لإحداث التغيير يكفي الحجم العادي فلا ينبغي لك أن تكون أكبر من الحياة

29-07-2010

لإحداث التغيير يكفي الحجم العادي فلا ينبغي لك أن تكون أكبر من الحياة

الرواية، في منطق الكاتبة الأميركية باربرا كينغسولفير، فعل اتهامي، لأنها تجرّ القارئ الى مقاربة متأنيّة للعالم تفضي به الى الحنق الصافي، كحال قاطني هذه الدنيا. لا يسع السيدة المولودة في كانتاكي في الولايات المتحدة ان تفهم كيف يمكن الفن الجيّد اشاحة النظر عن السياسة. يشيع التخييل المتماسك في منظورها، غمامة تعاطف تقود المرء الى مكان محدّد، فيما تسأله التطلّع في اتجاه سواه وعيش حقيقة اخرى. يؤثّر ابتكار التعاطف الروائي حكماً على اسلوب تصرف القارئ، وفي السياق عينه يترك في نفسه بصمات سياسية. التخييل حرفة قادرة اذاً، انه خيمياء. ثمة واجب تالياً يحتّم اخذ الرواية على محمل الجدّ، وهذا ما تفعله كينغسولفير تحديداً.
تروّج الروائية الأميركية في مؤلفاتها لرسائل رفيعة المثالية في شأن البيئة والفقراء والعاملين ولاجئي اميركا الوسطى والأمهات العازبات وحقوق الهنود. غير انها ليست يسارية عقائدية او كاتبة وعظيّة، لأنها تؤثر على القوالب المغلقة حكمةً مبهجة وفهماً متشعباً للعلاقات. غير ان استئثار "الفجوة"، وهي الرواية الأحدث لكينغسولفير، بجائزة "اورانج برودباند" 2010 الممنوحة لأفضل عمل تخييلي بالانكليزية تكتبه سيدة، لم يحلّ بسكون.
صاحَبَ الاعلانَ عن الفائزة، المفاجأة والانكماش كصدى لخيبة أمل وقورة عبّرت عنها طائفة من النقاد وحفنة من القراء على السواء. اشار البعض الى ان الرواية الثنائية الرأس التي تفصّل آخر أيام تروتكسي في المكسيك وتروي أحوال فريدا كاهلو ودييغو ريفيرا، فضلاً عن مطاردة مكارثي للشيوعيين في اواخر الأربعينات من القرن المنصرم في الولايات المتحدة، تؤسس لكتابين منفصلين، لا يدخل ايٌّ منهما العجلة الروائية ويخرج منها على نحو ملائم. والحال ان ثمة جملة في الرواية قادرة على تأمين استعارة للصحافة المشغولة بالنميمة ومطاردة الأعداء غير المنظورين. تتحدّث كينغسولفير عن ارض يعيش فيها القردة، يزعق احدها فيقلّده آخر بغية ان يحدّد كل حيوان نطاق سيادته، وذلك قبيل الانطلاق في نهار صيد هدفه تأمين القوت.
في "الفجوة"، روايتها الاولى منذ تسعة اعوام، تقتفي باربرا كينغسولفير رحلة هاريسون وليم شيبيرد، وهو شخص نكرة يصير معروفاً من طريق السهو، عندما يختزل طلباته بإيجاد مكان آمن فيصير شخصاً غير مرئي. ها هي قصة حنونة ومأسوية ومتفائلة واحيانا مثبطة للآمال وانما ملزمة، تجيء بها الكاتبة. "الفجوة" (دار "هاربر كولينز") رواية الافكار الليبيرالية الساطعة المبعثرة بين حقوق البروليتاريا والمساواة الجنسية والحريّة الابتكارية، اي إنّها، بتعابير قليلة، من صنف القضايا التقدّمية التي تجرّب كينغسولفير الدفع صوبها من طريق جائزة انشأتها وأطلقت عليها اسم "بيلويذير".
