الأحكام السلطانية والتراث السياسي في الإسلام

23-06-2008

الأحكام السلطانية والتراث السياسي في الإسلام

ليس في الإمكان تحميل التراث والسياسي منه خصوصاً تبعات ما يحصل في عالم الإسلام اليوم من خراب، فالمورث يتحمل جزءاً من المسؤولية في ذلك، باعتباره ما زال فاعلاً ومؤثراً حتى اليوم. وفي الوقت الذي يبلغ التراث ذروة تأثيره في الحاضر بصفته مستنداً لخطاب سياسي احتجاجي معارض (يعارض الدولة، والمجتمع، والعالم ربما) وظيفته نزع المشروعية والتجييش ضد الواقع، فإن تأثير التراث في الواقع أضعف ما يكون في تشكيل البرامج السياسية وإصلاح النظم السياسية، على رغم أن ما كتب نظرياً في هذا المجال هو هائل في حجمه قياساً لما نقل إلينا من التراث!
من القضايا التي تمثل أحد الركائز الرئيسية لفهم التراث، تأريخ المفاهيم وتفسير ظهورها وتطوراتها اعتماداً على معرفة التاريخ الخاص بها. إذ لا يمكن أن ينفصل مفهوم ما عن تاريخه، وتشكل المفاهيم المفتاحية للتراث أساس فهمه. فـظهور مصطلحات كـ «الإمامة» و «السياسة» و «الخلافة» و «الولاية» و «السلطان» أمر يحمل دلالة فكرية وواقعية تاريخية. وبالمثل، فإن ظهور مصطلحات جديدة تؤسس للتراث السياسي بصفته باباً فقهياً وأدبياً كـ «السياسة الشرعية» و «الأحكام السلطانية» أمر يحمل دلالة ذات مغزى تتعلق بهذا «العلم» وتطور نظرياته.
في ما يتعلق بالمصطلحين الأخيرين - على سبيل المثال - فإنه حتى نهاية القرن الرابع الهجري لم يظهر أي منهما، وتحديداً قبل كتابي أبو الحسن الماوردي الشافعي وأبي يعلى الفراء الجنبلي اللذان يحملان الاسم ذاته (الأحكام السلطانية) (زيد للماوري لدى بعض مترجميه: والولايات السلطانية)، لم يكن لهذا المصطلح وجود، ومحاولة فهم معنى الأحكام السلطانية من خلال التعريفات الواردة في كتب المتأخرين تبدو مضللة، إذ تكشف جزءاً من الحقيقة، والجزء الثاني يبقى مرجعه في التاريخ.
لنتذكر أولاً ان مصطلح «السلطان» لم يظهر بصفته ولاية شرعية (منصب سياسي في إطار الخلافة) من الولايات التي عرفها عصر الخلافة الراشدة والعصر الأموي. إذ كان مفهوم السلطان لا يعني (في فضاء السياسة) أكثر من سطوة الولاة، لكنه في أواخر الدولة العباسية حيث استولى المماليك (حُجَّاب الخليفة أو الإمام) على قرار الإمام، ظهر «السلطان» كمنصب سياسي جديد عدَّل في تركيبة نظام الخلافة. فالخليفة باق باعتباره منصباً «شرعياً»، والسلطان هو من يتولى الأمور فعلياً بتفويض شكلي منه، أي أن الخليفة كان تحول إلى مجرد مظلة للشرعية بالنسبة الى متولي السلطنة.
ومعلوم تاريخياً أن هذه الفترة - التي شهدت انهيار الخلافة فعلياً ثم رسمياً عبر ابتكار لقب «السلطان» - كانت في العهد المملوكي في المشرق. وربما ظهر وصف «السلطان» في الأندلس في القرن الرابع الهجري عندما استأثر أبو عامر محمد بن أبي عامر بالخليفة الأموي الشرعي «المؤيد بالله هشام بن الحكم»، وأطلق على نفسه «المنصور» فوُصف تارة بالسلطان (كما هو لدى ابن خلدون) وأخرى بالملك (كما يذكر الحميدي في «جذوة المقتبس في ولاة الأندلس»)، اذ كان فعلياً يمارس الخلافة بعد أن حجبه، وتلقب بالمنصور.
