جاهز أم تفصيل: حول وصفة الديموقراطية في الديار السورية

29-09-2013

جاهز أم تفصيل: حول وصفة الديموقراطية في الديار السورية

 الجمل ـ بشار بشير: ستنتهي هذه الحرب وبعدها سيكون هناك الكثير من الأسئلة والكثير من النقاشات , أحد أهم النقاشات سيكون : ما شكل الدولة السورية التي نريد أن نعيش فيها ؟ هل يجب أن نتمثل الشكل الديموقراطي الأوروبي  وخاصة أن ضغوطاً كبيرة تمارس علينا لنأخذ بهذا الشكل على إعتبار أنه الشكل الأمثل للدولة سواء كانت أوروبية أو غير أوروبية .

لأول وهلة يبدوا الشكل الديموقراطي للدولة جذاباً وعملياً فهو الشكل الذي أتاح لدول أوروبا أن تكون دولا مزدهرة وغنية و"حرة " . هل يأتى الأمر بهذا التسلسل أم بالعكس أي أن إزدهار وغنى وحرية أوروبا قد أوصلوها إلى الديموقراطية .  هذا يقودنا لسؤال: هل الديموقراطية نظام أم شكل مجتمعي ؟ إن كانت نظاما فهي ككل نظام أو قانون يضعها النخبة وتفرض على المجموع، وإن كانت شكلا مجتمعيا فهي نتاج من داخل المجتمع وليست مفروضة عليه . .

في أكثر دول أوروبا الديموقراطية مثل إنكلترة وفرنسا و الدول الأسكندنافية , كانت الديموقراطية نتيجة للتطورات الإجتماعية والإقتصادية التي واكبتها التطورات السياسية بالتحول إلى الديموقراطية وهو تحول سهَّلهُ انصهار القبائل والعشائر الأوروبية في شعوب وتلاشي مفهوم القبيلة والإثنية إلى حد كبير, وسهَّلهُ نشوء دُول قومية محددة الحدود والملامح , وسهَّله ما يمكن أن نطلق عليه تجانس ديني أو إختفاء التعصب الديني والطائفي..  الشروط السابقة بالإضافة لشروط إقتصادية أمنتها الثروات المجانية التي جلبها الأستعمار، كانت شروطاً ضرورية لنشوء الديموقراطية، ورغم ذلك لم تستطع الديموقراطية أن تحرز نصراً نهائياً وتاماً في أوروبا , فالديموقراطية لم تنجح في إنهاء المشاكل القومية العالقة في دول أوروبا مثل مشكلة اللورين و مشكلة الباسك،  كذلك هي لم تنجح في حل وإنهاء الخلافات الطائفية مثل مشكلة إيرلندة الكاثوليكية وإنكلترة البروتستانتية , ولم تستطع الديموقراطية الأوروبية حل مشكلة الإثنيات المتعددة التي دخلت بالهجرة على المجتمع الأوروبي والتي تهدد بتفجير هذا المجتمع , وأخيراً بدأت الديموقراطية الأوروبية تكشف وجهها البشع عندما اضمحلت الثروات الإقتصادية ( المتأتية من الإستعمار ) التي كانت تغذيها . بالنسبة لي يبدوا واضحاً أن الديموقراطية كانت نتيجة لأسباب إجتماعية وإقتصادية عميقة , اهتزاز أو زوال هذه االأسباب أدى لإهتزاز الديموقراطية و يمكن أن يؤدي لزوالها . أي أن الديموقراطية ليست خياراً وليست نظاما جاهزا يمكن الأخذ به بقرار سياسي، وهي بالتأكيد ليست وصفة جاهزة يمكمن تطبيقها أو فرضها مثلما تحاول دول الغرب ( كاذبة ) أن تفعل الآن .
لننتقل إلى سورية ولنقارنها بدولة ديموقراطية أوروبية ما ولتكن بريطانيا , المجتمع السوري لا زال قسم كبير منه مكون من قبائل وعشائر بينما لن تجد في بريطانيا من يعرف أو يذكر أو يريد أن يبحث عن أصولة القبيلة هل هي من الساكسون أم من النورماند , في سورية وُثِّق وجود أكثر من 40 إثنية لا زالت متمايزة حتى الآن وأصحاب هذه الإثنيات كلهم يُعتَبرون من السكان الأصليين لسورية ,في بريطانيا يميلون للقول أنهم شعب واحد وأن الإثنيات الموجودة هي المهاجرون الجدد الذين لا يُعتبرون من السكان الأصليين , لكن في العمق بدأت النزعة الشعوبية والإثنية في بريطانيا بمعاودة الظهور متحدية النظام الديموقراطي ومخلخلة له ( مشاكل إيرلنده وسكوتلاند وويلز )  , سورية الحالية دولة بحدود مصطنعة و إلى حد ما غير مستقرة ولا يقبل بها شعبها . بريطانيا هذه هي حدودها الطبيعية والسياسية منذ مئات السنين ( ورغم ذلك فهناك الآن إهتزازات من الداخل تؤثر على هذه الحدود بالرغم من النظام الديموقراطي هناك أصوات في اسكوتلاند تطالب بالإنفصال إضافة للمطالب الإيرلندية القديمة ) سورية يدين شعبها بكل الأديان و المذاهب المعروفة في العالم وهذا الشعب في الحقيقة مؤلف من أقليات بعضها كبير وبعضها صغير لكن ليست هناك أغلبية كبرى فيه , بريطانيا مؤلفة من طائفتين فقط غالبية بروتستانت وأقلية كاثوليك ( طبعاً هناك بعض الأديان والمذاهب الضئيلة جداً بحيث لا تحتسب ) ومنذ مئات السنين ورغم الديموقراطية المتجذرة لم تستطع بريطانيا إيجاد حل مُرضٍ للمشاكل القائمة بين الطائفتين والتي وصلت بكثير من الأحيان إلى الحرب .سورية دولة صغيرة محدودة الموارد ولم يحصل أن نَهَبت في الألف سنة الأخيرة ثروات أي بلد، بالعكس كانت ثرواتها عرضة للنهب على الدوام , بريطانيا هي أكبر قرصان ولص وناهب ثروات على مر التاريخ نهبت ثروات كامل الكوكب تقريباً وراكمتها عندها , لكن خلال خمسة عقود فقط صرفت هذه الثروات و لم تستطع تعويضها وبدأ نظامها السياسي الديموقراطي المعتمد على الوفرة الإقتصادية بالإهتزاز ويبدوا أنه معرض للإنهيار رغم التمثيليات الدالة على رسوخ الديموقراطية فيه ( رفض البرلمان لطلب كاميرون بضرب سورية هو تمثيلية ديموقراطية بايخة لأن سَلَفه بلير لم يهتم برأي البرلمان عندما قرر ضرب العراق والمسألة هنا متعلقة بالثروات التي يمكن نهبها نتيجة الحرب وليست متعلقة بإعلاء النظام الديموقراطي ).  

