الأنترنت عالم السوريين الافتراضي

29-10-2006

الأنترنت عالم السوريين الافتراضي

في سورية وبلدان عربية مشابهة وفرت شبكة الانترنت لقطاع ناشط من السكان مخرجا تكنولوجيا من مشكلات سياسية وثقافية واجتماعية ما كان حلها متصورا إلا بطرق سياسية. أولاها، مشكلة الرقابة على الإعلام والثقافة؛ ثانيتها، ضيق قاعدة إنتاج المعلومات ونشرها وتداولها والحصول عليها؛ ثالثتها، التعارف والتواصل بين أشخاص وجماعات.

كسرت الانترنت الرقابة التي كانت حتى قبل عشر سنوات سورا صينيا يتعذر اجتيازه. ورغم اجتهاد السلطات في حجب مواقع إلكترونية إلا أن الالتفاف على المنع هذا أسهل من الالتفاف على منع جريدة أو مجلة من دخول السوق المحلية. ووسعت الانترنت قاعدة الحصول على المعلومات ونشرها وإنتاجها، والتعبير عن الرأي وتوصيله، فحازت بذلك مفعولا ديموقراطيا أكيدا. ووفرت فرصا للتعارف والتواصل والتجمع الافتراضي لأناس لم يسبق لهم أن التقوا، وقد لا يلتقون أبدا. وهذا شأن عظيم الأهمية في بلد تحرم فيه حالة الطوارئ العريقة اجتماع الناس الطوعي والمستقل في الشارع، إن لأغراض تضامنية أو احتجاجية أو احتفالية. بذلك كله أظهرت الانترنت أنها غير محايدة سياسيا، وأنها أكثر ديموقراطية مما ترضى به السلطات السورية.

في العالم الافتراضي نتمتع بما نحن محرومون منه في العالم الواقعي: حرية الرأي والتعبير، التعارف والتواصل و»التجمع»، وحق الوصول إلى المعلومات، وبدرجة أقل إنتاجها. ليس الأمر كذلك تماما. ثمة من اعتقلوا لتداولهم مواد إنترنتية (أخبار، رسوم كاريكاتير...)، أو للتعبير عن آرائهم في «الشبكة العنكبوتية». على أن هامش الحرية في العالم الافتراضي لا يزال أوسع كثيرا من نظيره الواقعي. ودرجة استحواذ السوريين على المجال العام الافتراضي تفوق درجة استحواذهم على المجال العام الواقعي حتى في الفترة التي سميت «ربيع دمشق»، والتي اتسمت بالضبط بدرجات غير مسبوقة من التعبير عن الرأي والتواصل بين الناس والتجمع العلني المستقل. وفي المجمل نعيش فوق خط الفقر السياسي في العالم الافتراضي، فيما لا نزال عميقا دونه في العالم الواقعي.

بفضل الشبكة الدولية ازدهر وتعمم النقد السياسي والثقافي، للسلطة لكن كذلك للمعارضة، وللدولة لكن كذلك للدين. وبفضل تراخي معايير النشر في الانترنت اتسعت قاعدة الكتابة، وصغر عمر الكتاب، وتكسرت قيود لا تزال مكرسة في منابر النشر الورقية. ولبعض الوقت وفرت منتديات إلكترونية بديلا آمنا نسبيا عن «المنتديات الديموقراطية» التي أغلقت عام 2001.

غير أن التجمع في العالم الافتراضي لم يلبث أن حذا حذو نظيره في العالم الواقعي، أعني أنه تعرض للتضييق والحظر قبل التعبير عن الرأي وقبل الحجب الرقابي. ومعلوم أن خدمة المؤتمرات الإلكترونية محظورة على عموم السكان.

وقد يكون الأغنى بالفائدة عمليا هو البريد الإلكتروني بسبب كلفته المحدودة وسرعته، ولكون بدائله خدمة بريدية عادية مراقبة بشدة وبالغة البطء وغير مأمونة، أو الفاكس الذي كان الحصول عليه يستوجب رخصة وتسجيلا مسبقين. لقد حظيت مراسلات مجتمع الانترنت السوري بحق في الخصوصية لا نظير له في العالم الواقعي.

