غسان الرفاعي: هاجس التلاشي

15-03-2010

غسان الرفاعي: هاجس التلاشي

­1­ يرجف بعض المراقبين الاستراتيجيين أن الشرق الأوسط سيشهد عاجلاً أم آجلاً، تشطيرا جديداً، على غرار ما حدث بعد التوقيع على اتفاقية سايكس بيكو، وفي حين كان التشطير السابق جغرافياً، فإن التشطير الجديد سيكون طائفياً، وإثنيا، وكما لاحظ (جاك جوليار)، في سوء نية، وهو من كبار المنظرين الاستراتيجيين وله مقال أسبوعي في (النوفيل اوبسرفاتور): (البلدان الوحيدة التي تنزف من التنابذ الطائفي والإثني هي البلدان الإسلامية حالياً، خاصة الباكستان، والعراق، والصومال، وأفغانستان، وهناك احتمال ملح أن يفرز هذا التنابذ حروباً أهلية لا تقتصر ساحاتها على هذه البلدان، بل ستنتقل إلى الشرق الأوسط. حيث يتفاقم التوتر بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وما يسببه من امتدادات محلية وإقليمية ودولية...).

­2­ ‏

الدنيا العربية (تجعجع دون أن تطحن): تصريحات صارخة يطلقها مسؤولون مترهلون من أعلى المنابر، وكأنها (اوزار) يريدون التخلص منها، عناقات حارة بين الأشقاء الألداء تخفي تحت العباءات خناجر مسمومة. وحنان ملغوم ينتقل من عاصمة عربية إلى أخرى، والسيادة دوماً للامتيازات والمكاسب والأسلاب. أما الدنيا غير العربية المجاورة، فهي (طحن دون جعجعة): مخططات لنهب ما تحت الأرض، ما فوقها، خرائط جاهزة للتقسيم والتشطير، وبرامج معدة للهيمنة والحصار، واغراءات داعرة للاستلاب والتخلع، والانسان العربي في كل مكان (شاهد زور) يراقب ويتوجع، يخاف: ثم يسدل عينيه، وينام (مأزوما، محبطاً). ‏

­3­ ‏

بعد سحب القومية العربية من التداول وتوصيفها بأنها (طوبائية غوغائية وتسلطية طفولية) وبعد تفتت التضامن العربي واتهام الداعين إليه بالانتهازية، وفقدان الحس الواقعي، وبعد أن فشلت المصالحة العربية، بسبب تجاهلها (للحساسيات، وإغراقها في التفاؤل الساذج) يأتي سياسي نابه ليذكرنا بنزاهته، نحن المهزومين والمتسكعين على بوابة النظام العالمي الجديد، بأن القومية العربية، على الرغم من اخفاقاتها وأخطائها، ومعاركها الخاسرة، لا تزال هي المخرج الحضاري الوحيد من المأزق الدموي الذي تعيشه ببلادة واكتئاب. ‏

أعيد إصدار كتاب (الأخضر والأسود) للسياسي النابغ (جان بيير شوفنمان) هذا الأسبوع، ويدور حول (الأصولية والنفط والدولار)، لقد أراده أن يكون إطلالة نزيهة ودسمة على إشكاليات العالم الغربي المعاصرة، ودعوة صارخة للقيام بثورة في الفهم الغربي (المضلل والخبيث) للعلاقة بين شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وثورة شبيهة بالثورة الكوبرنيكية التي أثبتت أن الأرض والأجرام السماوية الأخرى تدور حول الشمس، لا العكس كما كان يعتقد سابقاً، لقد طالب الجنرال (ديغول)، ذات يوم، بالذهاب إلى الشرق العربي الغامض والمقلد (بأفكار بسيطة) وواضحة، ويبدو ان (شوفنمان) المفكر الذي اكتشف (ديغول) متأخراً، من أكثر السياسيين الفرنسيين صدقاً مع نفسه ومع الآخرين، وقد اكتشف بعض الأفكار البسيطة التي تضع حداً للمغالطات، والأكاذيب والتناقضات التي دأب الغرب الأوروبي على ترديدها عن العرب واشكالاتهم ومآزقهم. ‏

­4­ ‏

الخطأ الفادح الذي وقع فيه الغرب في تعامله مع العرب، وهم يخوضون معركة من أجل استرداد هويتهم، هو إصراره على تقييم كل ما يبدر عنهم من منطلق غربي بحت، دون احتساب لخصوصيتهم، ويستشهد شوفنمان بالمستشرق الفرنسي جاك بيرك حين يقول: هوية أي شعب من الشعوب لا يمكن أن تكون إلا تاريخية، إننا، إذ نعرف بأنفسنا لابد لنا من مرجعية ثابتة وهذه لا يجوز أن تقتصر على الأرض أو العرق أو اللغة وإنما على التجذر التاريخي. ‏