انها المرة الأولى تنجز باربرا كينغسولفير شبكا بين الحيوات الفعليّة والحوادث في مضمارها التخييلي. تقرّبت الروائية من النجاح الساحق بفضل "توراة مسمّمة"، حيث ادخلت الكتّاب الى حلقة الكولونيالية الغربية في جمهورية الكونغو، اما الآن فتنعطف بمواهبها النثرية صوب الأسطورة المكسيكية الأميركية المتقاطعة والسياسات والتاريخ والرومنطيقية والفن. تنجح كينغسولفير، الكاتبة المتيقّظة على المستويين الثقافي والسياسي، في لفّ نقدها وصورها المأخوذة من الحوادث التاريخية العظيمة حول قصة تحرّك المشاعر وتتم تلاوتها بألسنة نماذج مذهلة.
تُختصَر طموحات شيبيرد بالعلاقات العاطفية، الى منجز كاهلو وريفيرا وتروتكسي، وتجد مطرحها تماما في مخاوف الكاتبة الأميركية الدفينة، المتمحورة على كره ساد في الولايات المتحدة الأميركية في الحقبة اللاحقة للحرب الكونيّة الثانية لكل ما هو "غير أميركي". تسرد الحكاية من طريق يوميات شيبيرد ورسائله فضلا عن قصاصات صحافية تعكس انصاف الحقائق ومجموعة اكاذيب سيقت لتحديد "الآخرين الأعداء". كانوا بادئ ذي بدء الفاشيين ثم "الحمر"، فيما ثمة احتمال لأن يصيروا اي شخص راهنا.
اعترض بعض النقّاد على ما عدّوه بورتريه تروتسكي غير المعبّر في الرواية، ليجيء دفاع الكاتبة عبر التذكير بأن نصّها لا ينخرط في السيرة. يحاول تقديم تصوير صادق للرجل ابّان المرحلة المكسيكيّة فحسب، فيما يلتزم أقواله الموثّقة. نجد تروتسكي عديم الرحمة في مراهقته، وبعدذاك مسؤولا عن اطاحة نظام ملكي. لم يكن ثمة إمكان هنا لوصف حيثيّات مماثلة بجمالية خالصة. هذا لا ينفي اهلية كينغسولفير لجعل الكلمات تفضح شغفا بمدينة مكسيكو المشغولة بالمناظر المضيئة وراوئح التركيب المجتمعي.
ولدت كينغسولفير في منتصف الخمسينات من القرن المنصرم ونشأت في قرية صغيرة شرق كانتاكي. والحال انها باتت تثمّن تلك التربية الريفية مع تقدمها في السن. صارت تحنّ الى تلك اليوميات الخارجة على الأبواب الموصدة والسلطة الرقابية، وتلك نعمة مستترة. استقطعت مسيرة كينغسولفير المهنيّة بالسفر والدراسة تحت لواء الكتابة العلمية والصحافية، وألقت عينيها في اتجاه الأخلاقيات السياسية والاجتماعية في مسقطها، أكان ذلك في الشعر أم البحث اللاتخييلي أم الرواية. يخيّم النسق عينه على "الفجوة"، نصّها التخييلي الموسّع الذي يحلّ بعد سكوت. تعرض القصة الملقّمة شغفاً والمكتوبة بدقة غير مألوفة، لمثالية تدعم أدب التغيير الاجتماعي من دون تردد.
لا مفرّ من التمتّع بموسيقى نصّ "الفجوة" المقفل على الطبيعة والآثار والمأكل والصداقة، الى لقطات الناس الحقيقيين والمخترعين وكورس الأصوات المتناسقة. غير ان قيمة رواية كينغسولفير الكلّية تقوم على نداء تطلقه من اجل الوعي والتواصل. فخّخت الأميركية تاريخ شيبيرد المختلق، بغية تصوير لوحة حيّة من الوقفات والناس، حوّلها الزمن الى حدّ يتعذّر التعرف إليها. غير انها لوحة تامة تتردّد حكايتها في الحاضر، وإن اختلف اللاعبون.
