حنا مينه: البيئية والمحلية في الرواية

13-11-2010

حنا مينه: البيئية والمحلية في الرواية

أتابع الكتابة عن التجربة الروائية، كما تابعت الكتابة سابقاً عن التجربة القصصية، التي وصلتني حلقاتها مجموعة بين دفتي كتاب (الرياض)، في اخراج أنيق، آمل أن يتلاءم فيه المضمون مع الشكل، حتى يرضى القارئ العزيز عن جهدي المكرس، خالصاً مخلصاً، لإرضائه من خلال اقنومي المتعة والمعرفة.

لقد قلت، وأكرر أنني لست بالمنظّر للرواية أو القصة، أو أي من الأجناس الأدبية الأخرى، فالتنظير، كيلا يكون مطرقة على الرأس، يحتاج إلى التخصص، ولعل التجربة في ممارسة الكتابة، توفر للكاتب ما يقوله للناشئة من الكتاب، وأحسب أن سنوات عمري الطويلة، التي تقضّت في كفاح مع الحرف، لجعله مطاوعاً لإنشاء القصة أو الرواية، قد أمدتني بالتجارب غير المسموح باحتكارها، أو في التقاعس في بسطها، عبر حلقات متتابعة، تجلو إلى حد ما، نوعية هذه التجارب وامكانية إفادة الآخرين منها. ‏

ليس معنى هذا أنني أعتزم انشاء كتاب حول تجربتي الروائية، فهذا المطمح يحتاج إلى الوقت، وكفاء الجهد، وجمع المصادر والمراجع، وهذا متعذر دون التفرغ الكامل ولأنه حتى الآن غير متوفر فإنني أكتب إضافة إلى ما كتبت سابقاً بعض الفصول حول تجربتي الروائية، أنشرها في هذه الصحيفة التي أعتز بالانتساب إلى تحريرها منذ سنوات غير قليلة. ‏

إن جدلاً كثيراً، دار حول البطل الإيجابي، وورقاً غزيراً استهلك في تحديد سماته، وسفح حبر أغزر في تقويم صفاته، دون الوصول إلى نتيجة هي النقطة في آخر السطر.. ذلك أنه ليس من بطل إيجابي، في القصة أو الرواية، خالص الإيجابية، أو بطل سلبي، خالص السلبية، أو ايديولوجية صافية تمام الصفاء، وإلا أنكرنا امتداد الماضي في الحاضر، وأنكرنا أيضاً تطاول الحاضر إلى المستقبل وأوقفنا دورة الزمن في محاولة عبثية، لا طائل من ورائها، ففي كل كائن حي، (والبطل القصصي أو الروائي يكون حياً أو لا يكون) تنوجد التناقضات، وأخذ التناقض في المعيار يفرض علينا أن نحسب حساب الإيجاب والسلب في هذا البطل، وبهذا وحده يكون بطلاً من لحم ودم، وفق تعريف الأديب اللبناني الكبير المرحوم عمر فاخوري. ‏

أخلص من هذا إلى أن أبطالي، في كل الروايات والقصص التي نشرتها حتى الآن، ليسوا ايجابيين بالمطلق كما يزعم هذا أو ذاك من النقاد، وليسوا سلبيين بالمطلق أيضاً، كما يردد آخرون، إنهم باختصار، أبطال شعبيون، مهاد وجودهم هو المأثور الشعبي الذي يتجلى في أكثر ما كتبت، ومنه، من هذا المأثور الشعبي الشائع، تناولت غالباً أحداث رواياتي بحراً وبراً ومن هذه الروايات التي تجاوزت الثلاثين عداً، استقام لي، كما يعترف معظم النقاد ما أسميه عالمي الروائي وهذا العالم لا يستقيم إلا بالتراكم، فالرواية أو الروايتان أو الثلاث، لا تشكل عالماً روائياً قريباً من التكامل، إلا أن قلتها لا تنتقص من قيمة الروائي أو مكانته، فالطيب الصالح عرف بروايته (موسم الهجرة إلى الشمال) وقديماً، في القرن التاسع عشر، اشتهر فلوبير، الكاتب الفرنسي الفذ بروايته (مدام بوفاري) كما اشتهر مجايله الكاتب الفرنسي الآخر ستاندال، بروايته (الأحمر والأسود) وتشتهر في أيامنا هذه الكاتبة الجزائرية المتفوقة أحلام مستغانمي بروايتها الأولى (ذاكرة الجسد) ويحدث أن يتوقف الكاتب بعد الرواية الأولى، أو الثانية وكل منهما مستمد من الخصوصيات، أي من التجارب الشخصية الخاصة، وبعدها ينقطع هذا الكاتب عن العطاء، إما لأنه ضحل التجارب، أو لانصرافه إلى جنس أدبي أو فني آخر. ‏

