سعاد جروس تكتب عن التدبير والتعتير و التجار

28-10-2006

سعاد جروس تكتب عن التدبير والتعتير و التجار

الجمل-سعاد جروس:  سأل ملك وزراءه, أي الرجال خَيرٌ؟ قال بعضهم, الشجاع. فقال الملك: الشجاع يموت فيذهب ذكره. قال آخر: السخي, فرد الملك, السخي ينفد ما عنده. تلاه آخر: التقي, فقال الملك: التقي تقواه لنفسه. قالوا, فمن؟ قال الملك: الذي يموت ويبقى تدبيره.
قياساً على هذا المعيار في أخيَر الرجال, كم لدينا من هؤلاء, ونحن كيفما التفتنا حاصرنا سوء التدبير, بدءاً من أرصفة تقتلع مع كل محافظ جديد أو رئيس بلدية, وكأن التبليط بداية التطوير ونهاية التحديث, فلا يكاد يسخن الكرسي تحت محافظ أو رئيس بلدية حتى يقوم بهدم ما بناه سلفه بحجة تصحيح الأخطاء!! وهكذا نمكث نراوح على الأرصفة ومن حولنا ركام البلاط المكسر, نمني النفس برصيف واحد خال من الحفر والأتربة والانخفاسات.
قصة تبديل الأرصفة والساحات صالحة للتعميم على الكثير من المسائل الأخرى, كونها أسلوب عمل ناجعاً ونهج إدارة طموحاً, تكاد تطاول مختلف شؤون المواطن, وهكذا نادراً ما صدر قانون لم يتبين لاحقاً أنه كان ناقصاً وبحاجة الى تعديل ­غالباً لا يتم ­ لأن مجلس «التعبير والإنشاء» الموقر حين يوافق على نص قانون بالإجماع, يكون نصفه نائماً والنصف الآخر يحرس أضغاث أحلام النائمين تحت القبة وخارجها يطرد شر الكوابيس ويلعن إبليس. وليس الأمر بأفضل حالاً مع القرارات الصادرة تباعاً عن وزاراتنا ذات الرأي السديد, وكل يوم هناك قرار يحتاج إلى الفلكي الألوسي لقراءة أهدافه وغاياته, فوحدها كرته الزجاجية العجيبة قادرة على رصد ما يدور في أذهان المسؤولين ساعة اتخاذهم للقرار, ونسأل على سبيل المثال ­ والمثال فقط ­ من يستطيع فهم الحكمة من قرار وقف المصرف الصناعي منح قروض للصناعيين, واستثناء المستثمرين الكبار في المدن الصناعية كمدينة حسياء؟ علماً أن الصناعيين الصغار يطلبون قروضاً صغيرة لتجليس أحوال صناعتهم المائلة, ولو كانت لديهم القدرة على الاستثمار في المدن الصناعية, فلن يكونوا بحاجة الى القروض الصغيرة. ولا نستبعد حسب بلورة الألوسي أن يكون هدف العملية تمويت المنشآت الصغيرة!! وهي مشاريع تتغنى بها صفحاتنا الاقتصادية المتكاثرة, وتطالب بدعمها من أجل توفير فرص عمل في المناطق الفقيرة, كرديف أساسي للاقتصاد الوطني. كما أن هناك العديد من المشاريع الوطنية التي تستجر المعونات والدعم الخارجي لدعم وتشجيع المشاريع الفردية الصغيرة, ولا يمكن حل هذا اللغز إلا من خلال وضع نظارة الحكومة على عيوننا لنرى أن المشاريع الفردية تعني المشاريع التي تجوز عليها حسنة الاتحاد الأوروبي. وبما أن المنشآت الصغيرة لا تجوز عليها هذه الحسنة وإنما اللعنة, يجري خنقها لمصلحة تسمين القطط السمان, وتغذية حيتان الصناعيين والتجار بالقروض الكبيرة؛ هؤلاء فقط ونظراً لمكانتهم المرموقة محلياً ودولياً يستحقون أن يفتح لهم باب بيت مال الشعب لحسن إدارتهم وتدبيرهم, فهم من صنف الأخيار لا الأشرار بدليل تجاراتهم الرابحة.