يربط خيط واحد بين اللحاق بقصة الشاعر والكاتب هاريسون شيبيرد الشخصية في سنواته الطريّة في المكسيك الى حين بدئه العمل في منزل دييغو ريفيرا وفريدا كاهلو، وبين متابعة تروتسكي في منفاه، الى محاكمات مكارثي للشيوعيين المزعومين. عندما تسأل الروائيّة عن سر اهتمامها بذاك القسط من التاريخ، تحيد عن اي جواب جليّ، لتعبر الى استفهام غابر في شأن العلاقة الهيّنة وشبه العضوية بين الفنون والسياسة في الولايات المتحدة، على خلاف ما يجري في بلدان عدة. ارادت كينغسولفير على ما يتراءى، الرجوع الى منتصف القرن العشرين حين اضطُهد الفنانون المسيّسون، علّها تجد هناك بذور تبرير. كانت تلك مجازفة على قدر كبير من الخطورة، حدت بها الى الخشية على نفسها حتى. لم يلبث ان تسلّل الشك الى هويّتها الذاتية كفنانة ملتزمة سياسيا. حان عندئذ خيار الغرق او السباحة، فانتقت الغوص الى قعر المسألة لتأمين النجاة بالحياة المقبلة.
يتبدّى التفصيل اللغوي والتاريخي في "الفجوة" متداخلا واصداء السكان المحليين. لا تخفي الروائية مرماها. تعوّل على قول المزيد في شأن الفن واللغة وحرية التعبير والشهرة والصحافة والخصوصية الثقافية. خاطت كينغسولفير شبكة امان حبكيّة، بغية حمل وزر تلك الثيمات، وابتدعت في سياق الدفق الدرامي شخصيتين- مفتاحين واسعتي الحيلة بإسم هاريسون شيبيرد وفيوليت براون. ألبست الكاتبة الإطار لوناً وعطراً وصخباً واغراضاً متنافرة، وجعلت الشخوص التاريخية تتصرّف عمليا كإحاطة للسياق العام في ثنايا الحقيقة الصارمة، من دون ان تجد لها ادواراً تتقمصها. والحال ان حيوات كاهلو وتروتسكي وريفيرا ليست حياة الكاتبة لكي تقتنيها وتخرجها في الحلّة التي تستسيغها. كان على الكاتبة ان تنجز بحثاً عمليّا جعلها تصرف الوقت في الأحياء التاريخية في الولايات المتحدة والمكسيك وفي مدن وأدغال ومغاور بحريّة ومواقع اثرية للاطلاع على المحفوظات وتفحّص الصور العتيقة والأعمال الفنية. قرأت وقرأت لتستطيع ان تكتب وتكتب. قرأت الصحف والسير ومؤلفات التنظير السياسي ومئات المجلاّت الشعبية ولم تستثن الوصفات المطبخية. لا شك ان الجهد اثبت جدواه، ذلك انه يسهل في الرواية تحديد الفرق بين البحث الهاوي والمهني، ذلك ان الثاني لا يتريّث امام ضرورة ان تتّسخ يداه.    
تطلق كينغسوفير روايتها بتحايل على كلام انجيل يوحنا الإفتتاحي فتكتب "في البدء كان القردة"، بيد اننا لا ندرك قصدها تماما. في العشرينات من القرن المنصرم تروي الكاتبة تلك الحيوانات التي تخرّب السكون في جزيرة معزولة قبالة الشاطئ المكسيكي، تتراءى على شاكلة القاطنين ها هنا، كهاريسون وليم شيبيرد ووالدته صائدة الأزواج التي لا تنفك تحذّره من خطر مطالبة القردة بفدية دمويّة. شيبيرد طفل خفر، يقحم رأسه في الكتب او يلازم لياندرو صديقه الوحيد والطاهي في قصر عشيق والدته، رجل النفط الثري. يعيره الطاهي دفتر ملاحظات يدوّن فيه وصفاته الجديدة ومخاوفه القديمة. في احد الايام، وبدفع من لياندرو، يتسلّح الفتى بالشجاعة ويجتاز غابة القرود. يغطس في عمق المحيط ليكتشف فجوة مغارة مائيّة سفلية تفضي به الى احدى جنبات الجزيرة المقابلة. غير انه قبل ان يتمكّن من التنقيب في ذاك الخواء اكثر، تمضي به والدته بعيداً، وصولا الى مدينة مكسيكو، لاقتناص رجل اضافي.
