المسؤولية الاجتماعية للشركات

28-10-2006

المسؤولية الاجتماعية للشركات

يكتسب الدور الاجتماعي للشركات والقطاع الخاص أهمية متزايدة بعد تخلي الحكومات عن كثير من أدوارها الاقتصادية والخدمية التي صحبتها بطبيعة الحال برامج اجتماعية كان ينظر إليها على أنها أمر طبيعي ومتوقع في ظل انتفاء الهدف الربحي للمؤسسات الاقتصادية التي تديرها الحكومات، وإن كانت في كثير من الأحيان تحقق إيرادات وأرباحا طائلة.

وكان متوقعا مع تحول هذه المؤسسات إلى الملكية الخاصة وإعادة تنظيمها وإدارتها على هذا الأساس أن يتوقف دورها الاجتماعي، ولكن التطبيق العملي لتجارب الخصخصة أظهر أن الدور الاجتماعي والالتزام الأخلاقي للشركات هو أيضا استثمار يعود عليها بزيادة الربح والإنتاج وتقليل النزاعات والاختلافات بين الإدارة وبين العاملين فيها والمجتمعات التي تتعامل معها، ويزيد أيضا انتماء العاملين والمستفيدين إلى هذه الشركات.

وأظهر أيضا أن كثيرا من قادة وأصحاب الشركات يرغبون في المشاركة الاجتماعية، وينظرون إلى العملية الاقتصادية على أنها نشاط اجتماعي ووطني وإنساني يهدف فيما يهدف إليه إلى التنمية والمشاركة في العمل العام، وليس عمليات معزولة عن أهداف المجتمعات والدول وتطلعاتها.

ويمكن دراسة ملاحظة كثير من الالتزامات والمشروعات والمبادئ التي بدأت شركات كثيرة تلتزم بها أو يمكن أن تعمل على أساسها دون أن تتخلى بالطبع عن أهدافها الربحية، فهذا ما يريده لها أيضا جميع العاملين فيها والمستفيدين منها لأن خسارتها ستعود بالضرر على المجتمعات والعاملين والاقتصاد الوطني.
وتؤشر التجارب العربية القائمة أو التاريخية بوضوح على الدور الاجتماعي للقطاع الخاص، فالحضارة العربية يغلب عليها تاريخيا طابع المجتمعات أكثر من الدول، والتضامن والتكافل والتقدم الحضاري والعلمي الذي أنجز كان يعتمد على المجتمعات والأفراد أكثر من الدول.

فالحضارة العربية والإسلامية كانت قائمة تاريخيا على مؤسستين متكاملتين ومستقلتين، وهما الدولة (السلطة) والمجتمعات التي كانت تنظم التعليم والرعاية والتكافل في حين كانت السلطة تنسق شؤون الأمن والدفاع وترعى المجتمعات وتساعدها، وكانت تجربة الدولة المؤسسية التي تقوم على التنمية والرفاه والخدمات في التجربة العربية حديثة جدا.

وبرغم الدور الواسع للحكومات في دول الخليج في الرفاه والتنمية والرعاية الاجتماعية فقد تواصلت فيها المساهمات التنموية والاجتماعية للأفراد والشركات، وعندما حققت هذه الدول تقدما اقتصاديا بدأ الدور الاجتماعي والتنموي لمجتمعاتها وشركاتها يتجه إلى المجتمعات والدول الأخرى في جميع أنحاء العالم، ويمكن اليوم ملاحظة مئات الآلاف من المساجد والمدارس والمراكز الطبية وآبار المياه والمشروعات الإغاثية والتنموية بتمويل مجتمعي فردي ومؤسسي خليجي.

