أنسي الحاج: ما لم يَحصـل بعد

24-10-2009

أنسي الحاج: ما لم يَحصـل بعد

أصدرت «منشورات الجمل» مسرحيّة صموئيل بيكيت «في انتظار غودو» وقد عرّبها وقدّم لها الأستاذ بول شاوول. يفتح الإصدار باب الكلام من جديد على مسرح العبث أو كما يسمّيه شاوول «المسرح اللامعقول». وكان الشاعر والمسرحي والناقد اللبناني الكبير قد نقل إلى العربيّة في وقت سابق مجموعة من قصائد بيكيت. تتركّز المسرحيّة، ولعلّها الأكثر شهرة في المسرح الحديث، على صعلوكين هما استراغون وفلاديمير يقبعان عند زاوية من إحدى القرى، خالية تماماً لولا شجرة وحيدة تقوم فيها، بانتظار شخص يدعى غودو (ذهب بعض المتكهّنين إلى القول إنّه قد يرمز إلى الله، نظراً إلى ما يعنيه بالإنكليزية جذر الكلمة) لم يرياه من قبل ولا يعرفان لماذا ينتظرانه، ومع هذا ينتظرانه لأنه وعد بالمجيء، وربّما في مجيئه فَرَج لهما. يدور (والأصح أن نقول «لا» يدور) ذلك وسط ديكور كئيب عقيم لا يقطع رتابته غير مرورٍ عابر لسيّد وعبده، وأمّا غودو فلا يجيء، وبين وقت وآخر يكتفي بإرسال إشارة تنبئ بوصوله «غداً»، وفي الغد لا يجيء، وهكذا...
تأكيداً على اعتقاده بأن فعل الانوجاد أخرق، يقول بيكيت في المسرحيّة: «نولد كلّنا مجانين. وبعضنا يظلّ مجنوناً». وفي هذا إشارة إلى أن بعضنا الآخر يشفى من جنونه، غير أنه لا يوضح كيف. باليأس الواعي؟ بالانتحار؟ عند بيكيت لا يقين، كلّ شيء مبهم ومَوضع شكّ.
يتراءى أبطال المسرح البيكيتي اثنين اثنين، لكنّ الثنائي هو مسافةُ غربةٍ بين اثنين أكثر ممّا هو لقاء رفيقين. يعبّر بول شاوول عن ذلك في مقدّمته بالقول إن شخصيات المؤلّف «تعيش في مونولوغ أبدي (...) والرفقة ذاتها تعبير عن الوحدة أكثر ممّا هي تعبير عن اللقاء. كأن شقاء الإنسان كفرد يحتاج أحياناً إلى شاهد».
عالج سارتر وكامو مسرح العبث قبل بيكيت ويونيسكو وآداموف، لكنّ أجواءهما تضطرب بحيويّة الصراع أو بمهابة الفاجعة، بينما الثلاثي، ولا سيما بيكيت، أوصل العبث إلى صميم العدم وأجلسه على عرش اللامعنى في الصقيع المطلق. وحيث اختار سارتر وكامو الالتزام مَخرجاً من الدوّامة اختار النجوم الثلاثة القنوط والضجر والنعاس الوجودي المنهجي، مع طراوة وحيدة هي التهكّم. ولعلّ آداموف هو الأضعف بين الثلاثة، أمّا يونيسكو، وخصوصاً في النصف الثاني من مسرحه، فيجنح أحياناً نحو غنائيّة سوداء بلغت في «الملك يموت» مراتب شعريّة عجيبة.
وعلى ذكر «سوداء» يقترب مسرح العبث، وعند بيكيت أكثر ما يكون، من الرواية السوداء بأشخاصها المتقشّفين وتصرّفاتهم البليغة في سكوتها، الظليلة في عريها، فضلاً عن سمة مشتركة أخرى هي السخرية السوداء، وعن استهتار بالمصير يغالب خوفاً من هذا المصير مغالبة الموجة للموجة. ولا مبالغة في استشفاف تأثيرٍ ما للسينما في مسرح بيكيت وتأثير ما لبيكيت في السينما: هذا الجمود المهول في قلب الفراغ، هذا الوعي المُرَوبص وهذه الرَّوْبَصة الكاذبة، بل، على حدّ تعبير آلان روب غرييه، «هذا الانكفاء إلى ما وراء اللاشيء»، هذا القلق الصادر من غياب كل ما يثير القلق عادةً، الصادر من خواء المكان وجمود الزمان وسيادة عمى القَدَر، هذا الكمال في اتهام الوجود، هذا الشلل الضاجّ بالمعاني الكبرى...
في دراسة له عن مارسيل بروست وضعها عام 1931 يتحدّث بيكيت عن «الصحراء التي تسودها الوحشة والمهاترة والتي يسمّيها الناس الحبّ...»، محدّداً منذ الرابعة والعشرين من عمره موقفه من الحبّ كحلّ. وفي هذه الدراسة يصوّر الإنسان على قاعدة أن «طوله لا يقاس بجسمه، وإنما بعدد سنيه، كأنه مجبر على جرجرة هذا العدد معه أينما تحرّك، وهي مهمة هائلة تزداد هولاً مع الوقت إلى أن تنتهي بانهزام الانسان». وإذا كان بروست هو «الزمن المستعاد»، فإن بيكيت، كما يقول الروائي والناقد الفرنسي شارل دانزيغ، «هو الزمن المتوقّف». ويتابع دانزيغ في موسوعته «معجم أناني للأدب الفرنسي» متحدّثاً عن لغة بيكيت: «إنه يكتب بدون شحم، بل حتّى بدون لحم. لا شيء إلاّ العظم. يَبْرده، يُملّسه، ويتركه هنا، وحيداً، وسط العراء».
مختلف أنواع الضربات تنهال على الشخصيّات في عالم بيكيت. هذا بين ليلة وضحاها يصبح أخرس وذاك أعمى، هذا يموت وذاك يُحرم مسكّناته، هذا يُجرَّدُ من كل معتقداته وذاك يصاب بالعجز، هذه، رغم أنها مدمنة أمل، ينتهي بها الأمر مستغيثة «النجدة!»، وذاك، الذي كان محبوباً في صباه، يجد نفسه متروكاً لم يعد له من تعزية غير مومس عجوز. ومع هذا، فإن العري والفقر المروّعان اللذان يسفر عنهما عالم بيكيت لا ينفيان عكسهما: الانتظار والكتابة. الصعلوكان يثابران على انتظار مجيء لا يجيء، وأبطال روايات بيكيت، «مولوي» أو «موران» أو «مالون»، يكتبون، حتّى لو تدلّلوا على الكتابة.


