غسان الرفاعي: في ذكرى الدكتور محمد عابد الجابري

10-05-2010

غسان الرفاعي: في ذكرى الدكتور محمد عابد الجابري

ـ 1 ـ رحل الصديق «محمد عابد الجابري»، المفكر العربي الذي وصفه النقاد «المنبر المتحرك» لكثرة تنقلاته في أرجاء الوطن العربي، ناشراً تحليلاته وطروحاته، وما أكثرها وأغناها، ومستفزاً معارضيه، وما أسلط لسانهم. يعود إليه الفضل في نقل المناقشات الأكاديمية الجافة إلى الشوارع، حيث تتحول إلى مصارعات ساخنة في الساحات العامة، وفي نفض غبار الإهمال عن المرجعيات في التراث العربي، وفي ربط نجوم المعاصرة بالجذور التراثية. وباختصار، لقد نجح في إعطاء بعد معاصر للتراث، وفي الكشف عن ترسبات الماضي في الأطروحات المعاصرة، فكان أن حصل على غضب الطرفين معاً.

كنت ألتقيه في باريس، كلما زارها محاضراً أو مشاركاً في ندوة أو حوار، حيث نتواعد في مقهى «الكلوني»،في شارع سان جرمان دوبريه «شارع المثقفين الثوريين المتقاعدين«»كما يسميه المتحذلقون اليوم، لسببين أولهما: ارتباط اسم هذا المقهى بذكريات دافئة حزينة، حين كان يتردد عليه الرواد الأوائل من ناشطي النهضوية العربية، وثانيهما: أن الدكتور «الجابري» يتحدث عنه في كتبه ويسميه «تابوت المعاول»، تذكيراً بما كان يجهزه هؤلاء الأوائل من معاول لإقامة المجتمع العربي المعاصر. ‏

كان المقهى منتجعاً للثوريين من الشباب الفرنسي، المبهورين بوجودية «سارتر» وعبثية «كامو»، وفوضوية «باكونين»، وكان يتردد عليه - وقد أنشئ عام 1674 ـ كبار أقطاب الثورة الفرنسية، أمثال «روبسبيير» و«دانتون»، قبل أن تتدحرج رؤسهم تحت المقصلة وبقي هذا المقهى مفضلاً عند الأجيال المتعاقبة من الثوريين، وخاصة جيل الانتفاضة الطلابية في أيار 1968، ثم تبدلت إدارته، وانقلب إلى مقصف بورجوازي، لا يقصده إلا المترفون البرجوازيون، من ذوي الياقات البيضاء، وبعض المرتدين من مقاولي الثورات في العالم الثالث. ‏

ـ 2 ـ ‏

اغتنمت فرصة وجود الدكتور (الجابري) -رحمة الله ـ في باريس، ضيفاً على معهد العالم العربي، للمشاركة في ندوة حول «مواصفات المجتمع العربي المعاصر» وقررت أن استجوبه، وأطرح عليه بعض الأسئلة المحرجة، ليصار إلى نشرها في مجلة «نور ـ سود» التي كنت أصدرها وأرأس تحريرها بالفرنسية. وقد رحب الدكتور (الجابري) بالفكرة، ووعدني أن «يتخفف من بعض أثقاله الفكرية»، وأن يكون صريحاً «إلى حد المخاطرة» وقد تمت المقابلة، ونشرت في مجلة (نور ـ سود، شمال جنوب) على ست صفحات كاملة، وكان أن عاد الدكتور (الجابري) إلى المغرب، قبل صدور العدد، وكان عليّ أن أرسله له بالبريد العاجل، وكم كانت دهشتي كبيرة حينما تلقيت منه رسالة يقول لي فيها: »ستكون هذه المقابلة جزءاً من تراثي الثقافي، وسأستشهد بها في كتبي ومحاضراتي. لقد نجحت في استنطاقي واستدراجي على البوح بما أشعر به فعلاً..«. ‏

يسعدني أن أعيد نشر جزء من هذه المقابلة بعد ترجمتها إلى اللغة العربية لعلي أفي بدين قطعته على نفسي بألاّ أتردد في نشر آرائه بصدق. ‏

ـ 3 ـ ‏

وكان هذا الحوار معه: ‏

س: يزعم أن الأزمة التي يشكو منها الفكر العربي المعاصر هي (أزمة غياب).. إذ لم يشهد القرن الذي انصرم وبداية هذا القرن مبدعين كباراً أسهموا في إغناء الثقافة الحديثة، واقتصر الأمر على إعادة إنتاج أفكار قديمة أو محاكاة أفكار مستوردة، هل هذا صحيح؟. ‏

ج: الواقع أن الفلسفة في جميع العصور هي إعادة قراءة لتاريخها الخاص، فليس هناك إبداع فلسفي غير مستند إلى الماضي، وكل فيلسوف إنما يشكل آراءه وطروحاته إما تطويرا لآراء وطروحات سابقة، وإما نقدا، وإما خروجا عليها. ‏