تكمن أهمية هؤلاء ليس في نجاحهم الصاروخي, وإنما في امتلاكهم مستقبلنا ومستقبل أولادنا, فلا شك أبداً في أن المستقبل لهم, لأننا في طريق الانتقال الى اقتصاد السوق «الاجتماعي», وإذا كنا قد وضعنا الاجتماعي بين قوسين, فلأنه مصطلح مبتكر لتسكيت المواطن, إذا شكى من التفاوت الطبقي, أو بكى على أيام الشح الاشتراكي؛ والآتي أعظم على أيدي التجار الأخيار, الذين كرمى لعيونهم ما يجري في حمص أعانها الله على ما ابتليت به من قرارات وتعميمات وتوجيهات شفهية من تلك التي يشتهر بها مسؤولونا, كالسماح لكبار رجال المال بالتبرع لبناء الدوارات والساحات العامة لتحسين مظهر المدينة, وأن توكل إلى أهوائهم وأمزجتهم ما يستحسنونه من فنون التصميم والعمارة. ولن نذكر هنا ما استنسخه بعضهم لتصاميم غريبة عجيبة, بل نشير الى إجازة وضع اسم المتبرع على ما تبرع به, وكأنه جزء من ممتلكاته الشخصية أو من سلالته, فتصبح ساحة الشهيد فلان, ساحة رجل الأعمال فلان €ترى هل هذا ما يجري على ألسنة العامة فقط, أم€؟!... ولا نعرف ما إذا كانت أفضالهم الجمة ستخولهم وضع تماثيل تخلد إحسانهم, ثمناً لكرمهم, وليس لنا على هذا اعتراض, لكن لنتصور حال تلك الروائع والبدائع, لو قدر الله €والله بالأسرار كان عليماً€ وفتحت ملفات مسكوت عنها, وظهر فيها ما لا تحمد عقباه, هل تهدم تلك البدائع المعمارية لمحو آثار المغضوب عليه, أم تبقى عبرة لنا على سوء تدبيرنا؟!
لا ننكر أنه في الدول المتقدمة يتبرع كبار المستثمرين ورجال المال ببناء المعالم والأمكنة الحضـــارية والثقافية, لكنهم يقدمون المال والمال فــقط, دون التدخل في شكل البناء ولا إطلاق أسمائهم عليه, وإن كان يشار إليهم بكل تقدير, دون أن يأتي في إطار «البرستيج» الفاقع الظهور أو تبييض الوجوه و... وإنما ضمن سياسة تقلل أعباء الضرائب وتلزم أرباب المال أداء واجبهم تجاه المجتمع, في منظومة قوانين متكاملة ومنسجمة تضمن للمواطن العيش الكريم, في آلية حيوية دائمة التطور مازال أمامنا شوط كبير لإدراكها. فما لدينا من سوء تدبير يجعلنا نلهث وراء الرغيف, ونسهو عن انتهاكات أصحاب المال لاقتصادنا وتجارتنا وصناعتنا الكبيرة والصغيرة ناهيك عن ثقافتنا وإعلامنا المستقل ودرامانا الناهضة وحتى ملامح مدننا... إنهم يتسللون الى كل مناحي الحياة ويتملكونها ليس شرعاً ولا عن مقدرة, وإنما بالشطارة والحيلة ووضع اليد المشفوع بقوانين وقرارات وتوجيهات واستثناءات تمنحهم حقوقاً باطلة على حساب الفقراء, ونحن إذ نتذمر أو نخشى من مدهم الكاسح, ليس لأنه لا تدبير لديهم, أو إن ذهبوا لن يبقى من أعمالهم شيئاً, وإنما لأننا قد نذهب معهم.

بالاتفاق مع الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...