غسان الرفاعي: تسويق القناعات المزوّرة

16-11-2009

غسان الرفاعي: تسويق القناعات المزوّرة

ـ 1 ـ قد نحتاج إلى بعض الفطنة لنكتشف أن هناك مخططاً شيطانياً بغرس ثلاث قناعات في تلافيف دماغنا: الأولى، غسل إسرائيل بالماء الطهور، وتقديمها على أنها «محبة للسلام متفانية بالتمسك بالقيم الخلقية«، وهذا يفسر الجنون الإعلامي لتبرئتها من جرائم الحرب في غزة، والسعي الحثيث لتملصها من إدانات تقرير غولدستون. والثانية، الصفح عن الولايات المتحدة، وإقناع المترددين بأنها مازالت »واحة للديمقراطية، وحقوق الإنسان«، ومن هنا الإسراف في تبرير نكوص الموقف الأميركي عن التزاماته وتعهداته حول تجميد الاستيطان وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. والثالثة، إيهام العالم أن القيم الوحيدة التي تدافع عن كرامة الإنسان وحريته هي القيم الغربية. وقد احتشد المثقفون للدفاع عن هذا الزعم بغطرسة، وقد شهدت الساحات الإعلامية، في عواصم الغرب، طوال الأشهر الثلاثة الماضية، طوفاناً من »الأغذية الإعلامية السامة« شاركت فيها الإمبراطوريات الإعلامية، في كثير من البراعة والحنكة.

وكما قال مراقب اكتفى بالمشاهدة لا بالتحليل: »أغرقونا بالاستعراضات التي أخرجها محترفون أذكياء، بحيث بدأنا نخشى من أن نفقد قدرتنا على المحاكمة السليمة«. ‏

ـ 2 ـ ‏

لقد حاول جيل من »المفكرين ـ القراصنة« في الغرب، أن يسطو على الفضاءات، والمنابر، وأن يمارس هواية »الحفر« في التضاريس التاريخية، لاستخراج ما يمكن تسميته »الأمة الغربية الموحدة« بحجة أن إنقاذ الإنسانية يتوقف على انتصار الغرب أمام البربريات الشرقية التي تزحف في كل مكان، حاملة معها الهوس الديني، والجنون الإثني، والإرهاب الحضاري. ‏

وفي حين يتفسخ »الشرق الغامض«، دولاً، وأقاليم وكيانات، تتصاعد في أرجائه الدعوة إلى رفض الآخر، بل إلى تصفيته، أو محاصرته في غيتوتات اسمنتية، تتلامح »الأمة الغربية الموحدة« بعد صراعات ونزاعات دامية، استهلكت شعوبها، وتجتاح الدعوة إلى »الوحدة الغربية«، دولاً وأقاليم وكيانات. أليس من المذهل أن يسعى الكل في هذا الغرب إلى التحالف وتذويب الفروق، على الرغم من اختلاف اللغات، والخصائص التاريخية، في حين يتفانى الكل في هذا »الشرق الغامض« إلى التشظي، والانقسام، والتفتت، قومياً، وطائفياً، وعرقياً، على الرغم من وحدة اللغة والتاريخ والرؤية؟ ‏

ـ 3 ـ ‏

ولكن ما هذا الغرب الموحد الذي ينتصب أمامنا كالمارد الذي يجترح المعجزات، بعد ملامسة المصباح السحري، على نحو ما تتحدث عنه قصص ألف ليلة وليلة؟ ما هذه الهوية العملاقة التي تطفو على السطح الآن، على الرغم من التباين الاجتماعي واللغوي، وهل هناك قيم موحدة تجمع هذا الشتات وتميزه عن العوالم الأخرى، الصينية ـ الهندية ـ العربية ـ الإفريقية ـ تبرر تماسكها ضد التهديدات العسكرية المفترضة، وضد أخطار التفسخ، والخلاسية الحضارية، والهجانة الثقافية؟. ‏

ويجمع هؤلاء المفكرون أن الهوية الغربية قد تكونت وتفولذت عبر خمسة أحداث جوهرية تضافرت، بنسب متفاوتة، على تحديد مقومات هذه الهوية: أولها، صورة مفهوم الدولة، القائمة على القانون على نحو ما تجسد في المعجزة اليونانية / سقراط، أفلاطون، أرسطو/، وثانيهما، تحديد مفهوم الحق ببعديه الشخصي، والاجتماعي، وهو أكبر إنجاز للإمبراطورية الرومانية. وثالثها، الثورة الأخلاقية المستمدة من اللاهوت المسيحي، وإكساب العدالة بعداً إلهياً مقدساً!، ورابعها، التحرك البابوي في القرون الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر الذي أعلن عن ولادة الحلف المقدس بين أثينا وروما والقدس، وخامسها، ظهور الليبرالية الاقتصادية، وولادة الحداثة بالمفهوم المتداول حالياً، ولئن اتخذت هذه الأحداث أبعاداً محلية وقومية خاصة، بعض الأحيان، إلا أنها ظلت هي القاسم المشترك لما يسمى »الهوية الغربية«. ‏

ويؤكد مفكرو هذه الهوية الفضفاضة أن خصائصها الأساسية قائمة على الديمقراطية، والعقلانية، والعلمانية، والحرية الثقافية، وصيانة الملكية الفردية، وعلى »الشخصانية«، وهذه كلها ليست متبطنة بالولادة، وإنما هي ثمرة نضال تاريخ طويل، وبناء ارتفع، قرميدة فوق قرميدة، عبر مخاضات واشتباكات مضنية. ‏