■ ■ ■

يُخفّف بعض اليأسيّين اكفهرار جوّهم بالإيروتيكيّة، أمّا بيكيت فيكفيه الهزء. ويبالغ مَن يظنّ أن جميع سخريته فاحمة ومَوتيّة، فبعضها أقرب إلى الفكاهة المحرِّرة، تكاد تشبه سخريّة الإيرلندي الآخر برنارد شو، مثل قول بيكيت: «أنا لستُ انكليزيّاً. بالعكس». لكنّ هذا النوع من المداعبة ليس هو الطاغي في مؤلفات بيكيت، بل هو التمسخر الضاغط، الناكئ لجراح الذات، المبدّد لسحابة الأمل. إنها القسوة المجرّدة من العاطفة، قسوة تذكّر بحكم القانون اللاشخصي، قسوة تجعلنا نفضّل عليها قسوة القَدَر الحقيقي، غير المسرحي، لعلّ فيه رحمةً أكثر.


■ ■ ■

تعرّفتُ إلى يونيسكو لدى زيارة خاطفة قام بها إلى بيروت، وذلك بعدما ترجمتُ للمسرح اللبناني عام 1965 مسرحيّته «الملك يموت» (لعب دور الملك ببراعة لا تُنسى أنطوان كرباج وقام بالإخراج منير أبو دبس). وطبعاً لم أعرف بيكيت، ولكنْ صَدَف لي أن لمحته مرّة واحدة في باريس وهو يدخل إلى زقاق ضيّق. كان رأس يونيسكو ووجهه على بعض الشبه برأس هيتشكوك ووجهه، والأرجح في قصر القامة ذاته. أما بيكيت فقد تركتْ فيَّ لحظات مروره انطباعاً أنّه يقع في منزلة وسطى بين الكاهن البروتستانتي والقاتل المحترف المترهّب لمهنته. كان توجُّس الأطفال يَرْشَح من كلّ مسامّ يونيسكو وعيناه تقولان حبّه للحياة وذعره من كوابيسها. لم أرَ عيني بيكيت إلّا في صوره المنشورة، وقد أيقظتا فيَّ ذكريات قسوة لا ترحم.
إنْ هي إلاّ رغوة تأثيرات سطحيّة. وتسجيلها هنا لا غاية له أكثر من تلوين الكلام النظري.


■ ■ ■

رَبَطَ بعضهم بين مسرح بيكيت ومسرح جورج شحاده. صحيح أن لدى هذا وذاك بطلاً يَنْتظر، أو يبحث عن ضالّة غامضة، لكن الانتظار عند شحاده تَطَلُّع شعري حالم، وهو، على دراماتيكيّته، مفعم بالابتسام. يقع شحاده، قصائد ومسرحيات، «في شفافية مياه النهار» كما قال سان جون برس، ويقع بيكيت في البَرْد الشمالي والتخلّي، منهمكاً في جَلْد أبطاله وجمهوره.