ولكن المسؤولية الاجتماعية للشركات لا تقف عند التبرعات للمشروعات والبرامج التنموية والخيرية، فثمة مجالات للعمل ومبادئ يجب أن تلتزم بها الشركات وسيعود ذلك على المجتمعات والدول بفوائد كبرى، ويجنبها كوارث وأزمات بيئية واقتصادية واجتماعية ستكون في تكاليفها ونتائجها أكبر بكثير من التكاليف المترتبة على هذه المسؤوليات والالتزامات.

ومن مجالات ومحاور هذه المسؤوليات الاجتماعية، تنظيم وإدارة الأعمال وفق مبادئ وقواعد أخلاقية، والمشاركة مع الفقراء والطبقات الوسطى (على أساس ربحي)، وحماية البيئة وتطويرها، وحماية الموارد الأساسية كالمياه والغابات والحياة البرية والتربة وتطويرها، ومكافحة الفساد وتجنبه، والتزام حقوق الإنسان والعمل والعمال، ومساعدتهم في تحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية مثل الادخار والتأمين والرعاية لهم ولعائلاتهم، ومشاركتهم في الأرباح.

المبادئ الأخلاقية في العمل الاقتصادي
ليست الرأسمالية غير أخلاقية بالضرورة، والفكرة النمطية أن الربح والخصخصة ونظام السوق ينطوي بالضرورة على تجاوزات أخلاقية أو لا يأخذ الأخلاق بالاعتبار فكرة تحتاج إلى مراجعة إستراتيجية، صحيح أن ثمة ممارسات وحالات كثيرة للبحث عن الربح بأي ثمن، ولكنها ليست ملتصقة بالضرورة بالعمل الاقتصادي الحر.

ويمكن بمنظومة من العمل المجتمعي والتشريعات وتطوير الرأي العام أن تكون القواعد الأخلاقية استثمارا بحد ذاته يزيد الثقة بالمنتوجات والسلع والخدمات التي تقدمها الشركات.

والقوانين والتشريعات مهما كانت محكمة فإنها لا تحمي المجتمعات والحقوق ولا توفر وحدها الأمن والثقة، ولكنها حين تعمل في بيئة أخلاقية فإنها تحقق كفاءة عالية في التنمية والإصلاح، وللأخلاق في كثير من الأحيان سلطات واقعية وفكرية تفوق السلطة المادية.

وقد تنشئ المصالح التي تنظم علاقات الإنتاج والحماية أيضا منظومة أخلاقية من العمل والانتماء والتكافل والرعاية والتوازن بين الحقوق والواجبات، فنحتاج لأجل النجاح وتحقيق مصالحنا القريبة والبعيدة المدى أن نعمل بتنظيم من سياقات قانونية وسياسية وأخلاقية أيضا دون أن تلغي واحدة من هذه السياقات الأخرى، فلكل منظومة مجالها الخاص بها، ولها معا تفاعلات ذاتية وتلقائية ومنظمة يجب الالتفات إليها.

وقد لاحظ بيتر آيغن رئيس ومؤسس منظمة الشفافية العالمية بعد تجربة عمل طويلة في البنك الدولي أن مكافحة الفساد عبر العمل على إقامة وتشجيع منظومة من العمل الاقتصادي الذي ينظم نفسه على أساس من النزاهة ومكافحة الفساد دون تدخلات ومراقبة حكومية ودولية هو الأكثر نجاحا وفاعلية.

وتتأكد اليوم وجهة نظر مفادها أن المجتمع العالمي يحتاج إلى القطاع الخاص بعدما تأكد عجزالحكومات عن مواجهة الفساد، ولذلك فإن المؤسسات الاقتصادية الكبرى بخاصة تحتاج إلى برامج عمل نابعة من المسؤولية الاجتماعية.

ومن المبادئ والأفكار التي تقترحها المؤسسات العاملة في مكافحة الفساد، أن تضع كل مؤسسة اقتصادية في أنظمتها ومدوناتها التزاما بالحؤول دون الفساد المباشر أو غير المباشر، وإدخال برامج مناهضة للفساد ووضعها موضع التنفيذ، وهذا يعني أن الأخلاق ليست مسألة هامشية في الاقتصاد، بل هي مكون أساسي للأسواق والمنظمات والعلاقات التجارية والاقتصادية.

