فيلم "التائب": عودة إلى ميراث سنوات العنف في الجزائر

21-10-2012

فيلم "التائب": عودة إلى ميراث سنوات العنف في الجزائر

يلقي ميراث سنوات العنف الضاري الذي شهدته الجزائر في تسعينيات القرن الماضي بظلاله المعتمة على فيلم المخرج الجزائري مرزاق علواش "التائب" الذي يعرض هذه الايام ضمن فعاليات الدورة 56 لمهرجان لندن السينمائي.

فعلواش الذي سبق أن عالج موضوعة تصاعد مد الجماعات الاسلامية المسلحة والتطرف في الجزائر ووجه صرخة ضد ذلك في فيلمه "باب الواد سيتي" المنتج عام 1994 وفي ذروة نشاط هذه الجماعات ودوامة العنف التي تلف الجزائر حينذاك، يعود بعد نحو 18 عاما لمعالجة ميراث هذه السنوات وما خلفته من ندب وجراح لا تندمل في الواقع الجزائري.

ففي "التائب" يعود الى نهاية حقبة التسعينيات عندما حاولت السلطات الجزائرية انهاء دوامة العنف وتحقيق نوع من المصالحة الوطنية وتشجيع عودة من تعتقد انهم ضللوا بالانتماء الى الجماعات المسلحة الى مدنهم وقراهم، فأصدرت ما عرف حينه باسم ميثاق "السلم والمصالحة الوطنية" في عام 1999 او لاحقا بـ "قانون الوئام المدني".

ويتخذ علواش شخصية فيلمه الرئيسية من بين هؤلاء العائدين عبر هذا الميثاق والذي يطلق عليهم الجزائريون اسم "التائبون"، ليضع هذه الشخصية تحت مجهر تحليله وفي سياق معالجته الدرامية يناقش مجمل فكرة التوبة عن نشاط الجماعات المسلحة ومدى امكانية تحققها في المجتمع.

حجر في بركة الصمتوإذا كان البعض في الجزائر قد كتب ضد معالجة علواش لهذه الموضوعة التي يرى فيها تشكيكا في جوهر فكرة التوبة عن الجماعات المسلحة، واتهاما للنظام بتقديم تشريع براغماتي يبيض صفحة هؤلاء ويعطيهم حق العودة للمجتمع دون محاكمة عما ارتكبوه من جرائم، الا أن هذه الخلاصة تتخذ طابعا تأويليا لما قدمه علواش في فيلمه وربما ساعد في تشكيلها الغموض الذي عالج فيه دوافع الشخصية والنهاية المفتوحة التي قدمها في فيلمه.

لقد قاد انشغال علواش بخلق شخصية سينمائية مثيرة وفي سياق درامي مشوق يعتمد الغموض والحبكة البوليسية في بعض مقاطعه إلى فقدان القدرة على الغوص عميقا في دواخل هذه الشخصية وتحليل دوافعها او الظروف الموضوعية التي وقفت وراء خياراتها.

ويبدو أن علواش اراد ان يلقي بحجر في بركة الصمت عن التناول المعمق لهذه القضية والغوص في تفاصيلها، محاولا تبديد روح التفاؤل التي سادت بعد فكرة المصالحة وانهاء حقبة العنف. مثل هذا التفاؤل الذي يراه مزيفا، مشيرا في تصريحات صحفية الى أنه ليس ضد قانون الوئام المدني لكنه مع تأكيد ضرورة "الحديث عما حصل" ومناقشته.

يفتتح علواش فيلمه بمسيرة بطله رشيد (الممثل نبيل العسلي) لاهثا وسط الثلج وبيئة وعرة ليصل الى قريته واهله الا أنه يواجه برفض بعض سكان القرية له واتهامه بارتكاب اعمال قتل.

ليذهب إلى المدينة لتسليم نفسه للسلطات الامنية وليطلق سراحه على وفق قانون الوئام المدني، ويساعده ضابط شرطة في الحصول على عمل في مقهى، ويعامله صاحب المقهى باحتقار رغم موافقته على عمله في مقهاه.

تشويقوهنا يدفع علواش بخيط درامي جديد هو الصيدلاني (الممثل خالد بن عيسى) الذي انفصل عن زوجته السابقة، ويعيش مدمنا على الكحول، منعزلا عن المجتمع إذ نراه عندما يعود الى منزله يضع التلفزيون على قناة ناطقة بالصينية التي لا يفهمها.

وينحو علواش بالفيلم هنا منحى التشويق والحبكة البوليسية عبر النداءات الهاتفية التي يتلقاها الصيدلاني من رشيد المسلح (التائب).

اذ يتصل الصيدلاني بزوجته السابقة (عادلة بن دمراد) لتأتي الى منزله لتشهد بنفسها مكالماته مع رشيد التي لا يفصح المخرج عنها شيئا.

ثم يجمع المخرج شخصياته الثلاثة في رحلة طويلة تحتل الجزء الاخير من الفيلم، وتحيله (في هذا الجزء) الى نوع من افلام الطريق.

وهي رحلة يحتل الصمت والغموض جانبا منها، فتبدو الشخصيات الثلاثة فيها ترزح تحت ثقل مآساة وميراث سنوات العنف التي عاشتها البلاد.

