وصية إغناطيوس الرابع هزيم للأرثوذكس: «كونوا واحداً بالحق»

06-12-2012

وصية إغناطيوس الرابع هزيم للأرثوذكس: «كونوا واحداً بالحق»

عندما سئل بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس إغناطيوس الرابع هزيم ذات مرة، من هو إغناطيوس الرابع؟ أجاب: «هو إنسان يريد أن يكون غاية في البساطة والوضوح، ويريد قبل كل شيء أن يكون في خدمة كنيسته وفي خدمة الإنسانية من دون أي تحفظ».هزيم مسجى في مار نقولا (فادي أبو غليوم)
جسّد رأس الكنيسة الارثوذكسية الآتي من بلدة محردة السورية تلك المفاهيم على مدار 33 عاما أمضاها في سدة البطريركية، فكانت بساطته تغلب منصبه، ووضوحه يخيف من حوله، لا سيما في زمن الأزمات.
كانت نظرته للأمور فريدة في كثير من الأحيان انطلاقا من فلسفته الخاصة في الحياة التي تدعو لأن يكون «الإنسان أولا»، فما كان يراه البطريرك هزيم في السياسة لا يراه غيره، وما يجرؤ على قوله يتجنبه كثيرون، لذلك كانت إطلالاته الإعلامية في مناسبات محددة، والتصريح الذي كان ينتزع منه انتزاعا يعتبر «سبقا صحافيا»، لا يتضمن مباشرا، إنما رسائل مبطنة ولاذعة لطالما أحب هزيم توجيهها لمن يعنيـهم أمر المنطقة، وخصوصا القضية المركزية الحاضرة لدية أبدا فلسـطين، إضافة الى مسقط رأسه سوريا، ولبنان بلد الطوائف الذي كان ينشد فيه أمنا واستقرارا وإنصافا للأرثوذكسيين الذين دفعوا ويدفعون برأيه ثمن عدم طائفيتهم.
كان لهزيم من اسمه الحقيقي الذي لا يعرفه إلا القليلون نصيب. هو «حبيب» الذي فاض حبا على من حوله أينما حل، وفي كل المناصب الدينية التي تولاها، وصولا الى سدة البطريركية، وكان «المحبوب» الذي أسس بالكلمة الطيبة الكثير من المؤسسات الارثوذكسية التي كان صاحب فكرتها ومحركها وملهم إدارتها ومطوّر آدائها.
لم يكن «صاحب الغبطة» يرضى بأنصاف الحلول بما يخص الانسان الذي «خلقه الله على صورته ومثاله»، وكان دائم النصح لرعيته الكبيرة: «كونوا على صورة الله، فهو لم يخلقكم بمفردكم بل خلق معكم الآخر، وعليكم أن تقبلوا هذا الأخر، وأن تتعاونوا وتتكاملوا وتتحاوروا معه لتكتمل بذلك الحياة».
ترك هزيم بصمة لن تُمحى من تاريخ الأرثوذكس في الشرق، وهي أنه البطريرك الأول والوحيد في سلسلة البطاركة الـ165 الذين تعاقبوا على عرش انطاكية، الذي أنشأ جامعة.
ففي صيف العام 1962 انتقل المطران هزيم الى دير سيدة البلمند، وكان ديرا صغيرا مهملا، فعمل بنشاط لتغيير حالته، وأعاد سريعا إحياء مدرسة البلمند التي كانت قد تأسست بفرمان عثماني وحوّلها الى ثانوية بدأ يحث أبناء الكورة على تسجيل أولادهم بها وعمل على تأمين الكادر الإداري والتعليمي الذي يليق بسيدة البلمند التي كان يحملها أيقونة على صدره.
