توفيق فهد و «الكهانة العربية قبل الإسلام»

30-01-2008

توفيق فهد و «الكهانة العربية قبل الإسلام»

يسعى توفيق فهد، في كتابه «الكهانة العربية قبل الإسلام» (ترجمة حسن عودة ورندة بعث، وتقديم رضوان السيد، دار قدمس، 2007)، الى العثور على الوجه الحقيقي لجزيرة العرب القديمة، ورسم الخطوط العريضة لفكرها الديني أو الكهاني في ضوء العالم السامي المحيط بها.

وينطلق من أن الدين والكهانة غير منفصلين عن بعضهما البعض، بل متماهين داخل المجتمعات البدائية أو الضعيفة التطور. ذلك ان غياب العقائد يختزل الدين الى جملة من الممارسات الهادفة الى تقريب الانسان من الآلهة، وإتاحة الفرصة له للاتصال بها، وجعلها حادبة عليه، ومعرفة مشيئتها، وتفادي إغضابها. ويبتعد عن التصور الذي دأبت عليه بعض الدراسات ونظرت وفقه الى الكهانة بوصفها ظاهرة شاذة من ظواهر الفكر الإنساني. وعلى العكس من ذلك، ينظر الى جهود الكهنة والعرافين الآشورو – بابليين بوصفها شهادة على إيمانهم وورعهم تجاه الآلهة، من جهة انهم بذلوا جهداً دؤوباً ومنهجياً، بل وحتى علمياً بالغ التدقيق. وانطلقوا من المشاعر النبيلة، وسخروا حياتهم من أجل تقصي المشيئة الإلهية عبر كل المخلوقات، خدمة لأمرائهم وشعوبهم.

ووفق هذا المنظور، يحفر توفيق فهد في العوالم الثقافية العربية، عوالم الكهانة والتنجيم والسحر والشعر والغيب، وبطرق واسعة ومقارنة وتأويلية، مبرزاً الدور الأساس الذي مارسه الفكر الكهاني، بأشكاله كافة في الديانات السامية والعربية. ومن هذه الزاوية تبدو الديانة العربية أغنى بكثير، وأعمق انتماء الى ذلك العالم السامي الذي تحدرت منه، والذي استند الى مبدأ صرامة التعالي الإلهي، حيث كان عقل السامي في حاجة الى اللجوء الى وسطاء مؤهلين للقيام الى حد ما بتقليص الفجوة الهائلة التي تفصل الأرض عن السماء، والإنسان عن الإله.

ويرى توفيق فهد أن الكهانة السامية تميزت في شكل جوهري، من جهة أولى عبر تفسير المنامات وعبر الحالومة (وهي طريقة كهانية تشبه الاستخارة)، ومن جهة أخرى عبر أنواع الزجر بوجه عام، والزجر بالطير، بوجه خاص. أم الاقتراع السهامي، ثم في شكله الجملي، فقد عُرف في ما بعد. في حين أن فحص أكباد الحيوان وقلوبها، وهو علم ذو دقة فائقة، لم يتطور إلا في بلاد ما بين النهرين. وقد أكدت كل منطقة من المناطق السامية ممارسات ذات صلة بتربتها ونباتها وحيواناتها، وعليه تمكنت الكهانة النهرية من أن تكتمل وتتقونن في منطقة ما بين النهرين، في حين أنها لم تتمكن من الظهور لا في جزيرة العرب، ولا في فلسطين.

وقد لبّت الكهانة السامية ذلك التوق لروح السامي في التقرب من الإله الذي لا يمكن إدراكه والوصول اليه. ويعتبر توفيق فهد أن الميل الانخطافي، الذي هو فطرة في السامي، كانت تروق له في شكل خاص الأشكال النبوية والصوفية للفكر. من هنا نشأ الطابع الديني للممارسات الكهانية، والذي لازمها عبر القرون. أما المعرفة الدنيوية داخل ذلك العالم الذي عاش حضارة طيلة ثلاثة آلاف سنة، بأشكالها المتعددة، فقد ظلت ثيوقراطية على الدوام، وكانت خارج التصور. وعلى هذا النحو رُسمت حدود المعرفة، معرفة الإنسان بالإله، ومعرفة تعاليمه ومشيئته، ومن ثم معرفة الإنسان ذاته وفقاً للإله، وبالنسبة اليه.

والكهانة العربية التي أفقرتها صحراء العرب وأضعفها انتصار الإسلام، يبحث فيها توفيق فهد، بصفتها وريثة فكر في غاية الغنى والخصوبة، ترك آثاره العميقة على حضارات العهود السامية القديمة كافة. وبتمثيلها للناموس الثابت لسيرورة الكون، فقد كانت على نحو نموذجي متصورة على غرار الكون المصغر، حيث كانت السماء هي العالم الأكبر والبقية هي الكون.

