تبديد الأوهام الفلسطينية

27-06-2006

تبديد الأوهام الفلسطينية

يمكن اعتماد «عملية الوهم المتبدد» فجر الأحد الواقع فيه 25 حزيران ,2006 نقطة بداية لمرحلة جديدة في النضال الفلسطيني في مواجهة المشروع الإسرائيلي لتفتيت الأرض وتذويب الشعب وتحقير السلطة بما يذهب بالقضية جميعاً.
إن هذه العملية الاستثنائية في كفاءة التخطيط وشجاعة التنفيذ والوعي العميق بأهمية استثمار نتائجها الباهرة، مرشحة لأن تبدد بحراً من الأوهام ليس فقط داخل العقل الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، بل في قلب السلطة المنشطرة على ذاتها فلسطينياً، وفي المجتمع العربي الذي كان اليأس من حكامه قد تمكّن منه حتى كاد ينسيه «الأرض المقدسة» بأولى القبلتين وثالث الحرمين فيها وكنيسة المهد ودرب الآلام والجلجلة فيها.
بل إن هذه العملية الباهرة مرشحة لأن تشكّل منعطفاً في «سياسة» ما يسمى «المجتمع الدولي» مع الوحشية الإسرائيلية في التعامل مع «الفلسطينيين»: تشتيتهم في «معازل» وتجويعهم بالحصار وتقطيع أرضهم بجدار الفصل العنصري وبمستعمرات المتوحشين من الصهاينة المستقدمين من أربع رياح الأرض، وجعل أطفالهم ونسائهم وبيوتهم وشواطئهم ومدارسهم ودكاكينهم ومهاجع اللجوء الثاني أو الثالث حقول رماية بالذخيرة الحية لمدفعية الدبابات الإسرائيلية والبوارج وصواريخ طائراتها... الأميركية.
لسوف تبدّد هذه العملية التي ابتكرتها عقول المجاهدين وحمتها وطنية أهلهم، بحوراً من الأوهام الإسرائيلية، والفلسطينية، والعربية، والدولية في آن معاً.
بين الأوهام الفلسطينية التي لا بد قد بدّدتها العملية بمجرّد حدوثها تلك التي كان أشاعها تخاذل «السلطة»، ممثلة برئيسها ومَن معه من قدامى المحاربين الذين أفسدتهم السلطة برشاها وتغاضيها عن السرقات والارتكابات والتجاوزات والتعديات على مَن باتوا في منزلة «رعاياهم» وهم هم الذين منحوهم شرف أن يكونوا في مواقعهم القيادية.
وبالتأكيد، فإن حالة الاشتياق الممض التي دفعت «السيد الرئيس» محمود عباس إلى الاندفاع بالعناق نحو رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت قبل أيام، في قلعة «بترا» في الأردن، وبينما دماء الأطفال على شاطئ غزة وداخل بيوتها لمّا تجف، سوف تتوارى حتى تندثر، وستتحوّل إلى وثيقة إدانة يحاسَب بموجبها هذا المستهين بدماء شعبه بينما المحتل يهدده بهدر المزيد منها.
كذلك، فإن هذه العملية الباهرة بنجاحها، تخطيطاً وتنفيذاً، هجوماً وانسحاباً منظماً مع الصيد الثمين (الجندي الإسرائيلي الأسير)، لا بد ستبدد أوهاماً عربية رسمية تعاظمت وتكاتفت في ظل الأداء المتردي للسلطة الفلسطينية والصراعات المتفاقمة على هذه السلطة، حتى باتت في منزلة الحقائق المسلّم بها: قُضِيَ الأمر، وانتهت فلسطين كقضية، وبالتحديد كمشروع نضالي. لقد انشق الشعبان حول «سلطتيه» وضاعت الأرض... رحم الله الشهداء!
بل إن هذه العملية قد بدّدت أوهاماً دولية حول «النجاح» في تفتيت القضية الفلسطينية إلى مجموعة من التفاصيل وتفاصيل التفاصيل المنهكة. كانت «الرؤيا» الأميركية حول «الدولتين على أرض واحدة» قد تجسّدت في مشروع شاركت في إطلاقه مع الاتحاد الأوروبي وروسيا وبرعاية شكلية من الأمم المتحدة، حمل تسمية «خريطة الطريق». لكن «الدول» سرعان ما أضاعت الطريق إلى الخريطة، ثم أضاعت الخريطة نفسها، تاركة لإسرائيل أن ترسم بقوتها وحدها مصير الشعب الفلسطيني وحقه في أرضه.
ولقد بدّدت هذه العملية وهم جدار الفصل العنصري، فمن استطاع اختراق السياج الأمني الالكتروني حول قاعدة عسكرية إسرائيلية، ودخل فدمّر دبابة ميركافا وقتل وجرح وأسر واستطاع أن يخرج بقدر محدود من الخسائر (شهيدين)، فكأنه أسقط ذلك الجدار الذي أريد منه تشطير ما بقي من أرض فلسطين ليسهّل على إسرائيل التهامها جميعاً.
وبديهي أن ما هو ممكن في غزة، المكشوفة تماماً للعين المجردة والمدفعية والطائرات الموجهة وصواريخها، ممكن في أي مكان آخر، وأن السور، مهما كان مصفحاً فإنه لا يحمي أحداً.
كذلك فإن هذه العملية الشجاعة قد أسقطت أوهام فك الارتباط، على الجانبين: الإسرائيلي الذي لا يريد إلا ما يقرّره، والسلطة الفلسطينية التي تكاد لا تقرّر إلا ما يريده «شريكها» الذي يرفضها شريكاً مع أنها تبذل ماء وجهها من دون أمل..
يمكن، الآن، القول براحة ضمير إن هذه العملية مرشحة لأن تنهي تواطؤ رئاسة السلطة مع العدو الإسرائيلي على شعبها، وليس فقط على الحكومة التي رأتها منافساً خطيراً قد يخرّب عليها محاولتها للتفاهم مع إسرائيل بشروطها (اللاغية لفلسطين)...
لقد تواطأت رئاسة السلطة على الحكومة المنتخبة منذ لحظة قيامها، رغم أنفها... حاولت بداية أن تعرقل تشكيلها، فلمّا فشلت باشرت عبر اتصالاتها بالعواصم، القريبة منها والبعيدة منع الاعتراف بها، عربياً ودولياً... وقبلت سلاحاً مصدره العدو لمواجهة مقاتلي حماس، وهي تدرك أنها بهذا الأسلوب إنما تدفع أهل الأرض التي لا تزال محتلة إلى حرب أهلية..
وأخيراً، فإن هذه العملية الشجاعة قد نبّهت الرأي العام العربي من خدره، وخلخلت مكامن اليأس الذي كان قد تمكّن من العرب، في المشرق والمغرب، وأعادت إلى فلسطين بعض ملامحها الأصلية التي كاد يطمسها التفريط والتنازلات وفساد السلطة والمساومات على الدم التي كادت تصرف الناس عن هذه القضية المقدسة التي كان الخطر يتهددها بالتهافت بعدما غدا بعض المسؤولين من أهلها شركاء لعدوها في التآمر عليها.
إنها عملية أكبر من منفذيها، وأبعد تأثيراً مما قدّروا.
لعلها تكون نقطة بداية للعودة في اتجاه الصح: فلسطين.

طلال سلمان

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...