والمأساة، كما يراها شوفنمان هي أن الغرب فسر التاريخ العربي من منظوره ولم يسع قط إلى فهمه من الداخل، فإذاً لابد من إحداث ثورة كوبرنيالية تقوم على ضرورة (دوران الغرب حول الشرق بدل المطالبة بأن يدور الشرق حول الغرب). ‏

وتترتب على هذه الثورة ثلاث نتائج في غاية الخطورة. ‏

أولاها أنه لا يكفي نقل مواصفات الديمقراطية الليبرالية الجاهزة إلى العالم العربي لأنها قد تفاقم من الأزمة وقد تولد حروباً أهلية وإنما ينبغي العمل على إنفاذ هذه الوصفات في صميم النسيج التاريخي للأمة العربية. يقول شوفنمان: من السذاجة أن نتصور أن الازدهار الاقتصادي في اليابان أو دول التنين الأربع في الشرق الأقصى هو تطبيق لوصفة سحرية أفرزها السوق أنه تراكم تاريخي اعتمد على عادات وطقوس قديمة... ‏

ثانيتها أن الحداثة والقومية العربية قد توصلتا إلى ميثاق تعاقدي، وكان من الممكن أن تحققا الطفرة النهضوية المنتظرة غير أن الغرب يسعى دوماً إلى اختراق هذا الميثاق وإفشاله بسبب إصراره على اعتبار الانبعاث القومي خطراً عليه وعلى مصالحه. يكتب شوفنمان: وإذا كانت التجربة القومية في أوروبا قد انتهت إلى الفاشية أو النازية فليس من الضروري أن تنتهي التجربة القومية العربية إلى ذات المصير، فالأولى كانت حركة هيمنة وتوسع في حين بقيت الثانية حركة تحرر وطني. ‏

ثالثتها أن دولة القانون في أوروبا لم تنشأ بين عشية وضحاها وإنما هي تتويج لنضالات دامية مستمرة شاركت فيها الجماهير والقيادات السياسية والثقافية ولهذا لا يجوز أن يقال إن نموذج الدولة المملوكية هو النموذج السائد في الشرق العربي وإنه من العبث إسقاط الاستبداد الشرقي أو سرايا السلطان الحاكم وبلاطه، ومن المكابرة والجزم بأن نظاماً ديمقراطياً حقيقياً يستحيل أن ينجح في أي مكان من الشرق العربي، وفي رأي شوفنمان أن العودة إلى ميثاق الحداثة والقومية أمر كثير الاحتمال بل لعله الاحتمال الوحيد للتخلص من الأزمة أو الكارثة وهذا الميثاق إذا حسنت النية وتغلب المنطق الوطني يمكن أن يقضي على التناقض الدموي بين الأصولية والعلمانية، بين الخليفة الذي يحكم بأمر الله والرئيس الذي يحكم بموجب الدستور. ‏

­5­ ‏

ولئن شهد الشرق العربي مولد حضارات عريقة كالفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية وكان من المتوقع أن يستمد هويته منها على هذا النحو أو ذاك فإن معركة الهوية تدور اليوم بين ثلاثة نماذج ضاغطة لابد من التوصل إلى تسوية تاريخية بينها: الهوية الإسلامية والهوية الغربية والهوية العربية النهضوية، هناك مجابهة دموية اليوم بين الصاروخ والخنجر على امتداد الشرق الأوسط، إنها معركة غير متكافئة ولكن الصاروخ لن يستطيع أن ينتصر نهائياً على الخنجر. ‏

في نهاية الكتاب هذا الاعتراف الصادق (هناك هوة كبيرة من سوء الفهم والأحقاد لا تزال تتسع بين شاطئي البحر الأبيض المتوسط ويجب على فرنسا أن تردمها، لقد غابت فرنسا عن الموعد الذي حدده التاريخ لها لكي تلعب دوراً كبيراً عام 1990 قبل حرب الخليج فأضاعت فرصة قد لا تسنح لها ثانية، هناك ليل أسود يغلف الغرب والشرق ولابد من الخروج منه بالحوار والثقة المتبادلة والتعاون أمام تصاعد الهمجية في كل مكان، هناك متسع للتكافل والحب والاحترام). ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...