حنا مينه: آه يادمشق.. ماأحوجنا إلى الجنون!

22-01-2011

حنا مينه: آه يادمشق.. ماأحوجنا إلى الجنون!

هل صحيح أنني لاأدري، لماذا لم أكتب عن دمشق رواية؟ الجواب بين نعم ولا، ففي ذاتي تبرير، ولكن إلام يرتكز؟ وفي مزاجي تعليل، لكنه غير مقنع، أغلب الظن،.

والسؤال تكرر، وقد حرت في الإجابة عنه، وبحثت عن الأسباب ولم أركن إلى واحد منها، فهل كانت زيارتي لحي القيمرية القديم مفتاحاً لقفل على شفتي؟ ‏

كرة أخرى أحاول مقاربة الحقيقة، ومرة أخرى أقول: أنا لا أعرف دمشق بما يكفي، فهل تعرفها أنت أيها السائل الملحاح؟ ثمة شك ويقين، وهذا يحدث مع الروائي الذي ينزع، في معالجة الحدث، إلى الأمانة فيه، فأنا منذ ثلاثة وخمسين عاماً في دمشق، أنا من سكانها، ثم لا أعرفها، لأنني أعيش على هامشها، وقلبي لايدق مع قلبها، في الوجيب المتصاعد، هناك، في الأعماق.. إنني سائح، زائر، مستأجر، وبيت أبي لم يكن فيها، ولم يكن لي في قاعها بيت كذلك.. مخلوعاً من تربتي صرت، وزهرة فيء على حافة نافذة في الطابق الثالث، تتكرم علي سيدة المنزل ببعض الماء، وبعض السماد والهواء، وفي الشتاء تنقلني إلى الداخل، تضعني على قاعدة للزينة، تعرضني على ضيوفها للفرجة، تظهر أمامي بثياب نومها، اسمع من مكاني تنهداتها، اسمع اهتزاز نوابض سريرها، أعرف التفاصيل الدقيقة لحياتها، وهذا كل شيء، هذا هو عالمي، أنا زهرة الفيء المدللة، في الطابق الثالث بشارع المالكي، أو شارع «أبو رمانة»، أو حي القصور، أو حي التجارة، أو الأحياء التي يسكنها السادة، بينما نشأتي، وفقري، وعالمي الذي أعرفه جيداً، هو أكواخ المساكين، البيوت الطينية للعبيد، وعن هؤلاء، الذين يستحقون الطوبى، كتبت، ورسمت بالقلم لوحاتهم التي لا حد لبؤسها، ولا حد لشهامتها. ‏

في اللاذقية، بجوار البحر، كنت شيئاً آخر، زهرة أخرى هناك، في قاع المدينة كنت، وهنا، على السطح صرت، هناك كنت زهرة متوحشة، غجرية، في حديقة غير مسيجة، تلفحها الشمس، تعصف بها الريح، يهطل عليها المطر، وهناك، في اللاذقية، عاملاً كنت مع عمال المرفأ، صياداً مع الصائدين في البحر، ناطوراً لكروم الزيتون، جامعاً لحباتها، حاصداً للسنابل، معفراً للحبات الضائعات بين القصيل منها، مواطناً عرف كل الأحياء، عاش فيها، خبر ناسها، سبر أغوار حياتهم وتعاساتهم وآمالهم، وحمل همومهم التي هي همومه، وكتب حولها، عن معرفة، وخبرة، ومعايشة، ونزول إلى عالمهم السفلي، حيث جهنم التي ينبت فيها الشوك والعوسج، وتشتعل النار المطهرة من الخطايا والآثام، لافحة جلودهم السمراء، حارقة وجوههم الصفراء من تعب وشقاء وجوع، غارسة في نظراتهم، المتوثبة في حدقاتهم، كل حقد الدنيا اللاهية عما يكابدون، وكل كره الكون للأرض، ابنة الكلب، التي لاتريد أن تستيقظ، مع أنهم يدقون عليها بخبطات أقدامهم، ذات الكعوب الحديدية! ‏

نعم! هناك على الساحل، كنت حوتاً في بحر، أما هنا، في المدينة الكبرى، فقد صرت سمكة صغيرة في بركة ماء للزينة، والفارق الكبير هذا، قطع أصابعي، أحالني إلى كاتب يمسك القلم في راحته المستوية، بينما النار تحرق حنجرتي التي بحّ صراخها، من ألم ينهش مابين الضلوع وشغاف القلب، وفي كرنفال المحرومين استشعر الغصة في حلقي، مقاوماً أشباح الأقزام الساخرة، معانداً، وبقسوة، كل محاولات الناظرين إليّ من شرفاتهم العالية، الراغبين في تحويلي إلى مهرج في هذا الكرنفال. ‏

