مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام (1-2)

23-07-2006

مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام (1-2)

يكاد أن ينعقد الآن اتفاق المتشرعين من علماء الغرب ومتابعيهم على أن فكرة القانون الدولي
العام فكرة حديثة العهد ابتدعتها أوروبا أخيراً.
 هذا الحكم صحيح في الجملة، ويلوح لنا بمنأى عن الجدال ما دمنا نبعد بموضوعه عن محيط التاريخ الإسلامي، فالنظام الدولي لم يكن معروفاً حقيقة في العصر القديم اليوناني والروماني، ولا في العصور الدينية الأولى في اليهودية والمسيحية.
 أما العصور الدينية المذكورة فمن الميسور أن نتبين فيها هذا الفراغ، وأن ندرك أسبابه،
ذلك أنه حين تأسيس هاتين الديانتين لم يكن أمامهما علاقات دولية تتطلب هذا التشريع، فكان كل
نشاطهما مركزاً في بث الدعوى الدينية في نطاق محلى محدود، نعم أن نشر الدعوة الموسوية
في بني إسرائيل لم يلبث أن حمل هذا الشعب على الهجرة، وجعله يتصل بأمة مجاورة. غير أن هذه
الصلة الوقتية لم تكن إلا صراعاً خاطفاً انتهى إلى استئصال شأفة تلك الأمة وحلوله محله، ولم يترك
لها التاريخ القواعد التي بني عليها هذا الصراع والتحول.
 وأما العصور اليونانية والرومانية القديمة فأن خلوها من هذا التشريع مرده إلى اسباب تختلف عن ذلك كل الاختلاف، فليست المسألة مسألة انقطاع الصلة بين هاتين الدولتين وبين العالم الخارجي، إذ أن تلك العلاقات الخارجية لم تعوز هاتين الدولتين يوماً ما، ولكن نظرتهما نفسها إلى الحياة لم تكن لتسمح لهما بوضع تشريع كهذا، ذلك أن فكرة القانون الدولي تفترض قبل كل شيء الاعتراف بضرب من المساواة واشتراك المصالح وتبادل الحقوق والواجبات بين مختلف الأمم، وهذا لم يكن ليتفق والنظريات اليويانية والرومانية، فأما قدماء اليونان فأنهم، وأن كان يتعاملون فيما بينهم على قدم المساواة أو يكادون- على رغم الصراع الدائم بين مملكتي أسبارطة وأثنا – كانوا ينظرون إلى الشعوب غير اليونانية نظرتهم على كائنات جد منحطة، حتى أن أرسطو كان يرى البرابرة ( ويعني بهم الأجانب) ما خلقوا إلا ليقرعوا بالعصا ويسلبوا ويستعبدوا، وكذلك كان الأمر في التشريع الروماني، فإنه لم يكتفي بأن وضع نوعين متباينين من القوانين، أحدهما : للمواطنين ( القانون المدني) والآخر : لسكان البلاد الممتلكة( قانون الشعوب) بل أنه لم يكن يعرف في الصلاة الخارجية إلا قانون القوة الباطشة، فلم يجعل للأمم الأخرى حقاً في دفاعها عن نفسها، ولا في أمنها ودعتها، وإنما كان دستورها في نظره: « العبودية أو الفناء »، وإذا كان اتفق لروما في بعض الأحيان أن وضعت معاهدات سلمية على وجه دون وجه، فلم يكن ذلك راجعاً إلى أن هناك قانوناً يقضي بهذا
الشرط المعين أو ذاك، بل كان مصدره محض التفضل أو السعي وراء الأغراض والمنافع.
         ولو أننا بحثنا فكرة قانون الدولي في أوروبا في العصور الحديثة ما وجدنا كبير فرق بينها وبين تلك العصور الأولى، على الرغم التقدم الفعلي في تدوين قواعد هذا التشريع العام، ذلك أن فكرة تساوي الناس امام القانون – تلك الفكرة التي طالما طالبت بها الشعوب وتشدقت بها الحكومات – لم تتخذ بعد في نظر الغربيين صبغة القانون العام الشامل، ألم يقل: « استرات ميل » باستحالة تطبيق القانون على الشعوب الهمجية؟ أو لم يحدد « لوريمير » على وجه الأرض مناطق ثلاثا تخضع كل منها لقانون مختلف؟
فالعالم المتمدين يجب أن يتمتع في نظره بحقوق سياسة كاملة، والعالم نصف المتمدين يكفي أن يتمتع
بحقوق سياسية جزئية، بينما الشعوب غير المحتضرة ليس لها إلا حقوق عرفية لا تحمل إلا إلزاماً
قانونياً، وجاء ميثاق « عصبة الأمم » بعد الحرب العالمية الأولى فأقر هذا التقسيم الثلاثي وأكسبه سلطة القانون، بل لقد فرق في قلب المدنيات الأوروبية نفسها بين الحقوق السياسية للدول الكبرى
والدول الصغرى، وأي ما كان فأن منظمة الإسلام هذه لم تحضر غزو منشوريا، ولا فتح بلا الحبشة، وأخيراً شكلت ( جمعية الأمم المتحدة) بعد الحرب العلمية الثانية، فماذا رأينا ؟ أليس روح التفريق وعدم المساواة لا يزال مسيطراً فيها على عقول السادة الذين يتحكمون في مصير الإنسانية؟ أنه لا حاجة بنا إلى محاولة إقامة البرهان على ذلك، فهذه الحوادث التي تجرى تحت سمعنا وبصرنا وهذه الحلول العوجاع
التي تطبق عليها في أحضان هذه الجمعية الحديثة تنطق – بأفصح بيان – بأن الضعفاء والمظلومين
الذين كانوا يبنون آمالهم على مثل هذه المؤسسات لم ينالهم حتى الآن إلا حسرات تتلوها حسرات.

