البازار: دهاء السياسة وعصبها في إيران

16-06-2006

البازار: دهاء السياسة وعصبها في إيران

في الطريق إلى جنوب طهران حيث بازارها الواقع بالقرب من ميدان الإمام الخميني، ينقل صوت المذياع نشرة أخبار الظهيرة. هنا البازار الأكبر بين البازارات المنتشرة في المدن الإيرانية. الحركة ساكنة على غير طبيعتها، فالكل ينصت بوجوه مرتاحة إلى خبر وصول منسق الشؤون الخارجية الأوروبية خافيير سولانا إلى طهران وتقديمه عرضاً محدداً الى إيران يحمل من المزايا، ما ينبغي أن يجعلها تتخلى عن تخصيب اليورانيوم.
تميز كلمة سولانا على ألسنة الإيرانيين وهي تمط في حرف الألف الأخير من اسمه (سولانااا)، إنها الكلمة الأكثر تردّداً في إيران الآن. الكل يعرف أن فشل المبعوث الأوروبي في مساعيه يعني أن هناك عواقب وخيمة تنتظر إيران.
تعرف مسبقاً قبل أن تلتفت إلى المبنى المصمم بعناية بحسب السلع، أن معنى البازار أكثر بكثير من مجرد ساحة تراثية لتبادل السلع والخدمات. إذ للبازار، وهي كلمة فارسية دخلت كل لغات العالم للدلالة على السوق، فعله التاريخي في التأثير على البنى الاجتماعية والسياسية في إيران. يمكنك تقدير قياس شعبية وجماهيرية هذا الحاكم الإيراني أو ذاك بحسب ارتباطه بالبازار وتمثيله لمصالحه. ويرتبط قطاع شعبي واسع يقدر بملايين الأجراء الإيرانيين بمصالح تجار البازار في رباط لم تفلح مئات السنين ولا تطور وسائل الانتاج في فصم عراه، بل يبدو البازار بعلاقات إنتاجه التقليدية حتى اليوم قدراً أصيلاً في إيران المعاصرة.
وبالنظر إلى علاقات التحالف بين رجال الدين والبازار يمكن توقع أن فرض عقوبات اقتصادية على ايران، سيضغط بالفعل على <مصالح البازار> وأرباحه وودائعه، ويؤثر سلباً بالتالي على تناغم النظام الإيراني. ولكن هذه التناقضات تحتاج إلى بعض الوقت لإنضاجها، والكثير منه لتفعيلها واستثمارها، في حين أن الصبر المطلوب ثمناً للعقوبات لا يبدو من مزايا الإدارة الأميركية الحالية.
تختار بازار السجاد الإيراني اليدوي هدفاً لزيارتك. يشكل السجاد العمود الثاني في خيمة الإيرادات الإيرانية مع النفط. تقدر قيمة البضاعة في سوق طهران للسجاد وحدها بحسب أحد كبار التجار هنا برقم يناهز مليارات من الدولارات. وتلعب مجموعة من العوامل دورها في تقدير سعر السجادة، منها الخامات المستعملة في حياكتها مثل جودة الحرير ونوعية صوف الغنم المستخدم، وعدد العقدات في المتر المربع. يبدأ السجاد الفاخر من عدد نصف مليون عقدة ولا ينتهي عند مليون عقدة في المتر المربع، وتعتبر الصورة العامة للسجادة وتناغم ألوانها وتوازن أشكالها من محددات سعرها. وتستغرق حياكة السجادة فترة تتراوح بين ستة أشهر وسنة ونصف للسجادة ذات قياس مترين في ثلاثة أمتار، ويعمل عليها شخصان بأجرة يومية تتراوح ما بين ثلاثة دولارات إلى خمسة دولارات فقط. وتبرع الفتيات تاريخياً في حياكة السجاد في إيران، وكلما ازدادت مهارة الفتاة في الحياكة، كلما ارتفع سعر مهرها عند الزواج، لأنها سوف تدخل معها إيراداً لا ينضب إلى بيت الزوجية.