ويحدث، وهذا نادر، عند كاتب نادر، صاحب عبقرية، مثل أستاذنا نجيب محفوظ أن يستطيع الروائي وبتكثيف شديد، أن تحيط بعض رواياته، كالثلاثية المشهورة مثلاً – قصر الشوق، السكرية، بين القصرين بكل ما في مجتمع ما، عبر مدينة أو قرية، على نحو ما فعل محفوظ في ثلاثيته، التي تناولت مدينة القاهرة، المدينة التي استقطبت واستغرقت معظم رواياته، لكنها تمحورت في الثلاثية بشكل شامل ورائع. ‏

أما أنا فقد حرصت، في معظم رواياتي، أن ألتقط أحداثها من المناطق المجهولة في أدبنا العربي، قديمه وحديثه، كالبحر، الغابة، المعركة الحربية، الانسان والموت، الجبل، الثلج، وغير ذلك.. وما التقطته كحدث كان نطفة تخصبت ونمت وكبرت وأوفت من خلال السياق وبتعبير آخر إن هذه النطفة هي عالم فككته وأعدت تركيبه، ولم أتناول هذا العالم جاهزاً، كما لم أتناول أية شخصية جاهزة في أعمالي، ففي هذه الحال ينتفي الابتكار، الاختراع، ينتفي الخيال والتخييل وتصبح الشخصية الروائية أو القصصية، في هذه الحال شخصية فوتوغرافية صورة جامدة باهتة لا خلق فيها أو حياة أو فرادة، وتظل بيئية، لا تخرج عن حاضنة البيئة، لا تبلغ أن يكون لها بعد انساني، خارج إطار بيئتها المحددة تحديداً قسرياً، فلا يوجد عندئذ، القارئ المتفهم لها خارج هذه البيئة، أو المتناغم معها، أو المنجذب إليها بقوة كما هو متوقع، ونادراً ما يقول قارئ رواية كهذه: إنني أعرف هذه الشخصية أو أنها ليست غريبة علي أو عني. ‏

المهم، في موضوع البيئة، ألا نغفل الفارق بين ما هو بيئي ومحلي، فالمحلي، أو ما هو حدث محلي، أغنى، أندى، أرحب مما هو بيئي لأن البيئة تنطوي في المحلية وليس العكس، ونحن نجد في البيئة شخصية نمطية، فردية، لا تعدد لها، ولا تشكل مماثلاً لقوامها، بينما نجد في المحلية شخصية غير نمطية، غير مفردة أو افرادية، تتعدد صفاتها، وتتقاطع شمائلها، ونستطيع بكل سهولة أن نقول إن هذه الشخصية معروفة ولنفرض أنها شخصية حلاق ما، ففي البيئة تمثل شخصية الحلاق حلاقاً واحداً، وفي المحلية تمثل شخصية الحلاق أربعين أو خمسين حلاقاً ومن هنا تعددها، قوامها الانساني العام، شموليتها في تمثيل الحلاق، كما تمثيل البخيل في مسرحية موليير، التي تقدم نموذجاً تنطوي فيه دنيا من البخلاء، أو في شخصيات البخلاء لدى الجاحظ التي تمثل كل شخصية بخيلة عالماً من البخلاء. ‏

أتذكر، في هذا المقام، قصص (المتشردون) لمكسيم غوركي، فشخصية تشالكاش، لص المرافئ، ليست نمطية، أو أحادية، ويمكن بكل بساطة أن نجد هذه الشخصية في كل لصوص المرافئ، من روسيا إلى فرنسا، ومن اليابان إلى بريطانيا، أي أنها بكلمة واحدة شخصية عالمية، لها بيئتها، ولكن لها محليتها أيضاً، المحلية التي جعلت منها شخصية عالمية. ‏

وما يقال عن تشالكاش غوركي، ينطبق بصحة وصفية على أحدب نوتردام، أو جان فالجان في البؤساء لفيكتور هوغو، شاعر فرنسا الكبير، وعلى شخصيات كثيرة تزخر بها الرواية العربية والرواية العالمية من أوروبا إلى إفريقيا، ومن آسيا إلى أميركا. ‏

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...