حنا مينه: سهرة.. مع العاصفة

18-09-2010

حنا مينه: سهرة.. مع العاصفة

الحادثة البحرية الثانية، جرت معي في مدينتي اللاذقية، بعد عودتي من الغربة، وطوافي، طوال شهور، على نحو ما ذكرت في «هواجس في التجربة الروائية»،.

في شوارع المدينة أزرعها بغير أمل، بعد أن عدت من دمشق، التي زرعت شوارعها، هي الأخرى، بلا أمل، فأبواب العمل انسدت، في وجهي، في المدينتين، ولم أتمكن، أنا صاحب العائلة، أن أجد ملاذاً سوى في التسكع، يدي في جيب بنطالي، وفمي يصفر لحناً حزيناً، ينسجم مع نفسيتي التي استبدت بها الكآبة لسببين: الغربة التي أحسستها في الوطن، والبطالة التي عرفتها فيه. ‏

كان هناك صاحب مقهى يدعى الحاج خليل، تربطني به صحبة قديمة، نشأت في السجن، إثر مظاهرة اشتركنا فيها ضد الاحتلال الفرنسي، نطالبه فيها بالجلاء والجيش، خلال الحرب العالمية الثانية، وما كنت أحسب، أو أفهم، في تلك الأيام، أن صحبة السجن، التي طالت عليها الأعوام، ستكون حية في ذاتها، تعيش في ذاكرة صاحبها، وتعبر عن نفسها بهذا الترحاب الذي استقبلني به، هو الذي هاجر، مثلي، وعاد يستقر في اللاذقية، ويفتح فيها مقهى يطل على البحر، نوافذه مشرعة عليه، وزرقة الماء، تتدافع مع موج يتكسر على الشاطئ الصخري، تحت تلك النوافذ، ثم ينداح على الرمال. ‏

المهم أن الحاج خليل، الذي يهوى جيرة البحر مثلي، كان قد حول مقهاه إلى متحف بحري، وهذا ما زاد في إغرائي بالتردد عليه، وفي شهر كانون الثاني (يناير) عام 1968، حدثت سلسلة من العواصف العادية، التي شهدناها معاً، وتحدثنا حولها طويلاً، مستعيدين ذكريات إبحارنا على مراكب الغربة، وما صادفنا، خلال سفرنا في البحر، من عواصف وأعاصير. ‏

وجاء يوم الجمعة 12/1/1968، وكنت في المقهى قبل الظهر، فرأينا، معاً، جهمة الجو، وبوادر عاصفة شديدة مقبلة، لكننا، مع ملاحظة ذلك، لم نكن نتوقع أن تكون العاصفة هوجاء، عاتية، على النحو الذي كانت عليه ذلك المساء. ‏

بدأت الريح تعصف منذ المغيب، وراحت سرعة الرياح تشتد، فاضطررنا إلى اتخاذ بعض الاحتياطات في المقهى، كيلا تخلع الريح النوافذ والأبواب.. ولم يكن عنده، ذلك المساء، أحد من الزبائن، فالجميع غادروا الشاطئ، الذي أصبح مقفراً، هائجاً، من فوقه سماء مربدة الصفحة، حتى إنني، إلى اليوم، لا أعرف النداء الخفي، الآسر، الذي دعاني إلى الخروج في ليلة ليلاء كهذه، بهياجها، وظلمتها، ومطرها، وريحها التي اقتلعت الأشجار من جذورها! ‏

ويبدو أن الشوق إلى العاصفة، الذي استبد بي، وأطلقني باتجاه الشاطئ، قد استبد ببحارة آخرين، وهكذا اجتمعنا ستة بحارة، في مقهى الحاج خليل، نعيش العاصفة بمشاعرنا، ووجداناتنا جميعاً، ونرقب المشهد المجنون للطبيعة، من وراء زجاج النوافذ، أو عند الخروج من المقهى، لتأدية المهمة التي كلفنا بها صاحبه، حوالى منتصف الليل، والعاصفة تزمجر من حولنا. ‏