كيف لتجارب شخص متخيّل محبّ للعزلة، ان تلتحم بتجارب شخصيات أمسكت بحبال السياسات الدولية، لجمتها احياناً، واشعلت شرارتها احيانا اخرى. ماذا لقارئ ان يتعلّم من تداخل مماثل؟ تحاول الرواية اعطاء ردّ. تبحر في مدوّنات شيبيرد بغية الخروج بالمقاربات وبتّ معنى للتاريخ بدءا بالتيار التروتسكي والستالينية ودمغة العنصرية اللاهبة والهتسيريا الجماعية الى تطفل وسائل الإعلام في الشؤون الخاصة والوطنية. خلال ما يفوق نصف قرن، خسرت اسماء من صنف تروتسكي وريفيرا وكاهلو ومكارثي تعريفاتها، لكأنها عملات نقديّة منقوشة ازيلت عنها معالم الوجوه بنتيجة كثرة التداول. في لحظة عجز التسجيل التاريخي، تتقدم ذكريات شيبيرد لترميم الملامح الإنسانية.
بالنسبة الى الطاهي في منزل آل ريفيرا، كان تروتسكي اكثر من مدافع عن العمّال، كان رجلاً "مفتول العضلات" يتمتع ببنية فلاّح ويشبك قلمه "لكأنه مقبض الفأس"، فيما راقه ان يُطعم الدواجن عندما يستريح من عرض افكاره في شأن "الأممية الرابعة" الشيوعية، المعارضة للستالينية والرأسمالية في آن واحد. تفاؤل تروتسكي ابّان زمن المنفى، يقود شيبيرد الى حال من الذهول تجعله يسأل بما يشبه السذاجة الفطنة: "هل يصير المرء ثوريا بنتيجة الإيمان بأنه أهل للغبطة عوضا من الاستسلام الى الإذعان؟".
"الفجوة"، قصة مستحوذة في خصوص الهوية والتواصل مع الماضي وسلطة الكلمات في الابتكار او التدمير. تنير حقبة فرشت خلالها العالمية السبيلَ لانبثاق مشهد لاحق للحرب، سُمّي بشكل اختزالي "الوطنيّة الأميركية". تجتاز "الفجوة" عقدين، وتقدّم جداريات في مكسيكو وخارجها، وتنزع الى القضاء على اللون الأحمر وملحقاته العقائدية لمصلحة عالم أدبي سحيق وغني على نسق "العالم الجديد".
في احد النهارات وفيما تتهيأ والدة شيبيرد لموعد غرامي، تقول في الزوج الذي تترصّده انه "غنيّ أكثر من الله". لا يسع الفتى سوى ان يحاججها: "اذا كان الأمر كذلك فلا ريب انه يحتفظ بالفجر في جيوبه فيما يبقي الشفقة في حذاء". لتلتفت صوبه "ان هذا الكلام لقصيدة فعليّة"، وتضيف "ينبغي لك تدوين كلامك في دفتر الملاحظات خاصتك حيث ستروي تجربتنا في المكسيك". لا تلبث ان تمدّه بالجملة الاستهلالية "في البدء كان القردة". يعيرها هذه المرة الانتباه، ذلك انها تراه للمرة الأولى على حقيقته، عاشقا للكلمات وشاعرا ساطعا.
تستحيل خربشات شيبيرد ملاحظات وافية تتمحور على الدنيا حيث "تغيّر كل شيء فيما تقف مرتجفاً في الرواق تنتظر التسلّل الى العالم اللاحق". في لحظة يقطن الفتى احدى الجزر، وفي التالية يؤخذ عنوة الى مكسيكو ليرسَل بعدذاك الى واشنطن. اما اللازمة الوحيدة فهي الدفاتر، حيث يسعه ملء الخواء من طريق نسخه الذاتية من التاريخ لـ "يؤمّن التخييل مصدر العيش". يكتب: "لا ينبغي لك ان تكون اكبر من الحياة بغية إحداث تغيير، يكفي الحجم العادي لهذا الغرض".