ويبدو أن وصف «الملك» شاع أولاً، باعتباره لقباً للوزير المفوض، ويزعم القلقشندي أنه مستقى من وصف الملك في «سورة يوسف» للوزير عزيز مصر. ويشرح القلقشندي في كتابه «صبح الأعشى» هذا التحول من الوزارة والحجابة إلى الملك والسلطنة، اذ «كانت في بداية الأمر إمارة استكفاء يولي عليها الخليفة في كل زمن من يقوم بأعبائها، ويتصرف في أمورها، قاصر الولاية عليها، واقفٌ عند حد ما يرد عليه من الخليفة من الأوامر والنواهي، إلا ما كان في أيام بني طولون من الخروج عن طاعة الخلفاء في بعض الأحيان.
فلما استولى عليها الفاطميون واستوزروا أرباب السيوف في أواخر دولتهم، وعظمت كلمتهم عندهم، صارت سلطنتها وزارة تفويض، وكان الخليفة يحتجب والوزير هو المتصرف في المملكة. وكانوا يلقبون بألقاب الملوك الآن، كالملك الأفضل رضوان وزير الحافظ، وهو أول من لقب بالملك، والملك الصالح طلائع بن رزيك وزير الفائز ثم العاضد. والملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي وزير العاضد، وابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وزير العاضد أيضاً، قبل أن يستقل بالملك ويخطب بالديار المصرية لبني العباس في بغداد. (...) ولما انتزعت من الفاطميين وصارت إلى بني أيوب، وكانوا يلونها عن خلفاء بني العباس، صارت إمارة استيلاء لاستيلائهم عليها بالقوة، واستبدادهم بالأمر والتدبير مع أصل إذن الخليفة وتقليده.
وكان الرشيد لقب جعفر بن يحيى البرمكي في زمن وزارته له بالسلطان، ولم يأخذ الناس في التلقيب به. فلما تغلب الملوك في الشرق على الخلفاء واستبدوا بهم، صار لقب السلطان سمةً لهم، مع ما يختصهم به الخليفة من ألقاب التشريف، كشرف الدولة، وعضد الدولة، وركن الدولة، ومعز الدولة، وعز الدولة، ونحو ذلك. وشاركهم في لقب السلطنة غيرهم من ملوك النواحي، فتلقب بذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتلقب بالملك الناصر عند استبداده بالملك على العاضد الفاطمي بعد وزارته له، ونقل ما كان من وزارة التفويض والعهد بها إلى السلطنة، وصارت الوزارة عن السلطان معدوقةً بقدرٍ مخصوصٍ من التصرف. وبقي الأمر على ما هو عليه من الاستيلاء والاستبداد بالملك، مع أصل إذن الخليفة وكتابة العهد بالملك، وهي على ذلك إلى زماننا، إلا ما كان في زمن تعطيل جيد الخلافة من الخلفاء، من حين قتل التتار المستعصم آخر خلفاء بني العباس في بغداد إلى حين إقامة الخليفة في مصر في الدولة الظاهرية بيبرس».
ويبدو أن العادة بعد ذلك جرت أن يُجمع بين منصب السلطان ولقب الملك، اذ ذكر ابن تغري بردي في كتابه «المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي» في «جلوس الظاهر برقوق على تخت الملك وخطب الخليفة [العباسي] المتوكل على الله أبو عبدالله محمد وبايعه على السلطنة، وقلده أمر البلاد والعباد، وفوض عليه التشريف الخليفتي، ثم خلع على الخليفة أيضاً، وبايعه القضاة الأربعة، وأعيان الدولة على مراتبهم، فأشار شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني الى أن يكون لقب السلطان بـ «الملك الظاهر» وقال: «هذا وقت الظهر، والظهر مأخوذ من الظهيرة والظهور، وقد ظهر هذا الأمر بعد أن كان خافياً، فتلقب بالملك الظاهر».
