمّل الحوراني الدولة مسؤولية ضبط الأسواق بما تمتلك من أدوات ضريبية وسياسية تخوّلها التدخل لتأمين الجانب الاجتماعي من اقتصاد السوق، وهو ما يعتبره مناطاً بها.

- ينظر البعض إلى الشركات القابضة التي ظهرت مؤخراً، على أنها تجمع بورجوازي يسعى للسيطرة على الأسواق، مستشهدين على ذلك برساميلها الضخمة ومشاريعها الكبيرة التي لن يكون بمقدور أحد الوقوف في وجهها.
عصام أنبوبا (مساهم في شام القابضة) رأى مغالطة في النظر إلى هذا النموذج من الشركات بهذه الطريقة، لأنها تهدف – الشركات – إلى إعطاء دفعة قوية للاقتصاد، والغاية منها أن يدعم الصناعيون بعضهم نظراً لأن لا أحد منهم يستطيع القيام بهذه المشاريع بمفرده.
بدوره أشاد عدنان مكتبي بهذا النمط من الشركات، نافياً أن تكون تكتلات بورجوازية بالمعنى البورجوازي الكلاسيكي، "لأنها من منطلق علمي اقتصادي تساهم نسبياً في تحقيق المنفعة والقيمة المضافة للاقتصاد، ويجبرها دخول الأسواق من باب واسع إلى تحقيق الميزة التنافسية لها، وهذا ينعكس بالإيجاب على المجتمع بشكل عام والفرد بشكل خاص".
غير أن مكتبي اعتبرها موجهة بشكل لاإرادي ضد البورجوازية بمعناها التقليدي، وهذا الرأي يتفق معه الكثيرون، بل إنهم يجدونها موجهة ضد بعض البورجوازيين من أمثال راتب الشلاح.
الشلاح نفى عموماً أن تكون موجهة ضد أحد، وبالنسبة له فقد أبدى مرونة في إمكانية الإسهام فيها "بالنسبة لي فقد دُعيت للمساهمة فيها، لكنني لا أملك ما يكفي للمساهمة فيها، فابتعدت عنها".
وفي هذا الصدد يبدو الشلاح حذراً من إمكانية أن تلقى هذه الشركات معاملة خاصة – وهو ما لم يتم حتى الآن – لأن ذلك سيؤدي إلى عدم المساواة "وسوى ذلك فلا ضير من دخول دماء جديدة وعقول جديدة إلى السوق، فهذا يحدث توازناً، وكل ما أتمناه ألا تُعطى الشركات القابضة ميزات في صنع القرار أو التأثير على صناعته".

يكيل البعض الاتهامات للبورجوازية بالاستفادة من البنى التحتية دون مقابل، ومن جانب آخر يتهمونها بالتقاعس عن أداء دورها في التأسيس لهذه البنى التي تعد مفصلاً أساسياً في استقطاب الاستثمارات.
البرلماني سامر الدبس أقر بفضل الدولة في تأسيس البنى التحتية إلا أنه يذكّر بأن هذه من مهام الدولة في جميع دول العالم "وبالأساس ليس بمقدور القطاع الخاص، بل وليس مسموحاً له القيام بمشاريع البنية التحتية، علاوة على أنه ليس مطلوباً منه القيام بذلك. ومن يقول إن القطاع الخاص لم يقم بذلك، فهذا شيء لا غبار عليه، لكنه بالمقابل لا يستطيع العمل بدون بنى تحتية، كما أن المستثمر العادي لا يمكنه القيام بذلك بنفسه، فمن غير المعقول أن ينشئ محطة توليد كهرباء بنفسه".
هذا النفور من القطاع لجهة الاستثمار في البنى التحتية، رأى فيه أكرم الحوراني أمراً طبيعياً، لأنه استثمار طويل الأجل ذو عوائد معتدلة أو منخفضة، ومخاطر مرتفعة "لذلك فإن تلك الشركات غير متحمسة لهذا النوع من الأعمال، لأنه يمسّ شريحة واسعة من المواطنين ذوي الدخول المنخفضة الذين لا يستطيعون تحمل تكلفة تلك الخدمات إذا ما نفذها القطاع الخاص".

 

محمد الأحمد العلي

بالإتفاق مع مجلة «تجارة وأعمال» الصادرة حديثاً بدمشق

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...