في "الفجوة" فسحات من الحنان على طريقة تشيخوف، تعود على الشخوص التخييلية بالكثير، ناهيك بحسّ فكاهي من طراز أميركي معاصر، معطوف على بعد عمليّ ومستعجل وحديث ومروّع قليلاً. تلك ملكة الكتابة الجيّدة، تستعير آلام الآخرين طمعاً بإتمام عرض للعواطف لا يغدو استعراضاً لها.

 

 مقتطف (الـــفـــجــــــوة)
في البدء كان القردة. اطلقت الزقح (صوت القرد) في اول ساعة فجر، لحظة ترتدي السماء اللون الأبيض. تبدأ الحالة مع قرد واحد يتراءى انينه القسري والمنتظم كشفرة مسنّنة. يجعل ذلك القردة الأخرى تنشط حوله، يحثّها على ان تجاريه في الإيقاع المنبعث من الحناجر الكستنائية. لا يلبث هذا العواء ان يجد صداه في اعلى الشجرات الأخرى بل ابعد وصولا الى الشاطئ حين يضجّ الدغل بالشجر الهادر. يتكرّر الامر في كل صباح من هذا العالم في نسخة منقحة من فجر التكوين.
اعتقد الفتى ووالدته ان الشياطين هي مصدر الصراخ الآتي من الأشجار وانها تتنافس على نيل حق السيادة على استهلاك لحم الانسان. في العام التالي على انتقالهما الى المكسيك حيث اقاما في منزل انريكي، كانا يستيقظان مذعورين عند الفجر بسبب الصياح المتعالي. احيانا هرولت المرأة في الممر المفضي الى غرفة نوم ابنها لتظهر عند العتبة وشعرها منحلّ وقدمها مثلجة كسمك مجلد. كانت تتسلل الى السرير وتلفّ حولهما الملاءة التي حيكت بالإبرة لكأنها شبكة صيد، ثم تروح تنصت.
كان من المفترض ان تشبه حكايتهما القصص الخرافية، هذا ما وعدت به ابنها في غرفة النوم الصغيرة الباردة في ولاية فيرجينيا، شمال الولايات المتحدة. اكدت له انهما إذا فرّا الى المكسيك برفقة انريكي فستصير زوجة رجل غنيّ في حين يغدو الفتى مرافقها الشخصي، على ان يقيما في مزرعة محوطة بسهول الأناناس. سيزنّر الجزيرة طوق بحري كخاتم زفاف، فيما جوهرته قائمة في مكان ما على اليابسة وهي حقول النفط ومصدر ثروة انريكي.
لكن "سجين زيندا" كانت القصة الخرافية الوحيدة التي وجداها. لم يغد الفتى مرافق والدته الشخصي، ذلك انها ظلّت عزباء بعد مرور شهور عدّة على مجيئهما. اما انريكي فكان سجّانهما وراق له ان يرصد فزعهما ببرودة لافتة خلال تناوله وجبة الفطور. كان يردّد "الانتحاب هو عواء"، في حين يسحب الخاتم الفضي من المنديل ليقحمه بين اصابعه المزنّرة بالخواتم الفضيّة. ليضيف: "يزعق احد القردة فيقلّده قرد آخر. يرغب كل حيوان في تحديد نطاق سيادته، قبل ان ينطلق في نهار صيد جديد من أجل تأمين قوته".
تقول السيدة لابنها فيما يتكوّمان داخل شبكة العنكبوت: "ربما نكون نحن قوتها"، قبل ان يصيخا السمع الى مدّ الزعيق المتعالي. تضيف: "من الأفضل لكَ ان تدوّن هذا في دفتر ملاحظاتك وان تروي قصتنا المكسيكية. ذلك ان احدهم سيعرف اين ذهبنا عندما نصير مجرد كومة عظام". لتبدأ النص هكذا: "في البدء كان العواء، يصرخ للفوز بدمائنا".
عاش انريكي حياته برمتها في تلك المزرعة مذ بناها والده الذي دأب يضرب الهنود بالسياط بغية حثّهم على زراعة سهول الأناناس. تربّى على فهم لاجدوى الخوف. لم يخبر ضيفيه بالحقيقة سوى قبل نحو العام، لم يطلعهما سوى اخيرا ان هذا الزعيق ليس سوى صوت القردة. لم يسرّح نظره عبر الطاولة عندما قال هذه الجملة، وانما ركّز نظره على البيض في صحنه. ابتسم من تحت شاربيه على نحو مستخفّ، وهذا ليس مكانا ملائما للتواري. قال: "يدرك كل هندي جاهل يسكن القرية قيمته. يستحسن بكما فعل ذلك ايضا عوضا من المكوث مختبئين في السرير كعاطلين من العمل".