إن مفهوم السلطنة ولد من رحم فكرة وزارة التفويض، التي يفوض فيها الخليفة إلى وزيره (حاجبه) تدبير كل الممالك الإسلامية بالتفويض العام بلا استثناء، وقد أدى التكييف الفقهي لهذه السلطنة إلى ظهور تناقض طريف، وهو جمع وصفين متناقضين في إمارة السلطنة، فظهرت مشكلة أن ما يتولاه السلطان تفويضاً هو ما يقع تحت يد الخليفة، فما هو حكم الفتوح السلطانية الجديدة التي لم تقع تحت يده؟  أجيب عن ذلك بأنه جائز كجواز للإمام أن يقطع أرض الكفر قبل أن تفتح، و «حينئذ فتكون سلطنة الديار المصرية الآن مركبة من وزارة التفويض وإمارة الاستيلاء» على حد تعبير القلقشندي. وهكذ بدأ ينشأ فقهاً سلطانياً، يستند كلياً الى فكرتين: التفويض والاستيلاء.
لا شك في أن في هذا لا يختلف كثيراً عن أحكام الماوردي وتخريجاته في الأحكام السلطانية التي هاجمها الإمام أبو المعالي الجويني في كتابه «غياث الأمم في التياث الظلم» بشدة، لكنه في الوقت ذاته كان داعماً بلا حدود السلطان كبير الحجَّاب الوزير المفوض «نظام الملك»، حتى أنه أهداه كتابه!
وعلى رغم أن منصب السلطان استمر في عهد المماليك، فإن ابن تيمية يبتكر مصطلحاً يبدو كما لو أنه منعطف في الأحكام السلطانية، هو «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية». فوصف السياسة الشرعية كان يُطلق على تصرفات الإمام في العقوبات، لكن ابن تيمية حوله علماً على باب فقهي سياسي بالكامل، يتحدث فيه في الاستكفاء في الولايات وشروطه، وإقامة الحدود وشروطها، ويبدو أن القسم الأول متعلق بإصلاح الراعي، والقسم الثاني متعلق بإصلاح الرعية، فابن تيمية يرى أن السياسة الشرعية تتلخص في ولاة أكفاء وتطبيق الحدود والحسبة، ذلك أن «السلطان ظل الله في الأرض» وأن صلاحه فيه صلاح العباد، وأصل إصلاحه في ذلك أن تتحول الولاية من مطمع في الرياسة إلى «اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله (...) وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال بها»، على حد تعبير ابن تيمية.
هل تمثل السياسة الشرعية تحولاً في الأحكام السلطانية بتخليها عن قضايا الإمامة الرئيسية في الانتخاب والبيعة وطرق التولية والعزل، ومسألة السلطنة المقتاتة على منصب الإمام لمصلحة توطيد سلطة «أهل الإسلام» وإصلاحها؟ أغلب الظن أن هذا ما كان ابن تيمية يريده، فابن تيمية مفكر ومقاتل في ظروف الغزو التتري الآتي من الشرق وتداعي الأمم على العالم الإسلامي، وكان هاجسه حماية بيضة المسلمين.
من المؤكد أن التأريخ لمصطلحات الفقه السياسي يكشف كثيراً مما لا تستطيع المعرفة التاريخية التقليدية العامة كشفه، ففي إمكان عمل تاريخي معرفي واسع حول تاريخ المفاهيم والمصطلحات السياسية في الفقه السياسي أن يساعد على فهمه في شكل أفضل ويمكن وضعه في سياقه الواقعي.

عبد الرحمن الحاج

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...