في بريطانيا التي أخذناها كمثال, النظام الديموقراطي كان نتيجة تطور مجتمعي عبر قرون ( بدأت إرهاصات الديموقراطية في إنكلترة عام 1200 ) ساعدت في إيجاده ظروف إنسانية وتاريخية وإقتصادية وسياسية ورغم ذلك لم يستطع هذا النظام أن يحل أي من المشاكل التي يعاني منها المجتمع البريطاني، هو أستطاع عبر تحالفه وإستفادته من الظروف الإقتصادية المواتية تأجيل هذه المشاكل التي عادت لتطل بقوة حالما انتهت الوفرة الإقتصادية , هذا أحد أسباب إستماتة بريطانيا للعودة لموقع القوة الإستعمارية ( الناهبة للثروات ) وكذلك فرنسا ولنلاحظ هنا أن الدولة الأوروبية المكتفية إقتصادياً أي ألمانيا هي الأقل حماساً للإنغماس في المنطق الإستعماري . 

النظام الديموقراطي  الذي ولد من رحم المجتمع البريطاني ولم يُفرض عليه من الخارج و لم يُستورد من تجربة أخرى والذي تضافرت شتى الظروف لمساعدته لم يستطع حل مشاكل المجتمع البريطاني بل خبأها أو أجَّلها   هل يمكن لهذا النظام الديموقراطي أن يكون الحل الأمثل للمجتمع السوري الذي فيه من القوميات والأديان والطوائف والإختلاطات والمشاكل أضعاف ما في المجتمع البريطاني .. المجتمع السوري لم يرغب على مر تاريخه بتطوير هكذا نظام عدا عن أنه لا يوجد أي ظروف إجتماعية أو تاريخية أوإقتصادية داعمة أو دافعة لنشوء نظام ديموقراطي على الطريقة الغربية في سورية . هذا لا يعني على الإطلاق أن المجتمع السوري متخلف أو متأخر لم يستطع أو لم يُرِد حتى الآن اللحاق بشكل الحكم الغربي المتطور على العكس هذا يعني أن المجتمع السوري لم يؤخذ بالدعاية الغربية ويعني أننا نريد أن نطور شكلنا الخاص للدولة والحكم . 

ستنتهي هذه الحرب وبعدها سيكون هناك الكثير من الآراء والنقاشات والعمل لتحديد شكل الدولة وأهم ما يجب أن نلحظه أن الإعجاب بالشكل الغربي للدولة والشكل الغربي لنظام الحكم قد انقضى وبالأحرى قد انكشف، فنحن لا نريد أن نقلد ولا نريد أن نستورد، نحن واثقون من الجينة الحضارية الموجودة في أفرادنا وواثقون من مجتمعنا القادر على أن يفرز الشكل الذي بناسبنا وخاصة بوجود فرصة تاريخية يمثلها وجود رئيس يسعى مخلصاً لفائدة البلد والشعب ولا يحاول أن يدفع بإتجاه نظام يناسبه بشكل شخصي أو يناسب فقط الجالس على كرسي الرئاسة  لسنا خائفين من التجربة ولسنا خائفين من بعض الأخطاء (طالما نستطيع تصحيحها) فهما سيؤديان بالنهاية إلى شكل يناسبنا تماماً وسيكون بالتأكيد الأفضل لنا من أي شكل مستورد أو مستعار مهما بدا جميلاً وبراقاً . 

الجمل 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...