تسييس العلم

23-07-2016

تسييس العلم

د. نزار العاني: سألتني زوجتي عن صحة مايقال ويكتب بهذين اليومين على صفحات الفيسبوك عن دواء الثاليدومايد والذي شاع أن إيران تبرعت به للحكومة السورية ، وتقوم الأخيرة بتوزيعه عامدة لتشويه وقتل الأطفال السوريين !! وتعرف زوجتي أنني عانيت الأمَرَّين بأواسط ستينيات القرن المنصرم من سمعة هذا الدواء وتاريخه الملتبس وتأثيراته الجانبية الخطيرة والتي نجم عنها تشوهات ولادية مرعبة ، لأنني كنت المندوب العلمي للشركة الألمانية التي أنتجته بالسعودية ، وحينذاك فَقَدَ الأطباءُ ثقتهم بكل منتجات هذه الشركة ، وكان عليَّ أنْ أحارب كي أعزز ثقة الأطباء ببقية الأصناف ، وهو صلب عملي .
منذ ذلك التاريخ ، أي منذ حوالي 50 سنة ، أعرف عن خفايا موضوع الثاليدومايد أكثر مما يعرف حتى المتخصص بالأدوية مثلي . ولو لم تسألني زوجتي عن الدواء لما كنت عرفت بالذي كُتب حوله بالفيسبوك ، لقلة إطلالاتي ومتابعاتي ، ولشعوري خلال الأشهر القليلة الماضية ، أن الجهل واللغو والخفّة والسطحية تطغى على جانبٍ ليسَ بقليل من المدوّنات التي تنشر على صفحات الفيسبوك !
هذا الرجل الذي كتب عن الثاليدومايد جاهل ، والذي شاركه بنشر الكتابة أشدّ جهلا ، واتهام إيران والحكومة السورية من قبل الكارهين لهما بذريعة التواطؤ والتآمرعلى الأطفال والرضّع السوريين ومستقبلهم عبر العمل على توسيع قاعدة استخدام الدواء هو غبي وأحمق وساذج وأبله ، ولا أقول أكثر من ذلك . ولو كلّفَ مُفبركُ الخبرَ نفسه عناء قراءة النشرة العلمية داخل العلبة التي وضع لنا صورتها لما كتب الذي كتب ، ولما تجرَّأ على نشرِ ما نشرْ . فمنذ أن تحولت جذرياً استطبابات الدواء ، والتحذير من استخداماته من قبل الحوامل يكتب في مكان بارز . وإن لم يقرأ متعاطي الدواء ذلك التحذير ، فهناك الطبيب السوري الشريف ، والصيدلاني السوري الشريف ، وشريحتنا هذه ليست كلها بالضرورة مع النظام السوري أو الإيراني أيها المدوِّن الأخرق . أيها الضال والمتهافت : بكتابَتِكَ هذه أهنْتَنا جميعا وأهنت عقلنا ومعارفنا لحساب رؤيتك الضبابية للأمور ولحساب تحليلك الأعوج ! لكَ أنْ تختار بالسياسة ماتراه ، ولكنك في عملية " تسييس العلم " تبدو لي مصاباً بالعمش !
حين تم تخليق دواء الثاليدومايد أواخر خمسينيات القرن الفارط ( وشهادتي العليا هي بهذا الإختصاص بالذات : التخليق الدوائي ) كان يَعِدْ بفتحٍ علميٍ بارعٍ يضاهي تخليق السلفاميد والأسبرين والبنسلين والإنسولين . وحين استُخدم من قبل الحوامل فقط كانت الفضيحة . لكن الدواء مايزال في ميدان استطباباته الواسعة يشكل ركيزة في مجال تقوية المناعة ، وهذا يعني فوائده العظيمة ضد شكل أو أكثر من السرطانات ، ولعلاقته بالمناعة ، فهو مرشح دائم في استطبابات الإيدز . وإذا كانت هيئة الدواء والغذاء في أمريكا قد أغلقت أسواقها بوجه هذا الدواء في ستينيات القرن الماضي ، فهي وافقت في التسعينيات على تسجيله وسمحت باستخدامه لمعالجة حالات الجذام ، وهو مدرج في كل جداول الأدوية الكابحة للسرطانات .
مايهمني ، والموضوع أكثر تعقيدا من أن أشرح بالعمق ملابسات استخدام أي دواء ، أو تناول أي شيئ ، بما في ذلك فرط استخدام الماء ، أو فرط استنشاق حتى الهواء ،ما يهمني لماذا السوري ، أو تحديدا ذلك الأمّي الكذاب الذي خلط عامداً العلم بالسياسة ، وتولّى صوغ خبر الثاليدومايد وتولّى تسريبه إلى الفضاء السوبراني ( الإنترنت ) دون أي إحساس بالمسؤولية ، ولماذا هذه ( الْحُشريّة ) المقيتة ؟؟ . عيب وجريمة أن يتحدث إنسان بما لايعرف . وعيب أن يدّعي المرء ويتظاهر بالفهم وهو معتوه ، لأن هناك من يصدق كل ما يَقرأ وكل ما يُكْتَبْ ! هذا الفيسبوك أتاح للبعض أن يتبجّح ويزعم ويفتري ويحلف أنه يعرف مالا نعرف ، ويتعالم ويتفلسف ويناقش وكأنه هو أبو الثاليدومايد ، وهو أم الإنترفيرون وعم التستسترون .
عيب أخلاقي أن نهرف مجاناً بما لانعرف ، وعمر ابن الخطاب نفسه قال يوما : نصفُ العِلم لا أعرف .
مأساتنا الحقيقية في ( العالم ) العربي ، وليس في سورية حصراً ، ولا تزعلوا مني إن قلت ذلك ، أن نسبة لا بأس بها من الناس ، ناسنا ، مصابة بداء حب الظهور ، والتباهي ، وتضخم " الأنا" ، والفيسبوك صار هو المسؤول عن تضخم هذه العقد ، فرب السياسة سوري ، ورب الثقافة مصري ، ورب الفن لبناني ، ورب المال سعودي ، ورب القات يمني ، ورب الغاز قطري ، ورب السحر مغربي ، ونكاد من فرط التشاوف نحتكر كل الأرباب ، فنحن الذين لنا الصدر دون العالمين أو القبر ، وديننا هو الأعظم ، ولغتنا هي الأجزل ، وووووووو . قليلاً من التواضع ياعرب .
واخجل من نفسك يا صاحب خبر الثاليدومايد !!!!! ففي هذا الموضوع ، أنت لا تعرف كوعك من بوعك . فاصمت واتَّق الله .

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...