يحد من حقوق المواطنة الافتراضية في الانترنت أن عدد أجهزة الكمبيوتر في البلاد لم يكن يتعدى الـ 800 ألف عام 2005، حسب تقديرات رسمية تتسم عادة بقدر غير قليل من مجاملة الذات. هذا يعني جهازا واحدا لكل 22 شخصا (كان السوريون 18 مليونا عام 2004)، ويقدر أن نصف هذه فقط أجهزة شخصية، فيما النصف الآخر موجود في أجهزة وإدارات حكومية. أي أن واحدا فقط من كل 45 من السوريين يحوز نفاذا شخصيا إلى شبكة المعلومات الدولية.

يحد من الحقوق ذاتها أيضا نظرة إلى العالم الافتراضي تراه وكيلا أو بديلا عن عالم أصيل، عالم الصحف والمجلات الورقية. تستحق النظرة هذه أن تسمى نظرة أداتية. وبتأثير هيمنتها يصح القول إن الانترنت المحلية لا تزال فاقدة للشخصية أو الذاتية المستقلة، ولا يزال ينظر إليها كأداة فحسب في خدمة غايات تتخطاها وتسمو عليها. لذلك ربما تتصف مواقع الانترنت السياسية والثقافية السورية بضعف التنوع وتشابه المحتوى. قليل منها تفاعلي. ويخيل لنا أنه سيكتب لهيمنة هذه النظرة الدوام طالما تعوض الإنترنت عن حرمانات في العالم الواقعي. وسيكون من شأن استقلال السوريين وإشباع مطالبهم في حياتهم الحقيقية أن يفيض على إنترنتهم استقلالا وخصوصية، وحرية أيضا.

يضاف إلى ما سبق أن السلطات تشددت خلال العام الحالي في حجب مواقع وخدمات إنترنتية («صفحات سورية» و»الرأي»، وقبل أيام فحسب «الحوار المتمدن»، فضلا عن «شفاف الشرق الأوسط» و»أخبار الشرق»..، إضافة إلى العودة ثانية إلى حجب البريد المجاني «هوتميل» بعد الإفراج عنه قبل عامين)، أو دفعها إلى التحجب الذاتي («مرآة سورية»). وإذا كان صحيحا أن كسر الحجاب الرقابي ممكن تقنيا، فإن القارئ العارض قلما يتجشم عناء ذلك، وقد يخشى خطره المحتمل. هذا الحجر السياسي على قيام مجتمع سوري افتراضي يوفر محرما جديدا يلذ لبعض متصفحي الانترنت انتهاكه. لكنه يبقى حجرا فعالا في تضييق قاعدة المبادرة الافتراضية باتجاه الوصول إلى منافذ المعلومات أو التواصل بين الناس أو التجمع أو إنتاج معلومات ومنافذ جديدة للمعلومات.

وأخيرا، لا تزال الكلفة حاجزا جمركيا عاليا في وجه الانتفاع من الانترنت. إذ أن كلفة الاتصال بالشبكة لمدة ساعة كل يوم تقتضي ما يصل إلى عُشر الحد الأدنى للأجور. وهي تزيد على الكلفة النسبية للانترنت في الدول العربية الأخرى.

الاتجاه العام في البلاد يسير نحو تضييق الفجوة بين العالمين الواقعي والافتراضي بتقريب الثاني من الأول. قد تكون المطابقة بينهما صعبة، وقد يكون ما تسعى إليه السلطات احتلال موقع يتيح لها التحكم بحركات رعاياها ومبادراتهم في العالم الافتراضي دون المضي إلى حد تقييد تحركاتهم ومنع مبادراتهم. لكن لا فرق. ففي النهاية الحركة هي حرية الحركة، والمبادرة الحرة هي وحدها المبادرة.

خلاصة الكلام أن تاريخ الانترنت القصير في سورية هو تاريخ تطويق الانحياز الديموقراطي للشبكة وإخضاعها لمتطلبات سلطة رقيبة تنكر استقلالية وأولوية الحقوق، لرعاياها أو لغيرهم.

ياسين الحاج صالح

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...