ويجري البحث عن تعريف الكهانة، وعن نظرية الكهانة، في ما كتب المسعودي والقرويني وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن ميمون وابن خلدون وحاجي خليفة، والخلاصة هي وجود استمرارية في الفكر العربي الى التوفيق بين الكهانة والنبوة، لذلك يعتبر توفيق فهد ان الكهانة العربية، بحسب تعريفها الوصفي، وعبر تجلياتها، مرتبطة أشد الارتباط بالنبوة التي هي جذرها الأصلي، او على الأقل درجتها الأولى، ولا يوجد انقطاع يفصل بين هذين المفهومين المتكاملين، حيث يبدو ثانيهما، بصفته تفتحاً للأولى. لكن خطاً فاصلاً سيرتسم بينهما في الوقت الذي تغيرت فيه الشروط الاجتماعية عبر الانتقال من البداوة الى التحضر أو من النظام القبلي الى النظام الملكي، عندما تبدلت فيه طبيعة الرسالة الإلهية ومحتواها تبدلاً كاملاً عبر الانتقال من الإيمان بآلهة متعددة، الى عبادة إله واحد والى التوحيد. وعليه فإن الكهانة والنبوءة هما التعبير الحي والفعال عن مجتمع محدد في حقبة معينة من تاريخه.

ومنذ ذلك الوقت تفوق النبي على الكاهن، بسبب وحدة مصدر إلهام النبي، وجبروت وكلية علم الإله الذي يحمل النبي رسالته.

ولجأت الكهانة العربية الى وسائط متعددة، بما فيها الأرواح والجن والكائنات الحية او الجامدة، وكانت تنقل الى الكاهن مشيئة الآلهة ونواياها تجاه البشر. وكان التقرب الى الآلهة يحدث في شكل غير مباشر من خلال مؤسسات تعبر عن الإيمان بالآلهة وعما كان ينتظر منها، وما هو ملموس في تجليات الورع الفردي والجماعي كامن في غنى الأماكن المقدسة وبيوت عبادة الآلهة. لكن المعابد وسط جزيرة العرب، فقيرة بالقياس الى المعابد الوثنية السامية في المناطق المتخمة، أي فقيرة بنصبها، وفقيرة بثروتها كذلك.

وحين جاء الإسلام، كانت بعض المعابد القليلة تمتلك ضمن ثرواتها النفيسة من النذور التي يقدمها الزائرون. وكان البدوي يقدم لها بعضاً من حيواناته. ولم يتأخر الإسلام في الاحتفاظ لنبيه حصراً بدور المتلقي لكل وحي كان ينتقل اليه بشكل من الاشكال، مع أن السنة النبوية لم تعلن موقفاً ضد الكهانة بمجملها، بل ضد الكهان الذين كانوا يمارسونها، لأنهم كانوا مرتبطين بالعبادة الوثنية.

ويخلص توفيق فهد الى أن إقصاء الكاهن عن المجتمع الإسلامي، اقتضى إعادة تنظيم الممارسات الكهانية والانتفاع منها، لذلك شهدت فترة القرون الثلاثة الأولى للهجرة تفتح أدب كهاني بالغ الثراء، غذته باستمرار روافد أجنبية كان اثرها فيه اشبه بالخميرة، وحل محل الطرائق الكهانية القديمة، أو أضيف اليها طرائق جديدة بروح مغايرة الى درجة كبيرة، وأضحت تطبيقات عملية مستقلة، قائمة على الملاحظة والتفسير عن طريق القياس والتواق.

أخيراً، الكتاب هو بالفعل «صعب لدقة الموضوعات وغرابتها»، حسبما كتب رضوان السيد في تقديمه، وهو اسهام غني للمكتبة العربية، بصفته الأول من نوعه عن الكهانة العربية، الذي أبرز بموضوعية ودقة علمية الثراء الهائل للتراث العربي في المجال المدروس، اعتماداً على مصادر غنية وشديدة التنوع، حيث لم يكتف توفيق فهد بالمصادر ذات البعد الديني، بل قام بمراجعة الحوليات التاريخية والتواريخ العامة والمعاجم الجغرافية والكتابات الأدبية والسير والموسوعات وروايات الرحالة والدراسات الفولكلورية القديمة والحديثة والأعمال الأثرية وسوى ذلك كثير. وكان عليه ضمن هذا الخليط الهائل ان يكشف عن مكنونات منطقة الحجاز وتهامة ونجد، وبقية مملكة كندة القديمة، خلال حقبة ما قبل الإسلام وفترة الإسلام الأولى، وأن يرسم على ضوء العالم السامي المحيط الخطوط الرئيسة لفكرها الكهاني والديني.

عمر كوش

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...