«رحلة الهبوط» في تياترو دمشق تجربة في فوتوغرافيا المسرح

28-04-2008

«رحلة الهبوط» في تياترو دمشق تجربة في فوتوغرافيا المسرح

مراراًسيكون مدهشاً حضور عروض مسرحية بإعادة ـ الفيلم من نهايته؛ إلى مشهد البداية الصامت، أو ربما سنبدأ العرض بمشهدٍ أكثر إثارةً وتشويقاً.

عندها سنفهم تقريباً لماذا يفكر مخرجو المسرح بأن تكون عروضهم على بكرات أفلام سينمائية؛ لماذا يسعون أن يكون مسرحهم سينماتوغرافياً «مسرحاً مصوراً». ‏

هذه الرغبة التي تشغل كثيرين اليوم من شكلانيي المسرح وكتابه تضعنا أمام تجربة المخرج العراقي«مهند الهادي»، والذي استطاع أن يقدم عرضاً وفق هذا النمط عبر نص كتبه بشكل شخصي وزاوجه مع (خبز يومي) للكاتبة الألمانية «جيزينا دانك فاخت»، فخياراته كانت بتقديم العرض على مستويين من اللغة، لكن دون أن يكون ذلك جوهرياً في الشكل الذي يريد تقديمه؛ إنه مشغول تماماً بالمسرح الصوري الصامت رغم اكتظاظات الجمل المرصوفة بالألمانية والعربية على حدٍ سواء؛ حيث تطالعنا الممثلة الألمانية «إيفون ألبرس» بحضور كوميدي ساخر، مع الممثل العراقي «إياد الطائي»؛ حيث يتكلم كل منهما بلغته؛ يتواصلان دون أن تكون اللغة عائقاً دلالياً أو معرفياً بينهما، ولكن في الوقت ذاته يعيدان إلى الأذهان أجواء موجة الأفلام الكوميدية الخفيفة التي سادت ألمانيا في تسعينيات القرن الفائت، والتي ركزت في أثنائها على العلاقة بين الرجل والمرأة، وأرادت من خلالها كسب الجمهور من جديد على نحو فيلم «لا أحد يحبني 1995 لدوريس دوريه، والرجل المنفعل 1994 لزونكه فورتمان» 
 ‏ هذه المقاربة بين مرحلة تحولية في السينما الألمانية، أي بعد سقوط جدار برلين 1990 من جهة؛ وبين نصوص «دانك فاخت» من جهةِ أخرى وضعت الألمان تحديداً في المقاربة العجيبة عندما أرادوا الكتابة بين مطلعين في الحياة الثقافية الألمانية؛ بين أن يكتبوا عن الواقعية الاشتراكية، نقدها، أخطاءها، النفاذ من خلال ذلك إلى الحياة بمفهومها العمومي والجمالي؛ أو الكتابة عن الماضي الفاشستي للحرب؛ تحديداً عقدة الذنب الألمانية تجاه العالم بأسره لذلك لا يمكن أن نصف (الخبز اليومي) على أنه نص راهني بامتياز؛ إلابما يمكن هذا النص من التلميح مجدداً إلى شبح الحروب القديمة الجديدة، أو بالأحرى عن الفاشية الجديدة في العالم الأمريكي، دون المبالغة في الإسقاطات، سيكون لـ «مهند الهادي» كعراقي يعيش عام 2008 أن يعيد هذا الفيلم الأمريكي الطويل إلى بدايته النازية بالضبط إلى المشهد الذي يهمس فيه «غوبلز» وزير الدعاية الألمانية آنذاك في أذن هتلر وعلى طريقة ياغوشكسبير: عليك أن تكذب وتكذب حتى يصبح ذلك حقيقة». ‏

الآن ما معنى «رحلة الهبوط»، وأين تدخل مهند هادي في نص عنونه بالسؤال العراقي العامي «ليش»؛ السؤال الذي يسأله اليوم مليون ونصف مليون إنسان ممن قضوا في حروب النازية الجديدة. ‏