*  *  *
 إذا أردنا أن نظفر بتشريع دولي عام بالصبغة العالمية الحقيقية فعلينا أن نصعد بذاكرتنا إلى عصر رسول الإسلام.
 كلنا نعرف أن محمداً عليه الصلاة والسلام لبث زهاء عشر سنين في اتصال دائم بالأمم
والديانات مختلفة معادية طوراً ومسالمة طوراً، وطبيعي أن هذه الظروف الخاصة التي
جعلت الإسلام سلطاناً زمنياً وحكماً عالمياً - إلى جانب كونه عقيدة روحية، ومبدأ أخلاقياً – كانت تتقاضاه أن يضع تشريع لقانون السلم والحرب بين الأمم، فماذا فعل؟ وهل كانت إجابته لهذه الحاجة
الملحة شافية لغلة المتشرعين، مرضية للضمائر السليمة لدى الحكماء وذوي الخلق الكريمة؟.
         لا شك أن دراسة مستوعبة لهذه الناحية من التشريع الإسلامي تتطلب بحثاً عميقاً، لا للعهود والأقضية النبوية وحدها بل للمعاهدات التي وضعها الخلفاء والملوك الإسلاميون أيضاً في غضون
التاريخ ولكنه ليس من غرضنا في هذا المقال أن نجعل مجال بحثنا بهذه المثابة من السعة والاستقصاء،
وكل ما يعنينا الآن هو أن نستخلص ما في القرآن والسنة النبوية من المبادئ الأساسية، والخطوط
الرئيسية في هذا الشأن.

1- تصحيح خطأ مشهور:
وقبل كل شيء يجب أن نصحح خطأ ذائع في الأوساط الأوروبية، وهو زعم أن الشعوب الإسلامية يباح لها – بل يجب عليها امتثالاً لدستورها الديني – أن تحمل السلاح لإكراه الناس على الإسلام، وسحق الشعوب الأخرى التي لا تعتنق هذا الدين.
لئن كان هذا الرأي حقاً لقد وجب أن تمحى كلمة « القانون الدولي » من التشريع الإسلامي إذ لا يبقى لها فيه مدلول تشير إليه، ولا يبقى لغير المسلمين أمامه حق يطالبون فيه بحرياتهم ولا بحياتهم.
         ولكن الرجوع إلى نصوص القرآن الكريم يكشف لنا عن الحقيقة التي تخالف هذا الزعم على خط مستقيم، فالقرآن لا يكتفي بأن يحظر حظراص أدبياً كل محاولة لإكراه الناس على الإيمان: ( لا إكراه في الدين) سورة 2 آية 256 بل يقرر انه من المستحيل وقوعياً أن يسيطر على العالم دين واحد: ( ولا يزالون مختلفين ) 11: 118 ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) 12 : 103، إلا تكون محاولة فرض
عقيدة واحدة على الناس – والحالة هذه – ضرب من التناقض وإلا حالة الظاهرة؟ إن القرآن لم يفته
أن يبرز ما في هذه الغاية الطموحة من غرور خداع، وذلك حيث يقول: ( ولو شاء ربك لأمن
من في الأرض كلهم جميعاً، أفئنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) 10: 99 .
ومن هنا نرى كتاب الإسلام المطهر يحدد رسالة نبيه بادق ما يكون من العبارات الحاضرة، مبيناً أن مهمته إنما هي الموعظة والتذكير: ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) 88: 21، 22، بل أن هذه الدعوى السلمية نفسها لم يتركها القرآن حتى رسم حدودها وطريقتها وأوجب أن تؤدي بأكرم أسلوب، ومن ألطف طريق( أدعي إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) 16: 125
( ولا تسوبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) 6: 108 ( ولا تجادلوا أهل الكتاب
إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم
واحد، ونحن له مسلمون) 29: 46 .
ورب قائل يقول لنا: سلمنا أن كل إكراه ديني يجب أن يستبعد من أهداف الإسلام، فما الذي يمنع أن يكون من بين هذه الأهداف فكرة الفتح والتوسع التي يكون المسلمون قد دفعوا إليها بسبب من الأسباب الأخرى كداعية الثروة الاقتصادية أو الاستعلاء السياسي، أوغير ذلك؟
فلندع القرآن يقدم لنا الجواب عن هذا السؤال، وها هو ذا يقول : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يردون علواً في الأرض ولا فساداً) 28: 82
هكذا يقضي القرآن في حزم على تلك الروح الاستعمارية الجبارة. وبوجه عام على تلك
النزعة المادية المتطرفة التي انتشرت انتشاراً وبائياً في عصرنا هذا ، والتي هي المنبع الأول لكل
ما نشكو منه الآن.
ولكن هل نأخذ من كل ما تقدم أن الحروب ليس لها وجود قانون في نظر الإسلام؟
         هيهات فها هي ذي نصوص القرآن، لا تجعل الجهاد عملاً فاضلاً فحسب، بل تعده غالباً
من الواجبات الأولية.
فالسؤال الذي يجب وضعه الآن هو هذا : ما الأحوال والشروط التي يبرر بها الإسلام اتخاذ تلك المواقف الحربية، ويجعلها حقاً مشروعاً؟