من ولد في البحر، في البحر يموت، ومن ألوى شكيمة الريح العاصفة، يطارد العاصفة غير هياب، ومن ألقت به عذابات أيام التشرد، حديدة في نار، بهذه النار يتفولذ، ومن بترت يمينه النيازك وهو يتصيدها، قادر أن يتصيد النيازك باليسرى، ومن عاش في الغابات، ذئباً بين الذئاب، لن يتحول إلى حمل تجعله الذئاب وليمة في رقصة انتصارها، والنشوة في الموت على اسم الحق، لاتزال نشوته الكبرى. ‏

تسألونني لماذا لاأكتب عن دمشق؟ أنا لاأعرف دمشق بعد ياسادتي، فهل تعرفونها أنتم؟ إليكم، يامن ولدتم في قاع المدينة، وهجرتموها إلى بلكوناتها المتسامقة، أوجه كلماتي، لالتعودوا إلى هذا القاع، ولكن لتتذكروه من حين إلى حين، فتنبض قلوبكم مع قلوب المفرزين في أوحاله، وتتقاطع أحاسيسكم مع آهات المعذبين فيه، وبذلك تتخلصون من غربتكم البائسة، الزائفة، نتيجة العطالة والبلادة والاسترخاء في أسرتكم الوثيرة، التي سئمت استلقاءكم عليها، وأنتم توهمون أنفسكم، في أنكم، على هذه الحال، ستتسقطون مطارف الإبداع، من فضاءات الغمام الشارد. ‏

أنا في حي القيمرية وأزقتها أدور، وهذه الأزقة ليست للسيارات بل للأقدام، وفي غابة البيوت العتيقة، المتشابكة، نداء المجهول، وعلى ظهري تتبقع النظرات المتساقطة من «شناشيل ابنة الشلبي» السيابية، وها أنا أعرفها، أنا زائر في أحيائها، مسافر في أزقتها، أنا طفل يمشي، يتعلم أن يمشي، ويكتشف، ويدق الأبواب، لاطلباً للصدقة، بل هو أذن للدخول، لرؤية ماوراء الموصدات من الجدران، للجلوس على المصاطب، وامتاع النظر بالنوافير، وقطف النارنج والليمون حبات من كريات صفر وزرق، والتعطر بشميم الياسمين. ‏

دمشق «يامدينتي العجوز، يامدينتي الطفلة، ماأروعك عجوزاً وطفلة.. لست سائحاً، ولاكميرات تصوير مدلات من كتفي، أنا مواطن، ساكن في الجهة الأخرى، جاء اليوم إلى أحيائك العُتّق، مستذكراً «طيب ماكان بين الدور والطرق» مستدرجاً نداوة الظل بعد لفح الهاجرة.. وأعود، تقولين؟ وعد؟ ومن بات يصدق الوعود؟! قولي: من بات يصدق الوعود؟! قليلون جداً، أولئك الذين يعدون، ويفون بوعودهم، فالطيبون لايزالون شقائق نعمان، أرجوانية اللون، يزهرون مع الربيع، والربيع يعود دائماً، أجل! الربيع يعود دائماً، فلا قنوط «من رحمة المطر»! ‏

لو كان لي حبيبة لجئت معها، لعدت إليك ويدي بيدها، ولو كان لدي مزمار، لأنشدتك المزامير، وأسمعتك حلاوات نشيد الأناشيد، وقرأت قصيدة «الشناشيل»، ورويت للتي معي حكايا القوافل والخانات، وأحاديث السمر والسمار، حتى بعد أن مر الزمان بالسامر الحلو «ففرق الشمل سماراً وندمانا» وأغضينا على الذل، في بلد المسجد الأقصى، «فتأنق الذل حتى صار غفرانا» وما برح، في الساح، ميامين، لايغضون على الذل، وهيهات أن يغضوا، أو ينتصر الذي من أجله يفادون، وسينتصر ولو بعد مئة عام، وماهي المئة عام في عمر الزمن؟ وماهو الزمن إن لم يكن حكاية تاريخ طويل؟ ‏

إننا على وثوق، وبهذا الوثوق سأعود، إلا أن حبيبتي قد لاتأتي، ولماذا تأتي؟ ستقول: إنه جنون! آه يامدينتي، آه يامدننا، ماأحوجنا إلى الجنون، قليلاً من الجنون، قليلاً من الجنون! ‏

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...