وتكسر ثورة الأم ومحاولتها ضرب رشيد واتهامه بالمشاركة بقتل ابنتها هذا الصمت في هذا المسار الذي بدا وكأن الشخصيات الثلاثة تعيش فيه تحت ثقل مصير تاريخي تراجيدي. (لم تكن الممثلة دمراد موفقة كليا في تجسيد هذا المشهد فبدت مبالغة في انفعالاتها التي بدت كالانفجار بعد لحظات صمت وترقب).

ويبدأ علواش بتفكيك أستار الغموض التي تحيط بشخصياته باصرار الزوجة على أن يوضح رشيد كل شي رغم رفض الزوج لذلك في البداية.

وهنا يحاول رشيد أن يبرئ نفسه من ارتكاب عمليات القتل، الا أننا نعرف من سياق الاحداث أنه طلب مبلغا من المال من الزوجين مقابل أن يدلهما على قبر ابنتهما التي اختطفتها الجماعة المسلحة لمعاقبة والدها لعدم تقديمه الادوية لهم.

وتزيد النهاية المفتوحة التي يختتم بها علواش فيلمه من الغموض الذي حرص المخرج عبره على عدم تحديد وجهة نظر محددة للحكم على شخصيته، اذ يصلون الى منطقة نائية في الجبال حيث يشير رشيد إلى بقعة على الارض بأنها قبر الابنة الى جانب قبور اخرين دون شواهد لضحايا او مسلحين، لنرى نزول اقدام مسلحين من غابة الاشجار القريبة ثم نسمع صوت اطلاق رصاص.

ويترك علواش لمشاهديه الاستنتاج وتخيل النهاية والحكم على شخصيته، هل قتل المسلحون الثلاثة، ام قتلوا الصيدلاني وزوجته، وهل كان رشيد (تائبا) فعلا او ضحية مغرر بها، أم انه كان جزءا من سيناريو ينفذه لاستدراج الصيدلاني وزوجته لقتلهما؟

قصة حقيقيةلقد نجح الممثل نبيل العسلي في تجسيد شخصية رشيد في الصورة الغامضة التي رسمها بها المخرج والتي تفتح الباب للتأويلات المختلفة، بين براءة يجسدها وجهه الطفولي وشقاء وبؤس وحيرة تحملها قسمات وجهه، ونظرة ثعلبية تنم عن دهاء ما يتسلل خلف هذه الملامح، عاكسا بذلك ما أراده علواش من شخصيته هذه بأن تبدو شخصية اشكالية غارقة في تناقضاتها بين صورتين مختلفتين.

وقدم المصور السينمائي محمد طيب لاغون تجربة ناجحة في التعاون مع علواش في هذا الفيلم، وبدت براعته واضحة في سيطرته على الكاميرا المحمولة في مشاهد الطريق، وتصويره تلك المشاهد الطبيعية الموحشة التي بدت في الوقت نفسه انعكاسا مقابلا للوحشة والحيرة التي تعيشها شخصياته.

ويبدو أن علواش في عودته لمعالجة موضوعة الارهاب وعنف الجماعات المسلحة إختار أن ينحو هذه المرة منحى التركيز على البناء الفني لشخصيته وخلق بناء سردي مشوق على حساب التركيز على الموضوع نفسه وتقديم معالجة تحليلية لعناصره وهو النهج الذي عرف به في أفلامه السابقة.

ويؤكد علواش على أنه اخذ قصة فيلمه من قصة حقيقية نشرتها الصحف الجزائرية عن احد "الارهابيين التائبين"، الذي تواطأ مع شبكة اجرامية لابتزاز عائلات ضحايا الجماعات المسلحة المفقودين خلال عشرية العنف في الجزائر، عبر الايحاء اليهم بتقديم معلومات عن مصائر وقبور ذويهم المفقودين.

لقد اخرج علواش نحو 18 فيلما، بعضها للتلفزيون، بدأها بفيلمه الاول "عمر قتلته الرجولة" الذي استقبل بحفاوة نقدية كبيرة عند عرضه في العديد من المهرجانات، وتبعه بفيلم مغامرات بطل عام 1979 ثم "رجل ونوافذ" عام 1982.

وهاجر بعد هذا الفيلم الى فرنسا ليقدم عددا من الافلام هناك بدءا من "حب في باريس" عام 1987 "باب الواد سيتي" 1994 و"سلاما ابن العم" 1996 و"الجزائر بيروت للذاكرة" 1998 و"العالم الاخر" 2001 و"شوش" 2003 و"باب الويب" و"حراقة" عام 2009 و"نورمال" 2011.

توزعت افلام علواش على عدد من الموضوعات الاثيرة لديه، كما هي الحال مع عنف الجماعات الاسلامية الاسلامية ودوامة العنف التي لفت الجزائر التي عالجها في افلام "باب الواد سيتي" و "العالم الاخر" و"التائب"، واوضاع المهاجرين الجزائريين في فرنسا في افلام "سلاما ابن العم" و "باب الويب" و "حراقة" و "شوشو" (والاخير اتخذ طابعا كوميديا)، او موضوعة الفساد والبيروقراطية وسوء الادارة في الجزائر في افلام " رجل ونوافذ" و"نورمال"،

وتجعل غزارة انتاج مرزاق علواش في سينما شحيحة الانتاج مثل السينما الجزائرية من افلامه خير مكان يمكن البحث فيه عن صورة الانسان الجزائري وغربته داخل البلاد اوخارجها فضلا عن تلك التطورات المطردة التي شهدتها الجزائر في العقود الاربعة الاخيرة.

المصدر: BBC

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...