الهادي لايريد أن يقدم عرضاً عابراً على ما يبدو، إنه يحاول تقديم نموذج لرجل وامرأة في غرفة، أو ما يشبه الملجأ؛ عابراً الأماكن إلى أزمنة أخرى ربما لا يمكن الآن التكهن بجغرافيتها، لكنها على الأغلب مداورة ذكية لإيجاز البشر؛ جميع البشر في رجلٍ من عراق الدموية المفرطة، وامرأة من أرشيف «جبهة بلا رحمة» ربما كانت ضابطاً في جيش الفوهرر..! 
الآن يمكننا أن نرى كلاً من إيفون وإياد في مساحة التماس؛ وبوجهين عاديين، لكن بتصرفات صبيانية لا يمكن وصفها بسلوك ممثل البانتوميم؛ على أن المخرج قدم معظم لوحاته بأسلوب المايم، وما يتصل بذلك من استخدام الممثل لأصوات الفم والشفاه، ثم العودة إلى الجمل الخطابية المنفردة، والتي لاتذهب نحو تصعيد درامي معين؛ إنها محض جمل صوتية لا تنتمي بالضرورة إلا لسياقات الشكل الذي يزمع الهادي على تقديمه لمعرفة ما يجري خارجاً، فالبشر خارج هذه الغرفة يأكلون بشراً آخرين؛ الرعب، والقتل والفظاعة؛ هذا ما يجعل من إيفون وإياد مثالاً استثنائياً للبقاء على قيد الحياة، والتفريق أكثر بين النيئ والمطبوخ من أولئك البشر؛ بينما يقترب السقف من الرؤوس، فيضيق الأمل كمعادل وحيد لليأس المتحذلق والمعزول عن إرادة الحياة ورونقها المضيء الرائع. ‏

إيفون بألمانية ملطفة، وإياد بعربية فصيحة يتشابكان على سرير عمودي، وعبر لهو لا نهائي بالأشياء والأغراض ووضعيات الجسد يصر المخرج على تركيب الصورة الحية أمامنا؛ يراهن على الباب الأحمر كقطعة ديكور مجازية مواربة، مغلقة، حتمية ـ حقائب زجاجية تتحول إلى تلفزيونات، مقاطع متنوعة، مباراة كرة قدم للمنتخب العراقي، برنامج للطبخ باللغة الإنكليزية، فيلم بورنو ساخن جداً؛ الشقة المفترضة مقسومة تماماً إلى مكانين متشابهين؛ مصباحان، وجهان، أريكتان، وخلال ذلك يتناوب الرجل والمرأة على شغل المساحات الصغيرة؛ يتعارفان للتّو إلى طبيعة الفراغ المنصوب بينهما كشرك؛ يتلاسنان بمستويات صوتية للغتين مختلفتين، يخيل لهما أنهما اتفقا على الزواج، فكرا للحظة بإنجاب طفل من القبلة الأولى، لكنه لم يأت، كما أنه لم يظهر في الصور المتتابعة للفوتوغراف المسرحي؛ إذ لا حياة يمكن إبرامها في هذا المكان الذي ينتهي إلى انقضاض السقف على الأرضية، وعلى إيفون وإياد أن ينهضا من تحت ركام البيت الورقي بثياب بيضاء للغاية وتحت مطر مداري من فقاعات الصابون الزاهية والهلامية كوجودهما؛ كرحلتهما في المكان وتشابكهما حتى في الحلم، حيث استطاع كل من «ماريا خالد» و «حسن ظاظا» أن يعبرا وبتوقيت واحد الجدران الورقية، ليتقمصا جسمي إيفون وإياد على التوالي؛ على هيئة أشباح غامضة تمتنع عن التحقق في رجل واحد أو امرأة واحدة. ‏

مرحى «مهند هادي» رحلة الهبوط التي أردت من خلالها الاستهزاء من يقين العالم وبياضه الورقي، رغم أن المسافة التي قاربتها بين برلين وبغداد ودمشق كانت حلماً عبر خط حديدي يصل هامبورغ بشرق الجهات المقدسة على الطريق ذاته الذي مشى عليه كاليغولا حلمه القمري.. ‏

سامر محمد إسماعيل

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...