2- تعريف الحرب المشروعة:
ليس من غرضنا قط أن نعمل الفكر والقياس الدقيق للتوفيق بين هاتين المجموعتين من النصوص القرآنية المتعارضة في الظاهر، فالنص القرآني يعفينا من هذه المهمة بما تقدمه لنا من الصيغ المحددة للمقصود، تميزاً بين الحرب المشروعة، غير المشروعة وإليك طائفة من هذه النصوص:
« وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم،  ولاتعتدوا أن الله لا يحب المعتدين » ( 2: 190) « فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم . . . . فإن انتهوا فلا عدوانا إلا على الظالمين» ( 2: 192 – 193 ) « فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيل » ( 4: 90) « لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين»(60: 8 ).
         وأقرأ على الخصوص آية براءة التالية، فإن تحديدها لأهداف الإسلام في هذا الشأن أوضح وأصرح: « إلا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم هموا بإخراج الرسول وهم بداء وكم أول مرة ؟ أتخشونهم؟
فالله أحق أن تخشوه أن كنتم مؤمنين » ( 9:13).
من هذه النصوص التي سردناها، ومن نصوص كثيرة أخرى يخلص لنا تعريف
« الحرب المشروعة » في الإسلام وأنها هي « الحرب الدفاعية» .
ويجمل بنا أن نشير إلى أن كلمة الدفاع ينطوى تحتها نوعان قد أشار القرآن إلى كليهما
1- الدفاع عن النفس. وفيه يقول الكتاب المجيد: « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله   على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله » ( 22: 39- 40 ).
2- الإغاثة الواجبة لشعب مسلم أو حليف عاجز عن الدفاع عن نفسه. وهذا هو ما حث عليه القرآن في قوله: « ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون:
ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وأجعل لنا من لدنك وليا وأجعل لنا من لدنك نصيراً » ( 4:75).
         وغنى عن البيان أن المفروض في كلتا الحالتين، أن يكون العدو قد اتخذ بالفعل موقفاً عدائياً، وأن يكون في حالة هجوم أو تأهب للهجوم. فالمظاهر غير الودية والإساءات الأدبية، والمقاومات العنيدة لأمانينا المشروعة، كل ذك لا يسوغ لنا أن نتخذه ذريعة لإعلان الحرب. وإنه لمن أكبر مفاخر الإسلام أن يكون القرآن نفسه هو الذي وضع هذا التحديد في صراحة حيث يقول:« ولا يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى. ولا تعاونوا على الإثم والعدوان » (5:2).


3- الصلح المجحف خير من الانتصار الدامي:
من هنا نرى أن الحروب في نظر الإسلام شر لا يلجأ إليه إلا المضطر. فلأن ينتهي المسلمون بالمفاوضة إلى صلح مجحف بشيء من حقوقهم، ولكنه في الوقت نفسه يحقن الدماء، خير من انتصار باهر للحق تزهق فيه الأرواح.
وإن لنا في موقف الرسول في غزوة الحديبية لنموذجاً حسناً لهذا الروح العالي في التسامح والصفح، حرصاً على السلام من جانب الطرف الأقوى، فهو لم يكتف بالرجوح مع جيشه من حيث
أتوا، وبتأجيل ما كانوا أجمعوا على أدائه في ذلك العام من المناسك « زيارة الأماكن المقدسة »، ولم يكتف بأن رضى بتجريد أسمه في نصوص الهدنة من كل لقب تشريفي هو أهله، ولكنه فوق ذلك كله قبل مختاراً مقترحات الهدنة التي لا يعامل فيها الطرفان على قدم المساواة. بل تخول الأعداء حقوقاً لا تخولها المسلمين، ناهيك بالشرط الذي يُلزم المسلمين بإعادة من يلجأ إليهم فراراً من معسكر قريش، بينما تجعل للهاربين من معسكر المسلمين حق البقاء في معسكر قريش دون إزعاج ولا رد، ونحن نعرف كم كان هذا الموقف البالغ الحد في المسألة مثير الاستفسارات الصحابة واعتراضاتهم. ولكن كل هذه المآخذ لم تكن لترجح كفة الحرب في نظر قائدهم الأعلى، ولم تكن لتعدل به عن في وجوب السائلين له عن السر في هذا العدول عن دخول مكة « والله لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم، إلا أعطيتهم إياها ».

محمد عبد الله دراز

من مختارات الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...