كتب أحرقت مرتين

07-11-2009

كتب أحرقت مرتين

كان مصير كتب المحلل النفسي النمساوي الأصل فيلهلم رايتش ( 1897 – 1957 ) غريبا , و لعل هذا المصير الغريب كان في الواقع انعكاسا لطبيعة العصر الصاخبة و حقيقة القوى التي تنازعته . بدأ هذا المحلل النفسي حياته بطفولة مضطربة فقد فيها والديه انضم بعدها إلى الجيش النمساوي في الحرب العالمية الأولى ليعود بعد نهاية الحرب لدراسة الطب في جامعة فيينا و ينهي سنوات الدراسة الست في أربع . عندها كان التحليل النفسي الفرويدي يشهد صعوده السريع و سرعان ما أصبح الطبيب رايتش محللا نفسيا لكنه خلافا لأستاذه اعتنق الماركسية , و اعتبر أن مصدر الكبت الجنسي كان هو الأخلاق البرجوازية و البنى الاقتصادية – الاجتماعية التي تنتجها . لكن رايتش , الذي كان قد انضم إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي عام 1928 و بعد ذلك إلى الحزب الشيوعي الألماني عام 1930 عندما انتقل إلى برلين , انتهى في دراسته لظاهرة النازية الصاعدة في كتابه سيكولوجية الجماهير للفاشية , الذي صدر عام 1933 , إلى أن الفاشية كانت عرضا للكبت الجنسي و أدان أيضا الشيوعية السوفيتية كفكر تسلطي بطريركي , و سرعان ما طرد رايتش بعد صدور كتابه هذا من الحزب الشيوعي الألماني . ما أن وصل النازيون إلى السلطة حتى حظروا كتابه بينما هرب هو على الفور متخفيا كسائح إلى النمسا المجاورة ثم إلى اسكندينافيا قبل أن ينتقل إلى أمريكا عام 1939 , و كانت كتبه بين تلك التي أحرقها النازيون في حفلهم الشهير عندما أحرقوا كتب كل من اعتبروه من غير الآريين أو معاديا لروح الشعب الألماني . في عام 1934 طرد رايتش أيضا بسبب أفكاره الراديكالية من الجمعية السيكولوجية العالمية . في أمريكا التي وصل إليها تعرضت كتبه "للاغتيال" مرة أخرى عندما طبعت من جديد بعد أن "عدلت" ( جذريا في أغلب الأحيان ) للتخفيف من أفكاره الراديكالية السابقة , مثلا أحد أهم كتبه "الجنس في الصراع الثقافي" و الذي حمل اسما ثانويا "نحو إعادة بناء اشتراكية للبشر" و الذي صدر لأول مرة عام 1936 غير اسمه في الطبعة الانكليزية لعام 1945 إلى "الثورة الجنسية" و استعيض فيه عن رفضه القاطع لمؤسسة العائلة في الطبعة الألمانية بموقف أكثر تسامحا تجاه العائلة . في مرحلة لاحقة أثناء وجوده في أمريكا افترض رايتش أنه قد توصل إلى اكتشاف شكل من الطاقة , سماه أورغون Orgone  , اعتبره الطاقة الكونية الأولية و افترض أنه موجود في الأثير و اخترع أجهزة لتركيز هذه الطاقة لمعالجة الأمراض التي افترض أن فقدان هذه الطاقة هو سببها . بسبب ماضيه الشيوعي استجوب مكتب التحقيقات الفيدرالي رايتش عند قدومه إلى الولايات المتحدة قبل أن يتوصل إلى أنه لا يشكل خطرا على أمن الولايات المتحدة , لكن وكالة الغذاء و الدواء الأمريكية دخلت في نزاع قانوني معه بسبب أجهزته لتركيز طاقة الأورغون و عندما رفض الدفاع عن نفسه في المحكمة صدر قرار قضائي بمنعه من نشر أو بيع تلك الأجهزة و أية منشورات عن الطاقة التي زعم اكتشافها , و بسبب مخالفته لهذا الأمر القضائي حكم عليه بالسجن لمدة سنتين , بعد أن رفض مرة أخرى مناقشة نظريته معتبرا أن المحكمة ليست المكان المناسب لمثل هذا النقاش . في 26 يونيو حزيران 1956 قام موظفو هيئة الغذاء و الدواء بإحراق عدة أطنان من كتب رايتش و أوراقه , و كرروا ذلك في مناسبتين أخريتين , بعد أكثر من عقدين على قيام النازيين بإحراقها لأول مرة . أما رايتش نفسه فقد توفي أثناء نومه في السجن قبل أيام من استحقاق الموعد الذي يمكنه فيه أن يطالب بإطلاق سراحه بسبب قصور في القلب . قيل الكثير عن صحة مزاعم رايتش , لكن من المؤكد أن هذا الرجل لم يجد أي تسامح من أي من القوى التي انتقدها , على اختلافها , و أنها لاحقته بضراوة , أساسا بسبب انتقاده لها , بينما كان عدم تسامحه مع أي شكل من أشكال التسلط البطريركي من أهم مزاياه و ربما مصدر كل الصعوبات التي واجهها في حياته , مما قاله رايتش أثناء محاكماته تلك في الولايات المتحدة "إنني أطالب بحقي في أن أبحث في الظواهر الطبيعية دون أن تكون هناك مسدسات موجهة إلى رأسي . كما أني أطالب بحقي في أن أكون مخطئا دون أن أشنق بسبب ذلك" .

مازن كم الماز

المصادر : www.wilhelreichmuseum.org
www.orgoneinstitute.de

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...