كان كلامه صائبا، كانت تلك المخلوقات قردة بذيول طويلة تلتهم ورق الشجر. كيف يسع زعيقاً مماثلاً ان ينبعث من شيء على هذا القدر من العادية؟ بيد ان هذا ما يحدث. صار الفتى يتسلّل الى الخارج في وقت مبكر من النهار ليتعلّم كيف يعاين القردة في اعلى فيء الأغصان على خلفيّة السماء البيضاء. كانت الأجساد المحدّبة والصوفية تتأرجح، فيما تتمدد أذيالها لتلتف حول الأغصان كأوتار القيثارة.
لم تقم الشياطين اذاً في هذه الشجر ولم يكن انريكي ملكا شريرا ايضا، كان رجلا فحسب. بدا شبيها بالتمثال الصغير الموضوع في اعلى قالب حلوى العرس. كان رأسه مستديرا مثله وشعره لمّاعا وشارباه صغيرين. غير ان والدة الفتى لم تكن العروس المنمنمة ولم يكن ثمة مكان في قمة القالب للطفل ايضا بلا ريب.  
بعدذاك عندما كان انريكي يرغب في السخرية من الفتى، لم يحتج الى استحضار الشياطين حتى، بل اكتفى بتوجيه عينيه الى الأعلى صوب الشجر. كان يقول: "ان الشيطان كامن هنا وهو فتى يتمتع بخيال خصب جدا". كان الاعلان بمثابة مسألة حسابية اصابت الفتى بالصداع، ذلك أنه عجز عن تحديد الجزء الخاطئ من المعادلة، أهي ان يكون طفلا او ان يكون واسع الخيال؟ شعر انريكي ان الرجل الناجح لا يحتاج الى الخيال ابداً. 
في ما يأتي اسلوب ثان لبدء الحكاية وهو صائب ايضا.
يشبه قانون السمك قانون البشر: إذا اقترب القرش فرّ الجميع وتركوك لتؤكل. يدفع بهم القلب المتوتّر الى التحرّك معا والفرار من الخطر قبل لحظات على ظهوره. يدركون ما يحدث على نحو ما.
في قعر المحيط نجد عالماً يخلو من الناس.
يتهادى سقف البحر فيما تطوف انتَ في وسط الشجر الأرجواني النابت في الغابة المرجانيّة يحوطه السمك المضيء الذي يشكّل جسما من الضوء. تتسلّل اشعة الشمس عبر المياه كأسهم مشتعلة، تلمس الأجساد القشرية وتضرم نارا في كل زعنفة. يتألّف الموكب من الف سمكة تنتقل معا ودائماً في جمع عظيم ومنير وهشّ. في الأسفل عالم مثالي إلاّ بالنسبة الى العاجز عن تنشّق المياه. سيضطر الى الضغط على انفه والتدلّي من السقف الفضي كدمية قبيحة كبيرة، فيما تغطّي شعيراتٌ ذراعيه كأنها العشب. يبدو شاحبا. يشرق الضوء المائي على بشرة الفتى المحسّكة، وإن ليس ضوءا بلون عرائس البحر الفضيّ والمتقشّر الذي كان ليرغب فيه. يحوطه السمك ويشعر بالوحدة. يدرك ان من السخف الشعور بالوحدة لمجرد انه ليس سمكة، غير ان هذا ما يحدث فعلا. على الرغم من ذلك، يظلّ مطرحه في مصيدة الحياة السفليّة، وهو يأمل البقاء في مدينتهم في ظلّ هذه الحياة المضيئة والسائلة التي تطوف حوله. تتقدم المجموعة المتلألئة عند احدى الجنبات وتنسحب من الأخرى. انها حشد من اللطخات المتداخلة كأنها مخلوق عظيم متماسك. عندما يلوح الطيف، يتكوّم السمك ويهجع الى الوسط لينفجر ككتلة كثيفة تترك الصبي خارجا. 