كان دورنا أن نقوم بما يطلبه منا، ودوره أن يسقينا مجاناً، مادامت العاصفة قائمة، ونحن شبه محصورين في المقهى. وكانت العاصفة المروعة، الرئيسية قد بدأت حوالى الساعة الثامنة ليلاً، وهي عاصفة فجائية، هوجاء، غير عادية بكل المقاييس، مزقت الأشرعة، وقطعت الحبال، وحطمت الصواري في المراكب، وأدت إلى جنوح بعضها، وبعض السفن الراسية في حرم المرفأ معها، فكانت هولة لم يسبق لي أن قرأت، أو عشت، مثلها. ‏

كانت الريح تدوي، في صفير حاد، زاعق، مرعب، ونحن نشاهد المراكب والسفن، في ارتطامها على الصخور، وعلى حاجز المكسر الحجري، وتفككها، وخروج البضائع منها، في صناديق خشبية، يحملها الموج باتجاه الشاطئ، ودورنا، نحن البحارة ومعنا الحاج خليل، النزول إلى الماء، وسحب الصناديق، والبراميل، واللاطات الخشبية، ورفعها، عبر طريق ضيق، صاعدين بها إلى مستودع المقهى، ثم العودة من جديد، للسحب والرفع من جديد، والحاج خليل، البحار مثلنا، ينخينا، يسقينا، يحيينا بقوله «لنهجم، على هذه النعمة، يا إخوتي، التي ساقتها إلينا العاصفة، ومتى انتهت ستكون لكم مكافآت مجزية!». ‏

إلا أن العاصفة لم تنته، من الثامنة ليلاً، إلى ظهر اليوم التالي، فهي، من ناحية الأرصاد الجوية، عاصفة لم يشهدها البحر في اللاذقية، عمره كله. فقد رافقها مطر غزير، وأمواج جبالية، لم يعرف لها مثيل، وقد قاوم مكسر المرفأ الرئيسي مدة 12 ساعة، ثم حدثت فيه ثغرة، وبدأت، من هذه الثغرة، الكارثة، فدمرت الريح التي بلغت سرعتها 130 كيلومتراً في الساعة، وتكسرت، لشدتها، أبواب مستودعات المرفأ الأمامية، واجتاحت الأمواج المقاهي الواقعة على الشاطئ، ودمرتها بكل ما فيها، وأصيبت حتى مراكب الصيد المرفوعة على اليابسة، ووصل الموج، في جزيرة أرواد، إلى المقبرة الأثرية، وحطم منازل عمرها مئة عام، وبلغت سرعة الرياح في طرطوس نسبة أعلى، وزاد في الطين بلة أن العاصفة حدثت في منتصف الشهر القمري، في موعد المد الأعظم، وشاهد المرشدون البحريون، في اللاذقية، كتلة حجرية تزن عشرة أطنان، تقذفها الريح والأمواج من خارج المكسر إلى داخله، فوق ترويسة المكسر الخرسانية التي ترتفع خمسة أمتار عن مستوى مياه البحر. ‏

وقد ترددت أصداء هذه العاصفة في الصحف والإذاعات، وكتبت جريدة لاذقانية، في تلك الأيام حول الأضرار المادية التي خلفتها العاصفة تقول: إضافة إلى غرق، وجنوح، عدة مراكب وسفن شحن، فقد لحقت أضرار جسيمة في منشآت المرفأ وتجهيزاته، وكانت أضخم تلك الأضرار في المكسر الرئيسي للمرفأ، حيث انهار القسم العلوي منه بطول يتراوح بين مئة ومئتي متر، ونُزع الفنار من مكانه على رأس المكسر وأغرقته الأمواج، وحدثت فجوات وانخسافات متفرقة، في أرض أحد أرصفة الميناء، وأصيبت الروافع الضخمة على الأرصفة، وتلفت واقيات الرصيف بكاملها، وتكسرت أبواب المستودعات وتقطعت أسلاك الكهرباء والهاتف، ونزع جزء من سقف أحد المستودعات، ونزعت، أيضاً، بعض ألواح الألمنيوم في البراد الكبير للمرفأ، وهناك أضرار كبيرة متفرقة. ‏

الوحيد الذي لم يصبه أذى، كان مقهى الحاج خليل، لأنه يقع على مرتفع يطل على المرفأ، وقد غنم صاحبه، بما قمنا به نحن البحارة من عمل، مغنماً كبيراً، لم يسأله عنه أحد، باعتبار أن البحر أخذ والبحر أعطى، فليكن اسم البحر مباركاً! ‏

حنا مينه

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...