الشركات والتنمية الاقتصادية والاجتماعية
ثمة دراسات وتجارب كثيرة جدا تظهر أن هناك فرصا كبيرة للنجاح الاقتصادي للاستثمارات الموجهة للفقراء، وتؤكد خطأ وخطورة النظر إلى الفقراء على أنهم حالة لا يمكن التعامل معها إلا من قبل الجهات الحكومية والخيرية والاجتماعية.

وقد ثبت بالفعل أن الفقراء يحتاجون إلى شراكة وكرامة أكثر مما يحتاجون إلى صدقات ومعونات، وفي المقابل فإن المنطق السائد لدى كثير من المنظمات الخيرية والحكومات ووكالات الغوث، ومفاده أن القطاع الخاص ليس موضعا للثقة للمشاركة في التنمية وأن الحلول المعتمدة على السوق لا يمكنها تحقيق التنمية وتخفيض معدلات الفقر يتضمن كثيرا من المغالطات النمطية ويتجاوز على تجارب ونجاحات قائمة بالفعل.

وتنظم اليوم كثير من غرف التجارة الوطنية والإقليمية والاتحادات التجارية سلسلة من المؤتمرات ومدونات السلوك والأخلاقيات الاجتماعية في قطاع الأعمال التجارية، وتتكرس وجهة نظر مفادها أن الاقتصاد العالمي الجديد بمشكلاته وآفاقه يحتاج إلى تنظيم ذاتي قائم على السلوك الاجتماعي.

فبعد تجارب مريرة للشركات مثل التلوث البيئي الناتج عن أنشطة وأخطاء وتجاوزات بعض الشركات، مثل الكوارث التي تؤدي إلى مقتل كثير من العمال والناس وتسرب الغاز والنفط إلى الجو والبحار، وتقليص نسبة الغابات والمناطق الخضراء في العالم، والقضاء على كثير من مكونات الحياة البرية والطبيعية فقد بادرت كثير من الشركات والمنظمات والغرف التجارية والصناعية إلى إعداد مجموعات من القواعد والمبادئ تنظم عمل الشركات وتراقب أداءها، وتطور إجراءات وتقنيات السلامة والحفاظ على البيئة.

وقد يعود ذلك أيضا إلى الثمن الباهظ لتجاهل التبعات الاجتماعية أو الاقتصادية، والذي فشلت الحكومات في تفاديه، بل وكانت في بعض الأحيان مسؤولة عنه مثلها مثل الشركات، ومن الأمثلة الصارخة في هذا المجال: تسرب الغاز من معمل يونيون كاربايد في بوبال بالهند الذي أودى بحياة أكثر من ستة آلاف شخص، ومسؤولية شركة إيكسون فالديز عن تدفق 11 مليون برميل من النفط في مضيق الأمير وليام في آلاسكا، والإساءة إلى السكان الأصليين والتعدي عليهم وعلى ثقافتهم وحقوقهم، وتشغيل الأطفال.

وبالطبع فإن تطور وسائل الإعلام والاتصال (الإنترنت والبريد الإلكتروني، والفضائيات، والموبايلات) ساهم كثيرا في مراقبة ومتابعة مثل هذه الحوادث، وتحريك المجتمعات والأفراد في مواجهة الشركات والمخالفات.

وتساهم منظمات غير حكومية مثل "مراقبة الشركات" من خلال شبكة الإنترنت بمتابعة احتمالات التضليل الإعلامي التي ترتكبها شركات تدعي الالتزام بتجنب القواعد والمعايير الدولية في سلوك قطاع الأعمال التجارية، وبخاصة أن شركات تصنف أنشطتها ضمن المسؤولية الاجتماعية وهي في الوقت نفسه تدمر البيئة وتضر بالمجتمعات، ذلك أن البرامج الاجتماعية في حماية البيئة ومواجهة الفقر أصبحت من مرتكزات الدعاية وتوسعة الاستثمار والأسواق.