ـ 4 ـ ‏

وهناك إجماع على أن المسار الغربي هو المسار الوحيد الجدير بالاحترام والتقدير، ولابد من رفض أمرين يكثر الحديث عنهما الآن: التعددية الثقافية أولاً، والخلاسية الحضارية ثانياً، ذلك أن التعددية تشابه »لعبة يلعب فيها كل لاعب حسب قوانينه الخاصة باللعب« والخلاسية، بالتعريف، هي »نفاق وهجانة، وقبول بالتزوير...«. ‏

ويبدو أن هناك اتفاقاً على شحن مواطني هذه الأمة الغربية الموحدة بحماسة دينية، »وتعصب عنصري« وأن هناك خطة مبرمجة، تطبق بنودها بذكاء وتصميم، وما يجري حالياً ليس أكثر من ترسيخ متسلسل لهذه الخطة، ولكن الخلل لابد أن يتسرب إليها ليحدث فيها تشققاً، بل قد يدفع بها إلى الانهيار الكامل، وهذا ما عبر عنه الرافضون للاستكانة حينما أعلنوا بلسان »اغتاسيو رامونيه«: »كلا، لن ينجح الاستئثار، ولو سلح بأفتك أسلحة الدمار الشامل، ولابد من حوار الحضارات، ولابد من بزوغ فجر الإنسانية الجديدة، آجلاً أم عاجلاً...«. ‏

ـ 5 ـ ‏

يتحدث (ألبير كامو) عن »عاهة« تؤرقه وتثير غضبه هي الشعور بعبثية الوجود الإنساني، وهو لهذا يدعو إلى التمرد على »فظاعة« العالم الزاخر بالمظالم والمجازر والفساد، يصرخ في كتابه الملحمي »الإنسان التمرد«: »انظروا إلى جثة البراءة التي نصطدم بها أينما توجهنا، إنها تكشف عوراتنا، ولكنها تظهر جبننا أيضاً. ونحن نرفض الجريمة، ولكننا نستمر في ارتكابها، وقد لا نجد ضرورة لتبريرها وتفسيرها«، ثم يكتب في رواية »الطاعون«: »نشاهد الجريمة، وهي ترتكب أمامنا، ونفتقر للأنظمة الطاغية حمامات الدم في الجزائر، وفيتنام، وفلسطين، ونتألم ونتوجع، ثم نطوي الصفحة لنراقب فظاعات أخرى، قد تكون أكثر هولاً، ولكننا نتحصن دوماً بالجبن، والبلادة، ونكتفي بإشهار ما شاهدناه دون أن يرف لنا جفن...«. المحال هي الهوة القائمة بين الإنسان والعالم الذي يحيط به، بين طموحات العقل الإنساني والعجز عن تنفيذها، ومن هذا المنطلق، فإن العبثية ليست متجذرة داخل الإنسان، ولا داخل العالم الذي يحيط به، وإنما في استحالة إقامة علاقة إيجابية بينهما. ‏

ـ 6 ـ ‏

على أن أهم ما يدعو إليه (كامو) للرد على القراصنة الذين يدعون إلى صيانة الأمة الغربية الموحدة من أخطار الهجانة الحضارية إبرازه للتناقضات التالية: ‏

أولاً، ضرورة الربط بين الممارسة السياسية والأخلاقية، بعد أن تمادى أباطرة السياسة في تطرفهم، وغطرستهم، وتخلوا عن أولويات النزاهة الأخلاقية. (فكامو) لا يريد لدعاة الدفاع عن الحضارة أن يرتكبوا الحماقات باسم الدفاع عن الحضارة. وقد برهنت الأحداث المتلاحقة أن منطق التبرير الحضاري كان سبباً رئيسياً من أسباب فشل الكثير من الأنظمة، على امتداد الكرة الأرضية. ‏

ثانياً، ضرورة الربط بين الممارسة الحضارية والطهارة المسلكية، بعد أن أظهرت التحقيقات أن وصول الحضاريين إلى الحكم قد يغريهم بترسيخ الامتيازات والتجاوزات، وقد يفتح أمامهم فردوس الفساد المالي. ‏

ثالثاً، لا يجوز أن تتعارض الأيديولوجيا الحضارية، مهما كانت واثقة من منطلقاتها، مع الديمقراطية، ومع الاعتراف بالرأي الآخر. ليس المطلوب المهادنة ولا التسامح مع المتواطئين، وإنما الالتزام باحترام حرية الآخرين وحقوقهم. ‏

ـ 7 ـ ‏

تبدأ قصيدة للشاعر الأسود (ايميه سيزار) بهذا المقطع: »إنني أسكن صمتاً طويلاً، وأسكن جرحاً عميقاً!« ولعل هذا الصمت قد انتهى، وهذا الجرح قد اندمل. إن شعوب العالم تطالب اليوم بحقوقها، وتلح على ضرورة الاعتذار منها. إن ذكريات شعوب أميركا اللاتينية وإفريقيا السوداء وآسيا والبلدان العربية هي ذكريات جارحة، في حين تبقى ذكريات الغرب الأبيض ذكريات غطرسة وانتصار. لنستمع إلى (جان بول سارتر) وهو يقول: »لكي نحب الناس ينبغي أن نكره بقسوة من يضطهدهم ويحتقرهم!». ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...