كما أسس هزيم وهو لا يزال مطرانا، معهد اللاهوت الذي يعود إليه الفضل في تخريج معظم مطارنة الكنيسة الانطاكية الأرثوذكسية، وقبل تأسيسه اجتمع بعمداء كليات اللاهوت في أوروبا ووضعوا برنامجاً أكاديمياً يمنح إجازةً في اللاهوت، وتم ذلك بدعم من متروبوليت أميركا الشمالية المطران أنطونيوس بشير الذي اشترط أن تكون إدارة المعهد بيد المطران هزيم الذي رعى طلابه وعمل على تأمين كل مستلزمات المعهد في أصعب الظروف.
بعد انتخابه بطريركا في العام 1979 اتخذ هزيم، إغناطيوس الرابع، اسما له، وبقيت عيناه تشخصان الى تلك التلة البلمندية فوضع الحجر الأساس لجامعة البلمند في العام 1988 وجاب العالم لتأمين الأموال اللازمة للتوسيع والتجهيز والتطوير، فكانت القرية البلمندية القائمة على خمسين ألف م2، والتي تضم تسع كليات تضم أكثر من أربعة آلاف طالب من مختلف الطوائف والمذاهب، و35 مبنى من الطراز المعماري الجميل، فضلا عن سعيه لتعميم فائدتها، وبإخراج الجامعة من التلة البلمندية الى توسيعها في بيروت، وإيجاد فروع جديدة في عكار بدعم من الرئيس عصام فارس الذي دفعه شغفه بالبطريرك الى وضع إمكانيات كبيرة في القرية البلمندية، إضافة الى سوق الغرب على أرض قدمها النائب وليد جنبلاط.
لم يكتف البطريرك المشرقي بذلك، بل عمل على هامش تحقيق حلمه الأساسي بتطوير الجامعة الى بناء العديد من المؤسسات الارثوذكسية التربوية والاجتماعية والرعائية.
رحل هزيم وهو غير خائف على مسيحيي الشرق، «لأن المسيحيين هم أصحاب الأرض وليسوا رعايا، وبالتالي لا يستطيع أي كان أن يهجرهم أو أن يبعدهم عن أرضهم وكنائسهم التي عمرها من عمر المسيحية في هذا الشرق».
رحل هزيم، وهو يدعو بالخير لسوريا وبأن يلهم الله أهلها الصواب لما فيه مصلحتهم الحقيقية، وليس ما يُرسم لهم من الخارج.
رحل قبل أن يطمئن على الأرثوذكس في لبنان الذين شكل لهم لجنة استشارية خاصة لمتابعة حقوق الطائفة في الوظائف وتفعيل حضورها في سلك الدولة، وهو كان قد أوضح لكل المنتقدين «أن الهيئة ليست إطارا ضمن الطائفة، إنما هي من أجل تحصيل الحقوق».
مساء يوم الجمعة الماضي، وفي دردشته الأخيرة مع «السفير» التي كان يجاهر دائما بحبه لها، إثر استقباله نائب رئيس مجلس الوزراء سمير المقبل في منزله البلمندي، بدا البطريرك هزيم كمن يكتب وصيته. خاطب الأرثوذكسيين بالقول: «لا أحد منكم يحتاج الى إذن ليخدم طائفته. الطائفة تحتاج الى جهود الجميع، وهي ترحب بكل من يعمل من أجلها، ولا نريد أن يعمل أحد من ضمن الإطار السياسي بل من أجل تحصيل حقوق الطائفة».
في اللقاء نفسه، أوصى هزيم السياسيين الأرثوذكس: «اعملوا السياسات التي تريدون، انما كونوا واحدا بالحق الذي أعطي لنا في الدستور كسائر الطوائف، ولا يكون إهمال منكم بل كل اهتمام في هذا الشأن. فكل الهيئات السياسية في الطائفة ندعو لها بالتوفيق».
وتمنى هزيم على الشعب السوري ان يأخذ بالجهود التي تبذل لمصلحته وليس لمصالح دول اخرى، داعيا لبنان الى أن لا يتفرق، وأن يكون واحدا وموحدا.

غسان ريفي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...