س: يروج الآن أن عصر الايديولوجيا قد انتهى وأننا ندخل الآن مرحلة ما يسمى نهاية التاريخ، فيكف يمكن أن تقوم فلسفة نهضوية في عصر الذبول؟ ‏

ج: حينما يقول فوكوياما إننا في نهاية التاريخ، فينبغي أن نعطي لكلمة التاريخ معناها الرجعي في الفكر الأوروبي المعاصر. التاريخ عندهم حركة الصيرورة التي أفرزت الدولة الوطنية، وأفرزت فيما بعد ما هو رأسمالي واشتراكي أو شيوعي، التاريخ هو صراع بين طرفين، بين نظامين، بين نموذجين وعندما سقط النموذج الشيوعي، وبالتالي سحبت النظرية الماركسية من التداول، أصبح التاريخ طرفاً واحداً. نحن لا نقبل هذا التفسير للتاريخ لأننا نعيش صراعا مع الغرب والصهيونية، لذا فإن تاريخنا مازال في حاجة إلى افتراضات جديدة، نحن لم نحقق دولتنا الوطنية، ونحن لم نخض صراعاً حقيقياً من أجل تغليب نماذج محددة. إن فوكوياما يحاول أن يتجاوز الشقاق الأيديولوجي بالكذب على النفس، وهذا ما يدفعه إلى طرح الافتراضات وأن يزعم أن عدو الغرب الجديد سيكون هو الخطر الأخضر أي الإسلام والعرب أو العدو الأصفر الذي هو الصين وشرق آسيا، يجب أن نعي ونحن نفكر بواقعنا العربي المعاصر أن هذا السلوك من طرف الغرب هو من الثوابت الحضارية عنده. ‏

ـ 4 ـ ‏

س: ثمة ثلاثة نماذج مطروحة في الوطن العربي ـ وقد ورد هذا في معظم كتاباتك: النموذج التراثي، والنموذج الغربي، والنموذج التلفيقي، أما زال هذا الصراع قائماً في الوطن العربي أم تم تجاوزه؟ ‏

ج: هذا التصنيف ليس من تصنيفي، بل هو مطروح منذ النهضة العربية إذ بدأت تتبلور آنئذ ثلاثة تيارات: التيار الأول، هو الرجوع إلى السلف الصالح الذي قدم لنا حضارتنا الإسلامية والقومية والطرف الثاني الليبرالي أو المستغرب الذي يرى أن الحضارة الغربية هي الطريق إلى المعاصرة والحداثة، أما تراثنا الديني أوالقومي فهو شيء ينتمي إلى الماضي والطرف الثالث يحاول التوفيق أو الجمع ويضم معتدلين من هذا الطرف أو ذاك، وبعد أن تبين أن هذه الاتجاهات لم تؤد إلى حل المشكلة وأن النهضة ظلت عائمة تطرح نفسها بصورة أو بأخرى قيل لي: إن الحل لا يمكن أن يكون من خلال هذه الطروحات الثلاثة، وإنه لا بد من عملية تجديد من الداخل أي من داخل تراثنا وأن نرتبط بالعصر لا بالاندماج بشمولية كاملة فيه لأن مثل هذا الارتباط أمر من الامبريالية، وعلينا الاستفادة من منجزات الحضارة التكنولوجية ولكن بهدف بناء أو اعادة بناء حياتنا الخاصة القومية كهوية، كدين، كتاريخ وكحضارة. ‏

س ـ المنطقة العربية في حالة توتر، هناك سلام مزور مهين كاذب ومراوغ وبالمقابل هناك مقاومة ضعيفة منقسمة محبطة، السلام المطروح له اسم آخر هو الاستسلام وقبول الهيمنة الامريكية ـ الإسرائيلية والبديل غائم أو على الأقل غير قابل للتحقيق ما العمل؟ ‏

ج ـ لابد من التمييز بين التحليل السياسي والتحليل التاريخي، وفي قناعتي أن التاريخ لم ينته بل ما زال يضع بداياته إذا قارنّا ما عانيناه وما نعانيه مع ماعانته أوروبا خلال ثلاثة قرون من حروب دينية طائفية شوفينية امبريالية اقتصادية، فإن ماجرى لنا هو لاشيء بالنسبة لما جرى لهم، هذا هو التاريخ ويجب أن نعي هذه الحقيقة ونزيد من علمنا في صنع التاريخ. ‏

ـ 5 ـ ‏

س ـ الهاجس المؤلم الذي يعيشه المثقف العربي حالياً هو الديمقراطية، هل هي في مأزق أم إنها تبقى المخرج أم لعلها نوع من الاحتيال؟ ‏