كيف تتعلّم ان تنقذ نفسها قبل ان تتركه ليصير لقمة سائغة؟ تؤمن بإلهها الخاص وهو معلم- ألعوبة يسود على اذهانها الأحادية في استثناء ذهن واحد. 
اكتشف الصبي عالم السمك بعدما اهدى اليه لياندرو نظارات للغطس. اشفق الطبّاخ لياندرو على الفتى الآتي من اميركا، الذي انصرف على مرّ النهار الى التجوّل عند المنحدرات الصخريّة على طول الشاطئ مدّعيا صيد شيء. كانت نظّارات الغطس من المطاط فيما عدساتها زجاجية. اكّد لياندرو للفتى انها كانت ملكا لأخيه، شرح له كيف ينبغي للمرء ان يبصق فيها قبل ان يضعها.
قال: "اغطس في المياه فورا. ستفاجأ". وقف الفتى مرتجفا في المياه التي غمرته الى الخصر فيما راح يفكّر ان صيغة "ستفاجأ" هي الأكثر قبحا في جميع اللغات. انها لحظة تبدّل كل الأمور، لحظة تخلّت امي عن أبي على نحو صاخب وحين تكسّرت الأواني على الجدران، ليليها استحقاق اصطحاب الطفل الى المكسيك حيث لم يكن في وسعه فعل اي شيء سوى المكوث في رواق المنزل الصغير البارد في انتظار ما سيقال له. لم تكن التطوّرات جيّدة. استقلّ القطار وكان له والد قبل ان يصير يتيم الأب. كان دون انريكي الرجل القادم من القنصلية في واشنطن قبل ان يصير انريكي القابع في غرفة نوم والدته. تغيّر كل شيء الآن، فيما يقف مرتجفا في الرواق ينتظر التسلل الى العالم اللاحق.
اما الآن فيحصل له هذا عند طرف كل شيء. يجد نفسه غارقا في مياه المحيط الى مستوى الخصر، واضعا نظارة الغطس فيما يتأمّله لياندرو. لحقت به مجموعة من فتيان القرية تتأرجح اذرعهم الغامقة ويحملون سكاكين طويلة استخدموها في جمع المحار. غطّى الرمل الأبيض جنبات اقدامهم، لكأنها اخفاف شاحبة. تمهلوا للتفرج فكفّت الأذرع عن التأرجح، تجمدت في امكنتها تترقب. لم يبق شيء ليفعله سوى التقاط انفاسه والغطس في المكان الأزرق.
ها ان الوعد يتحقّق ويحلّ عالم كامل. بان سمك مجنون ملوّن ومخطّط ومرقط، كان جسمها ذهبياً فيما رأسها ازرق. بانت مجموعات من السمك المعلّق في عالمها المائي تدفع بأنوفها الحادّة الى المرجان. استرقت النظر الى ساقين كثيفتي الشعر وصلبتين كالأبنية، فعدّتهما جزءا من المشهد الطبيعي. شعر الفتى بشيء من التشنّج وكان مرتعدا ومسرورا بالقدر عينه. من الآن وصاعدا، لن يكون ثمة رؤوس فارغة اضافية تقفز من البحر. لن يكون المحيط مجرد مياه زرقاء.
لم يخرج من البحر إلاّ عندما بدأت الألوان تصير قاتمة. لحسن الحظ كان في حوزة والدته وانريكي كميّات كافية من المشروبات لمؤانستهم والزوار القادمين من اميركا في الباحة وقد جعلوا الهواء ازرق بسبب دخان سجائرهم. راحوا يناقشون قضية اغتيال اوبريغون ويتساءلون من يسعه وقف الإصلاحات المرتبطة بتملّك الأراضي قبل ان يستولي الهنود على كل شيء. كانت والدته لتسأم الانتظار وهي تصغي الى حديث الرجال، لولا توافر مشروب "مسكال" والليمون الحامض، كانت تتنبه عندئذ وتسأل "هل غرق ابني؟".

رلى راشد

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...