سعاد جروس تكتب عن "ابي عماية" السوري

14-07-2007

سعاد جروس تكتب عن "ابي عماية" السوري

الجمل ـ سعاد جروس : إذا صحت نظرية داروين في التطور بأن أصل الإنسان قرد, فإنها حتماً لا تصح على الإنسان السوري إذا اعتبرنا أنه جنس بشري, وليس مجرد انتماء لبقعة جغرافية. وعدم صحة نظرية داروين عليه مرده إلى انفراده دون سائر البشر بخصائص تجعله اقرب إلى الخلد الملقب شعبياً بـ (أبي عماية) منه إلى القرد.
استمد أبو عماية لقبه من تميزه بالعمى لغياب فتحات ظاهرة للعينين, والمعروف أنه يهوى حفر الأنفاق على عماها ليل نهار, متنقلاً من موقع لآخر تحت سطح التربة. وقديماً اعتقدت جداتنا بأن التراب الذي يخلفه أبو عماية معقم, فاستخدمنه لعلاج تسميط الأطفال, اعتقاداً منهن أنه قادر على امتصاص الحرارة وتبريد لهيب السماط.
هذا المدخل العلمي والشعبي عن خصوصية أبي عماية, كان تمهيداً للقول بأن من يعش في دمشق سيلمس تمتع إدارات المحافظات المتعاقبة بهذه الخصوصية والتي انقلبت تخصصاً, اللهم سوى أن الأتربة التي تخلفها حفرياتهم لا تنفع إلا لذر الرماد في العيون ­ وما أكثر الرماد ­ فهم يشتغلون ويشغلون ويتشاغلون بهموم الوطن والمواطن. والدليل أعمال الحفر والنبش في الشوارع التي لم تهدأ منذ سنوات طويلة, لا صيفاً ولا شتاء, فأينما التفتَ هناك لوحات تنبيه إلى وجود (حفريات) و(تحويلة طريق) من جراء العمليات الجراحية الشغالة في سائر أرجاء المدينة, شوارع وأرصفة وساحات, تعمل على تزفيت المزفت وتقبيع المبلط, تتجلى بفتق ورتق شبكات الصرف الصحي والكهرباء والهاتف .. إلخ في معادلة تسكيج لامتناهية ومتنامية طرداً مع استمرارها.
فإذا جُددت أسلاك الكهرباء, انضربت علب الهواتف, وإذا أصلحت تمديدات المياه, انبعج الصرف الصحي, وهكذا دواليك إلى يوم الدين... بالتآزر والتعاضد مع شق الأنفاق والأنفاس ومد الجسور وكسر الظهور. فلا تكاد الأعمال تنتهي في ساحة الأمويين, حتى تبدأ في ساحة العباسيين, ثم من العباسيين إلى دوار البيطرة وباب شرقي, ومنها إلى ساحة المحافظة, فإلى الجسر الأبيض والمهاجرين..الخ, في نهم تصليحي محموم, لا يقضي على الخراب, بل يزيد طينه وسخامه بلة, حتى ليتعجب المرء, كيف أن كل تلك الورشات, لم تفلح في وضع شارع واحد في المدينة جاهزاً للمشي, أو خارج مخططات مشاريع التصليح في المحافظة!! وهو أمر لعمري نستحق عليه دخول قائمة عجائب الدنيا السبع. المفارقة أن الشره للحفر والتحفير, لا يقتصر على الجهات التنفيذية الحكومية, بل أن الشعب السوري مصاب بهذا الهوس, أليس هو من سلالة أبو عماية؟ فمع كل ساكن جديد لمنزل أو مكتب أو حتى دكان, مالكاً كان أم مستأجراً أو مستثمراً, لا بد له من نفضة صغيرة أو كبيرة للمكان ترواح بين الأسبوع والشهرين, يستمتع خلالها الجوار بضجيج ضرب المهدات وعزف الكومبروسرات, من الصباح الباكر حتى المساء, وما أن ينجز الإصلاح المأمول حتى يفكر المصلح أصلحه الله, بالبيع لأن التحسينات المضافة, حسنت السعر وزادت الربح, وهذا باب رزق فتحه السوريون بأمخاخهم التجارية, وصار تغيير الأبواب والشبابيك والسيراميك من برة لبرة بحد ذاته تجارة رابحة, في حركة إصلاح زائفة تبقي على الأساسات المتهرئة والمتداعية داخل كسوة سوبر ديلوكس مذهبة, (أي من بره رخام ومن جوا سخام) سرعان ما يكتشف الشاري أنها بحاجة لحركة استصلاح ملحق للأولى وربما للثالثة أو السادسة, من ترقيع وتلميع... وهكذا دواليك.
بعد أن أثبتت هذه الفكرة نجاحها وأصبحت جاهزة على الدوام للتنفيذ, تم تعميمها على جميع المجالات من خطط التنمية المستدامة التي تضعها حكومتنا الفهلوية, وترجمتها إلى عملية تصليح مستدامة مادام بقاؤها, ترافقها متواليات حفريات وردميات لا تنقطع, مصحوبة بتعهدات وتلزيمات بمئات الألوف والملايين من الليرات. والحصيلة, تنعم الجماهير برغد العيش في خضم ورشات مثل البق لا تهدأ ولا تنام, وما كنا لنعبر عن الانزعاج منها لولا أنه أضيف إليها ازدحام سيارات انهمرت بين ليلة وضحاها لتغرقنا بسيل من آليات تضاعف عددها خلال عام على ذمة دائرة المرور القائلة أن عددها في دمشق وريفها قفز ما بين عامي 2005 ­ 2006من 326 ألفاً إلى 400 ألف مركبة, طبعاً أرقام 2007 لم تحص بعد, وما خفي أعظم...
المهم أن كل تلك المركبات, وما يضاف إليها من سيارات وحافلات مقبلة من خارج العاصمة تتحرك وتتوقف في شوارع بقيت على حالها منذ عقود طويلة, ولم يبن قريباً منها مواقف عامة تزيح عن كاهلها تكدس السيارات على جانبيها, فلم تترك متسعاً للمرور أي مرور سواء من يدب دباً أو يسير سيراً. فتنسد السبل وتتحشرج بالاختناقات المرورية, وفوقها تفشي الحفريات بما يحكم الطوق على عنق المدينة, فيتراكب الحديد والبشر والحجر والشجر فوق بعضهم بعضاً, فيصبح مشوار النصف ساعة يستغرق ساعات, والأعمال التي تنقضي بيوم تحتاج شهوراً بسبب عجقة السير وأيام العطل والإجازات.
حيال هذا لا مجال للقول إذا أغلق باب يفتح ربك مائة باب, فكل السبل مغلقة لأجل غير مسمى, نسعد خلالها بسماع عزف سمفونية الإصلاح الخارقة يتناغم فيها جعير الزمامير مع صرير الجرافات ودوي الحفارات, على خلفية موسيقى افتتاح الدكاكين وأصوات الباعة الجوالين في مشهدية تلوث بيئي عارم, يعج فيها غبار يضارع الدخان الخلبي ذلك الذي اكتشفته درامانا السورية في يوم أغبر, وتلقفته فرق الاستعراض ليغدو أحد سمات استعراضاتنا المسرحية, في أبلغ تعبير عن الرؤية السورية الإبداعية في كل المجالات, إذ كل شيء ملفوف بالضباب ومشفوع بالغبار إلى حد الاختناق بالفنون والثقافة مع إعادة تأهيل المدن, لأن أبي عماية المصاب بالعمى والمولع بالحفر شغال على جميع المستويات, أينما توجهنا وحللنا و«لوين بدنا نروح يا حكومتنا سبقتنا الدني وما بقى تحرز يفرقنا العمى».
ملاحظة: نعتذر من فيروز لما أصاب أغنيتها من تحريف بسبب أعمال الحفريات.


بالاتفاق مع الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...