ج ـ دعني أكن تراثياً هذه المرة وفي البدء لا بدّ لي من الاستشهاد بنص تراثي نحفظه جميعاً (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) دعني أقل: إن المنكر في العالم العربي الاسلامي في هذا العصر يأتي من جهة واحدة هي الدولة، هناك من يريد أن يغير المنكر بيده وهناك من يريد أن يغيره بفكره ولسانه وهناك من يعمل المستطاع على تحقيق أضعف الإيمان. أما الذين لاينخرطون في عملية التغيير هذه فهم ليسوا مثقفين بالمفهوم الدقيق للكلمة. قد يكونون علماء أو أطباء أو فقهاء ولكنهم ليسوا مثقفين، المثقف هو من ينخرط في عملية تغيير المنكر وتبقى بعد ذلك عملية التغيير نفسها والحفاظ على مجراها الحقيقي وعدم الانحراف بها قولاً وفعلاً. والحقيقة أنه توجد أخطاء وتجاوزات في كل مرحلة من الصراع، ودور المثقف هو التنديد بهذه الأخطاء والتجاوزات وأنا من جهتي أندد بكل المثقفين الذين يستخدمون إخلاصهم في خدمة الطغيان ومصادره. ‏

ـ 6 ـ ‏

س: هناك قضية خضبت التاريخ العربي والإسلامي بالدماء أكثر من أي تاريخ آخر هي قضية الصراع على السلطة أو الحكم. ‏

ج: في المجتمعات غير المتقدمة تصنع السلطة من خلال المحددات التي شرحتها في كتاب «نقد العقل السياسي» أعني بها القبيلة والغنيمة والعقيدة، ومازالت السلطة في أوطاننا خاضعة لنفوذ وتوجيه هذه المحددات. ولذلك صاحب السلطة لابدّ له لكي يبقى ماسكاً بزمامها من أن يكون صاحب قبيلة أو صاحب غنيمة أي يشتري الذمم، وإما أن يكون صاحب عقيدة دينية أو حزبية، وهذا يتطلب منه فرضها بالهيبة والخوف. وهنا لابدّ من تحويل القبيلة إلى مؤسسة مدنية وتحويل الغنيمة إلى اقتصاد إنتاجي، وتحويل العقيدة إلى رأي. وهذا ما يجب أن نناضل من أجله. حينئذ نتغلب على الجانب الخاص من مشكلة السلطة عندنا. أما الجانب العام فهذا شيء يرتبط بالحضارة المعاصرة. والحضارة المعاصرة تخلق الشرور، ولكنها تخلق في الوقت نفسه، الوسائل التي يمكن بها اتقاء هذه الشرور وتجاوزها. ‏

ـ 7 ـ ‏

س: الولايات المتحدة احتكرت مؤخراً حق تمثيل القيم الغربية، واستخدمت كل وسائل الإكراه والقسر لتعميمها على العالم، فما انعكاسات هذا الاحتكار على حوار الحضارات، وعلى مستقبل الإنسان؟ ‏

ج: إذا شئنا أن نفهم العلاقة الملتبسة بين الولايات المتحدة والعالم فعلياً، فعلينا أن نستذكر في مخيلتنا السيارة الأمريكية السبور «4ھ4» التي يستقتل الأمريكيون على امتلاكها. إنها سيارة كبيرة جداً وثقيلة جداً، ومحركها يوزع التلوث على مساحة كيلومتر على الجانبين. إنها تستهلك كميات هائلة من المواد النادرة لتؤمن سلامة المحظوظين الذين يستخدمونها، ولكنها تعرض الآخرين لأخطار مميتة، وقد ثبت أن معظم حوادث السير ناتجة عن هذه السيارة ـ الفخ، وفي قناعتي ان السياسة الخارجية الأمريكية القائمة، كما يقول المفكر الفرنسي (إيمانويل تود)، على الأنانية والغطرسة، والنهب الوقح، وعدم الاكتراث بعذابات الآخرين وهمومهم ـ هي صورة طبق الأصل عن هذه السيارة: إنها تدعي القيام بمهام على غاية من الأهمية، ولكنها ليست أكثر من عدوان فاجر على حقوق الآخرين، بل على إنسانيتهم. ‏

من أكثر الكتب غرابة، الكتاب الذي وضعه (تيري ميسان) في مطلع هذا العام، والذي برهن فيه أن هجوم 11أيلول عام 2001 على مبنى وزارة الدفاع ـ البنتاغون لم يحدث قط، إذ لم تتحطم قط طائرة عاملة بالقرب من مبنى البنتاغون، وأن الأمر لا يعدو أن يكون أكذوبة افتعلتها المؤسسة العسكرية الأمريكية لتبرير «حربها على الإرهاب»، وكانت معالجة الكاتب (ميسان) لهذا الموضوع مشابهة لمعالجة ظاهرة «الإنكاريين» من المؤرخين الذين يشككون في «محرقة اليهود». ويؤكدون أن الهدف من المبالغة في عدد ضحايا المحرقة هو إشهار سلاح العداء للسامية الذي أرعب أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، تماماً كما أفرزت حوادث 11 أيلول ظاهرة «الحرب على الإرهاب» التي ترعب العالم الثالث كله، وتبرر اتهام كلّ من يناضل من أجل استرداد حريته واستقلاله بالإرهاب. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...