وبرغم أن العولمة تعتبر واحدة من أهم أدوات الرأسمالية والهيمنة الاقتصادية فإن شركات ومؤسسات تحاول استثمارها في مجموعة من الالتزامات الاجتماعية والأخلاقية، فيعتقد كينيث بور، المسؤول التنفيذي الأول لشركة شيفرون أن البيئة الاقتصادية العالمية الجديدة يمكن أن تخدم احترام التنوع وترسيخه، وتساعد الاقتصادات القطاعية والوطنية على النمو، وتطور التعليم والرفاه والتنمية البشرية، وهي مسائل لم تكن تطرح في السنوات القليلة الماضية.

وقد طرح بالفعل الدورة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة والذي عقد في جنيف بسويسرا في الفترة من 26 إلى 30 يونيو/حزيران 2000 مشروع مبادرات اجتماعية للشركات من أجل مواجهة الفقر، وتطوير الأعمال والحرف والمهن، وأصدر الأمين العام للأمم المتحدة للمرة الأولى تقريرا عن المبادئ التوجيهية لدعم المسؤولية الاجتماعية للشركات، والعمل على تحقيق معيار دولي لسلوك الشركات في الاقتصاد الدولي.

وتبينت الشركات ربما بسبب ما تعرضت له من نقد عنيف من الجمهور، الحاجة إلى إنشاء علاقات مع الجمهور ومع المجتمعات المحلية القوية في المواقع التي تعمل فيها، وتكرس تقليد بأن تقدم أوساط الأعمال التجارية شيئا إلى المجتمعات المحلية.

فالعلاقات الجيدة مع المجتمعات المحلية هي ببساطة تعبير عن الأداء الجيد للأعمال التجارية، فقد أدت الممارسات المضادة إلى خسائر كبرى لأعمال الشركات، فقد انخفضت مبيعات شركة يونيون كاربايد المسؤولة عن كارثة بوبال في الهند من 9.9 بليون دولا سنويا إلى 4.8 بليون دولار, وبلغت خسائر شركة إكسون فالديز المسؤولة عن كارثة آلاسكا حوالي بليون دولار.

وهاتان الكارثتان السالف الإشارة إليهما أسهما في تغيير كبير في مسار الصناعات النفطية وغيرها أيضا، فقد أصبحت القوانين أكثر تشددا في المسؤولية، واتخاذ تدابير فنية وتقنية لأجل السلامة، واتخذت بعض الشركات مبادرات طوعية بالرعاية المسؤولة، ومنذ عهد قريب، اعتمدت شركتا صناعة الأحذية الرياضية "نايكي" و"ريبوك" مدونتين جديدتين لقواعد سلوك الشركتين عقب ما تعرضتا له من نقد لاذع بشأن الممارسات العمالية لبعض المتعهدين التابعين لهما في آسيا.

ونقحت بصفة هامة مجموعة رويال داتش/شل، "ببيان المبادئ العامة المتعلقة بإدارة الأعمال التجارية" الخاصة بها بعد أن اتهم محتجون الشركة بالإهمال في حقوق النفط في بحر الشمال وفي نيجيريا، حيث قال منتقدوها إن النظام العسكري يوفر الحماية لمرافقهما في وجه معارضة محلية عنيفة أحيانا للعمليات التي تقوم بها شركة شل.

وبدأ عدد كبير من المستثمرين في الأسهم يشترطون التزام الشركات التي يشاركون فيها بالمسؤولية الاجتماعية، ففي الولايات المتحدة كانت 10% من الأصول الاستثمارية أي حوالي تريليون دولار خاضعة لشروط المسؤولية الاجتماعية والبيئية.

ابراهيم غرايبة

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...