حنا مينه: اللاذقية مدينتي وبحرها شراييني!..

09-10-2008

حنا مينه: اللاذقية مدينتي وبحرها شراييني!..

ها أنا، من جديد، في المدينة التي أحببتها ولما أزل!

ها أنا، في المدينة، التي أخذت منها أصابعي وحروفي! ‏

ها أنا، في المدينة، التي طوّفت فيها جبلاً وسهلاً، وتعمدت في اللجة الزرقاء من بحرها! ‏

ها أنا، في المدينة، التي علمتني أن ابارك القلق، الذي يحرض على الحب والابداع، وألعن الطمأنينة، قاتلة الحب والابداع! ‏

ها أنا، في المدينة التي مشيت في موكب تشييع زعيمها الكبير الراحل، عبد الواحد هارون، وسمعت من شاعرنا الكبير، صائغ الذهب أبياتاً، يؤبن الفقيد في جامع العجان قائلاً: «إذا مات منا سيد قام سيد، تؤول لما فعل الكرام فعول» فسألت، أنا الغريب القادم من لواء الاسكندرونة، من هذا الشاعر؟، فأجاب من حولي، بغير قليل من الدهشة والعتب: ألا تعرفه؟ إنه بدوي الجبل! ‏

ها أنا، في المدينة، التي كتبت إلي فيها سيدة تقول: سأحبك فأصنع لك فضيحة، فأشفقت عليها وقلت في سري: «أنا لم أعرف الحب على مدى عمري، ولم أخش الفضائح على مدى عمري أيضاً»! ‏

ها أنا، في المدينة التي ألقيت فيها حديدة في نار، فلم تترمد، بل تفولذت! ‏

ها أنا، في المدينة التي قال شاعرها: «ويل الشعوب التي لم تسق من دمها، ثاراتها الحمر أحقاداً وأضغانا» ثم أضاف، صاحب النعميات هذا: «تغضي على الذل غفراناً لظالمها، تأنق الذل حتى صار غفرانا» فبكيت من ألم على استحياء، قبل ان اعرف ان اسلافنا الأمجاد بكوا واستبكوا!. ‏

ها أنا، في المدينة التي فيها زملاء مبدعون، لا أتذكر، نسياناً، حتى اسماءهم، وهم الرجوة في كتابة رواية تخترق جدار الصوت، بعد أن عجزت أنا، وعجز جيلي، وعجزت أجيال لاحقة، عن كتابة مثل هذه الرواية، فتحية من الحشاشة لهم، وانحناءة احترام أمامهم، لأنهم في الشباب، والمستقبل معقود في أمنيامة على الشباب دائما! ‏

ها أنا، في المدينة التي في أعالي جبالها، وفي فندق عجيب يشمخ على ذروتها، فريداً، منفرداً، ناعماً بالخضرة طوق نضارة، هانئاً بحمام من قراحلتة، رأيت كيف يكون الابداع في البناء، والذوق الرفيع في الهندسة، وفوجئت بتحية معطرة بالغالية، من استاذة في الموسيقا، فارع القامة، صبوح الوجه، عذبة الحديث، بارعة في العزف، وفي الغناء، وفي الجمال لحناً وتلحيناً، وفي الغناء فاربية النسب، اسمها مدينا حبيب، أطلت، أنشدت، غابت، ذكرتني، لا أدري لماذا، برواية اسمها «الشمس في يوم غائم» غامت، أشرقت، ارتفعت، وبين رقاق السحب البيض تماهت، مرة والى الابد، دون أن تفسح المجال، لتحية ولو في هنيهة.. من قلم الى وتر! ‏

ها أنا، في المدينة، قلت عنها: «اللاذقية مدينتي، وبحرها شراييني»، ثم ذهبت الى دكان الحلاقة في حي القلعة، لأقف خاشعاً أمام خشبات بابها، التي لا تحجب ضوءاً، ولا تصد ريحاً، فألثم هذا الباب، خشبة منخورة بعد خشبة، ثم أبكي فيها شبابي الذي ضاع، وأصلي كي تبقى كما هي، فلا يلحقها الهدم، ولا يتهددها التحديث! ‏

ها أنا، في اللاذقية، آتيها فصحاً وافطاراً، هانئاً ناعماً في الحالين، ذاكراً بالخير والاكبار، رئيسنا الدكتور بشار الأسد، الذي أفاء علي بالتكريم، وزاد، لأنه من نبت هذه الأرض المعطاء، كما أنا من نبتها، ومن الأوفياء من أبنائها. ‏

ها أنا، في المدينة التي أبحث فيها عن وجهي الذي ضاع، وشبابي الذي غرب، وذاكرتي التي شاخت، وأحبابي الذين آثروا النزهة في عربة الموت، بعد أن ملوا الانتظار قعّداً على أرصفة شوارع عروس الساحل، التي كلما قالوا لها: «متى؟» أجابتهم «بعد غد!» وهذا الغد هو «غودو بلدياتنا» الذي يأتي ولا يأتي! ‏

ها أنا، في اللاذقية، وفي فندق الكازينو، انتقاماً من فندق الكازينو الذي كان مرتع الاسياد، من فرنسيين ومن والاهم، وكان، بالنسبة الينا، نحن الدراويش، حلماً في مطاوي الغيب، وعراراً من شميم نجد، وأملاً في قمقم عفريت من حكايات ألف ليلة وليلة! ‏

ها أنا، في المدينة التي استعبدتني غواية، قادماً من دمشق، عاصمة ثقافتنا التي بها نفخر ونعتز، مادامت الثقافة خط دفاعنا الأّهم، راهناً ومستقبلاً، وقد عشت، حتى الآن، خمسين عاماً في دمشق، ولم أكتب عنها خمسين كلمة، ولا أدري لماذا، لأنني كما تعلمون نصف عاقل، نصف مجنون، وأفضل نصفي المجنون على نصفي العاقل، نكاية بالعقل والعقلاء، وما طرحوا من آمالنا وأحلامنا وجثثنا في وادي جهنم! ‏

ها أنا، في المدينة التي غيّب الموت ملامحها الأثرية، حين غيب جبرائيل سعادة، ابنها وحارس من آثارها، وفي اوغاريت الخبر اليقين، وفي جامعتها مكرمة المكتبة التي أهداها، ثم أغمض عينية ورحل قبل أوان الرحيل، تاركاً لنا العزاء الباقي في الموت، قولة زعيم الفوضويين الروس، هذا الذي كان فيلسوفاً على طريقته، فمات غرقاًَ في قاع هذه الفلسفة، دون ان يبكيه أحد، أو يضع على قبره زهرة أحد، مع أن تعاليمه في الفوضوية حية بيننا، شائعة في سلوكياتنا والله أعلم! ‏

ها أنا، في المدينة التي فيها قبر أختي وبنتي وأمي وأبي، وفيها قبور أحبابي الذين سبقوني على أمل اللحاق بهم قريباً، فشاء القدر خيانة هذا الأمل، لأنه «لكل أجل كتاب». ‏

أخيراً ها أنا، في المدينة التي فيها بيتي المهجور، منذ سنوات طويلة، خشية ايقاظ اشباهه من «رقدة العدم» التي فيها ينعمون، بينما أشقى أنا، من قبل الذين رأوا النور، ومن قبل الذين ينتظرون رؤية النور، من أبطال رواياتي الذي يصدعون دماغي، ليل نهار، بمطارق من رصاص، يفر من هول وقعها النوم من عيني، حتى أصبحت صاحب النهارين وا أسفاه. ‏

حنا مينة


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...