يوم تدخّل الرب في صناعة التاريخ

14-01-2011

يوم تدخّل الرب في صناعة التاريخ

ميخائيل السرياني، المؤرخ الرهاوي المجهول، ابن العبري؛ ثلاثة مؤرخين سريان دوّنوا الحملات الصليبية في سجلاتهم، منذ أن استهل الغرب الأوروبي حربه تحت عنوان حماية قبر المسيح. رغم ما حواه التاريخ من صور دموية طال تأثيرها العرب المسيحيين، إلا أنّ هؤلاء الرواد تعاملوا مع الحدث كأنه مشهد يقتضي التأريخ له، وإن أعربوا أحياناً عن مشاعر انفعالية لشدة ما حملته المرحلة الممتدة من عام 1095 حتى سقوط آخر مدن الفرنجة من عنف وعنف مضاد. في أطروحته «الحملات الصليبية كما يرويها المؤرخون السريان» (دار الطليعة)، يرصد الكاتب العراقي أفرام عيسى موسى، تاريخ الحروب الصليبية بعيون سريانية. لأسباب غير واضحة، تجنّب الرواة الثلاثة استعمال مفردات «الحملات الصليبية» في مدوناتهم، مفضلين الحديث عن رحلات وهجرات.
حالما أطلق البابا اربانس الثاني عام 1095 نداءه لشنّ الحملة الصليبية الأولى، بدأ كل هؤلاء المؤرخين السريان تعقب مجرياتها. وبصرف النظر عن الأسباب التي دفعت أوروبا الباحثة عن كنوز الشرق، إلى شن حملاتها العنفية، كانت الحاضرة الإسلامية، تعيش صراعات داخلية بين الخلافة العباسية في بغداد والخلافة الفاطمية في مصر من جهة، وملوك الأتراك السلاجقة من جهة أخرى.
ثلاثة عوامل دفعت الغرب الاستعماري إلى شنّ حروبه الدموية على الشرق: الأول تخليص قبر المسيح من أيدي المسلمين؛ والثاني الدفاع عن مسيحيي الشرق؛ والثالث حماية طريق الحج الى الأرض المقدسة. وتحت شعار «الحرب العادلة»، بدأت جحافل الجيوش الصليبية حملتها الأولى (23 ت2/ نوفمبر 1095)، ويؤرخ لها الرهاوي المجهول في كتابه «التاريخ»، متحرياً عن أدق تفاصيلها، بدءاً من بناء الدول اللاتينية في الشرق ـــــ بينها الرها، دولة الفرنجة الأولى ـــــ وصولاً إلى اجتياح القدس والسيطرة عليها عام 1099، وقتل سكانها العرب. وبعد مرور عشرة أعوام، استولى الفرنجة على مدينة طرابلس اللبنانية، فقتلوا سكانها، ونهبوا أسواقها، لكن أين موقع المسيحيين من كل ما جرى؟ هل صحيح أنهم تعاونوا مع الفرنجة؟ بعض الوقائع التاريخية تنفي ذلك، لكن الأكيد أن الفرنجة حاولوا فرض كنيستهم، وعدّوا الموارنة هراطقة الى أن تحالفوا معهم في القرن الثاني عشر. المضيفون والهيكليون؛ منظمتان دينيتان، أسّسهما الفرنجة بعد احتلال بيت المقدس. وفي هذا السياق، يؤرخ الكتّاب السريان الثلاثة للدور السياسي والعسكري الذي أدّاه رهبان المنظمّتين، وحجم الثروات والأراضي التي امتلكوها، رغم أن وظيفتهم كانت تهدف الى حماية الحجاج الأوروبيين. وفي الوقت الذي تفاقم فيه الصراع بين الفرنجة والأتراك السلاجقة، ظهر الإسماعيليون في المشهد. مارس هؤلاء الاغتيال السياسي ضد بعض القيادات السلجوقية، وسجّلوا عمليات انتحارية، قد تكون الأولى في تاريخ الإسلام. وترافق ذلك مع انتشارهم في بلاد الشام والمناطق الواقعة في أعالي بلاد ما بين النهرين، ناشرين الرعب، تحت راية استرجاع المذهب الشيعي.
مع السلالة الزنكية، بدأ «الهجوم الإسلامي المعاكس» فسقطت الرها، مما دفع الغرب الى شنّ الحملة الصليبية الثانية. وطوال مراحل الكر والفر بين الصليبيين والزنكيين، يحلل المؤرخون السريان تسلسل الأحداث بحيادية أحياناً، وبنبرة عاطفية أحياناً أخرى. وفجأةً يحضر المعطى الديني في مدوناتهم، ويتساءلون عن تدخّل الله في التاريخ، وخصوصاً أن مدينة الرها التي قطنتها غالبية مسيحية، تعرّض سكانها مع سيطرة الأتراك عليها لإبادات جماعية وعمليات نهب وسرقة.
سقوط القدس عام 1189 بيد صلاح الدين، دفع الغرب الى البدء بالحملة الثالثة. وقبل هذه الحقبة المفصلية من الغزوة الصليبية لديار الإسلام، دخلت الخلافة الفاطمية طريق الأفول. ولعل الصدام السني الشيعي، هو الذي دفع القائد الكردي، إلى زعزعة ملك الفاطميين. لم تكن بلاد الفسطاط بعيدة عن طموحات الصليبيين، فحاولوا اجتياحها، وسيطروا على مدينة عسقلان عام 1153، علماً بأنّ هذه المدينة كانت تمثل القاعدة الفاطمية الأخيرة على الساحل الى الجنوب الغربي من مدينة القدس، لكنّ الصراع كان مزدوجاً بينهم وبين أسد الدين شيركوه. وفي النهاية اندحر الفرنجة.
طوال الحروب الصليبية وبدايات الرد الإسلامي عليها، كان العامل الديني حاضراً لدى أقطاب الصراع. المسلمون تعرّضوا لمذابح جماعية تحت راية الصليب، والمسيحيون بمختلف انتماءاتهم، جوبهوا بالاضطهاد والتنكيل. صحيح أن المسلمين سجّلوا انتصاراتهم حتى انسحاب آخر فيلق عسكري صليبي من الشرق، لكنّ حجم العنف والعنف المضاد، تناقلته الأجيال وبقي ماثلاً أمامها كما لو أنه وقع بالأمس القريب.
هؤلاء الرواة السريان الثلاثة كتبوا عن أدق مرحلة مر بها العالم الإسلامي، ليس على مستوى ما خلفته الحملات الصليبية من دمار فقط، بل أيضاً لجهة ما شهدته من صراعات داخلية أفضت الى نشوء خلافات وانهيار أخرى، والأهم أن المُتخيل الإسقاطي ما زال حتى اللحظة الراهنة يمارس سطوته الانفعالية في الشرق والغرب رغم مرور أكثر من 900 عام على نداء البابا اربانس الثاني.

ريتا فرج

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...