■ ■ ■

يبقى صاحب غودو بطل التجديد الأقصى في تقنية المسرح. خَلَق من عدم مسرحاً يريد الوصول بجمهوره إلى رؤية العالم مجموعة سآماتٍ في صميم العدم. جرّد الوجود من حشوته ورسمه شبه صحراء معجزتها الكبرى أن تحمل شجرتها الوحيدة ثمراً ذات يوم. يونيسكو لم ينعتق كليّاً من التحنان، لم يتخلّص تماماً من «الضعف». بيكيت انتصب على تقاطع طرق العصر مارداً غير قابل للانحناء معلناً من جرود مسرحياته الصلعاء نهاية الكلام والحماسة والرجاء.
ومن فرط ما نجح في إيصال رسالته وتكرار إيصالها وتكرار التكرار أحسَّ بيكيت أنّه لم يعد لديه ما يضيف. ومع هذا صمّم أن يتحدّى نفسه فوضع كتاباً أو اثنين أخيرين قال مَن قرأهما إنهما لا يُقرآن. برهن بذلك، فوق براهينه وما أكثرها، أنه رجل بلاغ لا رجل تنويع أدبي. رجل تجربة وجوديّة واحدة محدّدة مهما تغيّرت أسماء أشخاصها لا رجل تجربة أدبية أو فنيّة متطوّرة متغيّرة وربّما متناقضة تتوالى فيها الشهادات المختلفة وتتنوّع المناخات. وهو في ذلك أشدّ صرامة من زميليه يونيسكو واداموف. لا أحد يستطيع أن يوجز شكسبير ببضعة عناوين، والجميع يعرف أن بيكيت مونولوغ يتابع نفسه. لم تعرف الأمانة الفكريّة، وربّما الأخلاقيّة، للذات، نموذجاً أشدّ التزاماً من هذا النموذج، ولم يبلغ الزهد اللفظي عند أحد ما بلغه في المساحات الضيّقة التي قلّص إليها بيكيت عالم الكلام.


■ ■ ■

هل يستحقّ الإنسان هذا القَدْر من التيئيس؟
في خطاب الشكر على منحه الأوسكار قال المخرج والممثّل أورسون ويلز: «أنا مجنون، ولكنْ لستُ مجنوناً ما يكفي لأكون حرّاً». والإنسان يولد محكوماً ولعلّه ليس محكوماً ما يكفي لكي يموت قبل أن يعيش. ونحن ممّن باتوا يعتقدون أكثر من أيّ يومٍ مضى أنْ ليس من مهمات الخَلْق أن يجفّف ينابيع الحماسة والأمل في قلب الإنسان. الواقع يتكفّل هذا الدور. وجانب الطفولة في الإنسان، وخصب هذه الطفولة الرائع الذي هو الخَلْق الأدبي والفنّي، هما المعجزة التي ينتظرها استراغون وفلاديمير. إنهما الشجرة المثمرة في الصحراء، هذه الشجرة التي تصنع بمجرد وجودها، ولو وحيدة، فردوساً مدهشاً حيث لم يكن سوى هلاك.
لم يُرِد بيكيت أن يرى في الحبّ غير صحراء تسودها الوحشة والمهاترة، وله ملء الحقّ في رؤيةٍ كهذه، والأرجح أن في الإمكان الزيادة عليه فيها، فلا ينقص أحداً حجج ضد الحبّ، الحبّ من الزاوية الاجتماعيّة الكريهة والداعية للرثاء. لكنّ الحبّ ليس وقفاً على هذه الخدعة المسكينة. الحبّ هو أيضاً بل هو بالأكثر الشوق الغامض المفتوح على اللانهائي، والرغبة الحرّة غير المحدودة بأشخاص وأسماء وطقوس وشرائع، الحبّ هو «الضعف» الذي لا تفوقه سلطة.
وهو الانتظار الذي لا يعرف الملل، ويكافئه شيء ما، دائماً شيء ما، حتّى لو كان هو الموت. فثمّة موت له طعم الفاكهة.
وهذه أبلغ رسائل بيكيت. فرغم التهكّم، لا يزال استراغون وفلاديمير ينتظران. والانتظار استحضار للمجهول. وهكذا، فإنّ ما حصل قد حصل، لكن جزأنا الأفضل سوف يظلّ موجوداً في ما لم يحصل بعد.

أنسي الحاج

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...