عندما تنظر سريعاً إلى هيكل التجارة الخارجية الإيرانية ربما ستفكر بأن فرض حصار نفطي مقترن بحصار بحري يمنع تصدير النفط ويحظر الاستثمارات في قطاع النفط، سيقود إلى ضرب النظام الإيراني في مقتل. وذلك لأن النفط يشكل سلعة التصدير الأولى في إيران، ويمثل ما بين 80 إلى 90 في المئة من الصادرات الإيرانية، كما يمول تصدير النفط ما بين 40 إلى 50 في المئة من إيرادات الدولة الإيرانية. ولكن في حال فرض حظر نفطي على إيران، فإن أسعار هذه السلعة الاستراتيجية ستقفز قفزات غير مسبوقة بما يؤثر سلباً على الاقتصاد العالمي. فإيران هي رابع أكبر مصدر للنفط في العالم مما يجعلها في وضعية استثنائية بالسوق العالمية للطاقة، وهو ما ينزع من الحظر النفطي المفترض أي أفق سياسي حقيقي.
يعتبر الإجماع الدولي الشرط الأساس لنجاح العقوبات الاقتصادية في التأثير على قرار طهران السياسي، ومثال العقوبات الاقتصادية التي تفرضها واشنطن منذ العام 1980 على طهران يزيد من ثقل هذه الفرضية. إذ كانت نتيجة الحصار الأميركي أن إيران استوعبته وفتحت نوافذ خارجية أخرى على الأقطاب الدولية المختلفة، مما جعل الشركات الأميركية هي المتضرر الأساسي من عقوبات حكوماتها على إيران.
ومهما اختلف نوع العقوبات الاقتصادية، فإن دور البازار سيكون محدداً في إنجاحها أو إفشالها، إذ ان إيران ليست دولة ريعية تعتمد على تصدير النفط فقط في تمويل احتياجاتها، بل دولة ذات طراز فريد تختلط فيها مصالح رجال الدين مع <مصالح البازار> وما تمثله. ومن وراء الشريكين الأساسيين يأتي جهاز الدولة ومعه الأذرع العسكرية المختلفة للنظام من قوات نظامية وحرس ثوري (باسداران) ومتطوعين (باسيج)، وهي مصالح تمثل أكثر من نصف الإيرانيين.
تحدق فيك عينا التاجر الإيراني كصقر، وبعد أن يتأكد من فرضية رغبتك بالشراء يعرض عليك أنواعاً متفاوتة الجودة من السجاد، حتى يعرف مدى إلمامك بالموضوع محل المساومة. تقلب يده بمهارة عشرات من قطع السجاد المتراصة فوق بعضها واحدة من بعد أخرى إلى نصفها؛ بما يتيح لك رؤية نصف السجادة وتصميمها. بعد أن يلاحظ مشاعرك تجاه القطع مستخدماً فراسة قدّت وتشكلت عبر آلاف الزوار وخبرة عشرات السنين، سيعود ليعرض عليك القطع التي اخترتها أنت في قرارة نفسك كخيار ثان. يكرر عليك ما تعرفه أن السجادة ليست مجرد قطعة استهلاكية فقط، بل بالأساس مخزن للقيمة تستطيع استعماله عند الحاجة. بلهجة أصفهانية يقول لك الحاج رضا: <أنت تشتري الجمال والعراقة ويمكنك استعادة نقودك ببيعها أي وقت شئت>. يدخل في روعك أن ما عرضت أنت من سعر يبدو مقبولاً لديه قبل أن يعود ليماطلك من جديد. تنهمك مجدداً في المساومة ليقلب وجهه ويحطم تصوراتك برفضه لسعر بدا هو قابلا به من قبل. يبقي الآمال معقودة ومتلاشية في آن معا، وحين يتيقن التاجر بالفعل أن عرضك الحالي هو الأخير، يوافق بتأن وأنت له من الشاكرين.
تخرج من البازار حاملاً جائزتك الكبرى وصوت المذياع ينقل نشرة أخبار المساء: المسؤولون الإيرانيون يؤكدون تمسكهم بحق بلادهم في التخصيب ولكنهم يعدون بدراسة العرض الأوروبي. تحمل سجادتك وتتخيل صورة المبعوث الأوروبي منهمكاً في المرحلة الأخيرة من الصفقة، تضبط نفسك متلبسا وأنت تقول ... <مسكين سولانااا>.


مصطفى اللباد
المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...