إليف شافاق في «لقيطة إستانبول».. الحقيقة بعد عقود

24-10-2012

إليف شافاق في «لقيطة إستانبول».. الحقيقة بعد عقود

كتاب «لقيطة استنبول» («منشورات الجمل»، ترجمة خالد الجبيلي) للكاتبة التركية إليف شافاق (مواليد العام 1972 في مدينة «ستراسبورغ» الفرنسية، من أمّ تعمل في السلك الدبلوماسي. نشأت في اسبانيا وعاشت لبعض الوقت في الأردن. وحاليا تعيش بين استانبول وتوسكون، حيث تُدرّس في جامعة أريزونا)، كتاب يُقرأ لأكثر من سبب: أولا، من المفيد دائما اكتشاف آداب اللغات الأخرى، وبخاصة الأدب التركي الذي يملك الكثير من الأصوات المميّزة، ثانيا، ومن دون شك، تملك إليف شافاق كل العدّة اللازمة التي تجعل منها كاتبة على درجة كبيرة من الموهبة، إذ تعرف كيف تحول التفاصيل إلى أدب حقيقي، بل لنقل إن التفاصيل العادية في هذا الكتاب تتحول إلى رائعة أدبية. أضف إلى ذلك كلّه أن الكتاب هذا حين صدر منذ سنوات (بالانكليزية، إذ إنها تكتب بهذه اللغة) أثار زوبعة كبيرة، لم تنجُ الكاتبة منها ومن مثولها أمام المحكمة، بعد أن وجهت لها تهمة «قدح وذم الهوية الوطنية التركية». والسبب؟ إحدى شخصيات روايتها هذه «لقيطة استانبول» تتحدث، وبدون حرج أو محرمات، عن المجازر التي ارتكبت بحق الأرمن. على الرغم من أن الكاتبة لا تستعمل عبارة «الإبادة الأرمنية»، إلا أن الصحف التي تابعت المحكمة يومها قالت عنها إنها مقدامة ونسوية عنيدة. كذلك اتهمتها أنها تتناسى أصولها وأنها تخون علم بلادها المطبوع على جواز سفرها. لكنها غالبا ما تجيب إن الهوية الوحيدة التي تريد أن تضطلع بها إلى الأبد: هويتها ككاتبة.
هذا الاضطلاع بهذه الهوية، يعود كما قالت ذات يوم «إلى مفهوم يعبر روحها دائما: مفهوم يمتلك الكاتب، في كتبه، أي حرية أن يكون مختلفا، أكان رجلا أم امرأة، أكان مسيحيا أم مسلما، أكان صينيا أم تركيا، أكان يعيش على هذه الضفة من البوسفور أم على تلك». من هنا تتخذ الكتابة بالنسبة إلى إليف شافاق معنى تحطيم الحدود وتخطي الثقافات، إذ كما قالت وكما تردد دائما، تشكل الكتابة إيمانها الوحيد والمطلق.
عبر سيرة عائلتين، واحدة تركية والثانية أرمنية حيث لا نجد مكانا كبيرا للرجال، إذ إنهم إما غائبون وإما ملعونون تنجح الكاتبة في أن تمزج بين مصائر نساء روايتها. أكانت شخصيات نسوية أم عدمية أم روحانية، إلا أنهن جميعهن يأتين من هذا الماضي العنيف، المليء بالذكريات المتعبة والقاسية، والذي يحاول الجميع إما أن يمحوه وإما أن يعيدوا إحياءه.
نحن أمام شخصيتين رئيستين: أرمانوش وآسيا، الأولى طالبة في جامعة أريزونا، تقضي وقتها بين عائلتيها الأميركية والأرمنية: إذ إنها ابنة روز الأميركية وبارسام المنحدر من عائلة أرمنية هاجرت إلى الولايات المتحدة، لكنهما انفصلا، فقررت روز و«كانتقام» من بارسام أن تتزوج من جديد مصطفى التركي. أما آسيا الطالبة التركـية في جامعـة استـانبول فهي ابنة زليخة، لكنها كانت لقيطة ولا تعرف والدها بسبب «خطأ» ارتكبته والدتها، لذلك تعيش معها في بيت لا تسكنه إلا النساء.
ذات يوم تقرر أرمانوش أن تذهب إلى استانبول للتعرف على مدينة أجدادها. الفكرة وحدها أعادت إحياء الماضي بتاريخه الدرامي وبكل ما يحمل من جراح لم تندمل في الواقع. وخلال رحلتها، كما خلال عملية السرد، نكتشف تفصيلا تلو آخر، تلك العلائق الوثيقة التي تجمع بين ارمانوش وآسيا، ليعيد هذا الاكتشاف ممارسة ضغط المأساة العائلية من جديد، ومعها كل التاريخ الماضي الذي ينبثق فجأة.
هل يمكن التصالح مع الماضي؟ أم أن الحقد سيستمر إلى ما لانهاية؟ في سؤال الكاتبة هذا أكثر من إعادة لقراءة تاريخ بلادها، بل ثمة محاولة جريئة لقول ما كان مخفيا لعقود عديدة، وربما هنا تكمن أهمية الأدب.


إسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...