«عبر النهر وبين الأشجار» لهمنغواي: رواية الموت والقلق الوجوديّ

28-06-2011

«عبر النهر وبين الأشجار» لهمنغواي: رواية الموت والقلق الوجوديّ

«إنها الرواية الأكثر كآبة التي كتبت عن المدينة الأكثر كآبة. أنا، من الآن وصاعداً لن يمكنني ابداً ان ازور مدينة البندقية من دون ان اشعر بإيقاعات إرنست همنغواي تمسّني». كان هذا ما كتبه تنيسي ويليامز ذات يوم من بدايات العقد الخمسيني من القرن العشرين ما إن انتهى من قراءة رواية «عبر النهر وبين الأشجار» التي كان همنغواي أصدرها في ذلك الحين. والحال ان هذا الرأي السلبي في الرواية، والذي عبّر عنه ويليامز على تلك الشاكلة، أرنست همنغوايلم يكن متفرداً، ذلك ان قلة فقط من النقاد في ذلك الحين اعتبرت تلك الرواية عملاً أدبياً كبيراً يليق بمسيرة صاحب «لمن تقرع الأجراس؟» و «وداعاً للسلاح وثلوج كليمنجارو» وغيرها من روايات كانت جعلت همنغواي خلال العقود السابقة واحداً من أكثر الكتّاب الأميركيين شعبية في العالم. اذاً، عند صدور تلك الرواية الجديدة في ذلك الحين اجمع النقاد على موقف سلبي منها ربما يكون موقف تنيسي ويليامز اخفها وطأة. وهذا ما جعل همنغواي يرد بلؤم – معهود لديه في مثل تلك الحالات – قائلاً: «بالتأكيد يمكنهم ان يقولوا اي شيء يريدون حول واقع ان لا شيء يحدث في هذه الرواية سوى الدفاع عن بيافا السفلى والهجوم على النورماندي ورجل يحب فتاة ثم يموت». ومهما يكن من الأمر، نعرف ان حظ هذه الرواية من النقد الأكثر ايجابية، كان كبيراً بعد سنوات، حيث سرعان ما اتخذت مكانتها بين الكلاسيكيات، ناهيك بأن كثراً من النقاد والباحثين نظروا اليها كتعبير ما عن نظرة همنغواي الى سيرته الذاتية. صحيح ان مثل هذه النظرة كان معهوداً في أدب همنغواي ككلّ حيث ان هذا الكاتب المبدع - والنرجسيّ الى حدّ كبير – ما كتب في نهاية الأمر إلا عن ذاته. وفي احسن الأحوال، انطلاقاً من تلك الذات. ومع هذا رأى الباحثون انه هنا، في «عبر النهر وبين الأشجار» تصرّف كما لو انه يكتب مباشرة فصلاً من حياته تحت اقنعة شديدة الشفافية.

> كتب إرنست همنغواي هذه الرواية بين العامين 1949 و1950 (وكانت له حينها، تقريباً، سن بطل الرواية الكولونيل الأميركي كانتويل). علماً أن الشخصية الثانية في الرواية هي شخصية كونتيسة ايطالية شابة تدعى ريناتا لا تزيد سنها في مجرى أحداث الرواية عن الثماني عشرة سنة. وشخصية ريناتا هذه من المعروف ان همنغواي رسمها شبيهة الى حدّ التطابق مع شخصية صبية، ايطالية هي الأخرى، تعرّف اليها همنغواي قبل حين من كتابته الرواية وقيل دائماً انه قد ربطت بينهما علاقة عاطفية بدت اشبه بعلاقة ابوية. ومع هذا فإن الرواية ليست رواية عن الحب حتى وإن كان الحب يشكّل احد ثيماتها الأساس. هي، بالأحرى، رواية عن الموت. وتحديداً رواية عن موت الكولونيل كانتويل. فنحن ومنذ الفصل الأول للرواية وصفحاتها الأولى نجد انفسنا امام هذا الجندي الأميركي اللامع السابق وقد انزوى الآن بعدما أبلى في الحرب بلاء حسناً، انزوى في مدينة تريستا الأيطالية ينتظر موته الحتمي. فهو، الذي لم تقتله الحرب بمعاركها ومذابحها، مصاب الآن بأزمة قلبية من الواضح انه لن ينجو منها. ومن هنا فإنه في انتظار نهايته لا يفعل في المدينة الأيطالية الشمالية الغربية، سوى الجلوس متذكراً شبابه والحرب ولكن متذكراً ايضاً وعلى وجه الخصوص حكاية الغرام التي جمعته بابنة الثمانية عشر ربيعاً.

> غير ان حكاية الغرام هذه لم تدر في تريستا بل في البندقة على الجانب الآخر تماماً من الخريطة الأيطالية. والحال ان هذا التحديد الجغرافي وهذا الاختلاط في فصول الرواية التالية بين الحب والموت، كانا معاً ما جعل العدد الأكبر من نقاد الأدب يقارنون بين رواية همنغواي هذه ورواية زميله الكاتب الألماني توماس مان «الموت في البندقية». ويقيناً ان الذين رأوا هذا الرأي لم يكونوا مخطئين. إذ ان اية مقارنة بين العملين ستقول لنا على الفور ان همنغواي ما اقدم على كتابة روايته الا تأثراً بمقدرة زميله الألماني على كتابة صفحات رائعة - وبالغة الحزن - عن الموت في واحدة من اجمل مدن العالم، وتحديداً على خلفية الموت بالتوازي مع اندلاع العناصر المؤسسة لحكاية حب رائع واستثنائي. ونقول هذا طبعاً من دون ان ننسى فوارق اساسية تجعل لعمل همنغواي خصوصياته حتى وإن ربط بعمل مان. فالبطل لدى هذا الأخير كاتب اما لدى همنغواي فهو ضابط في الجيش. وموضوع الوله والحب لدى مان صبيّ يرمز بالنسبة الى الكاتب - وهو يعيش لحظاته الأخيرة - الى المثال الأعلى الجمالي بينما هو لدى همنغواي صبية ترمز الى حلم الأنوثة والشباب. ثم ان المدينة (البندقية) التي لا تلعب لدى همنغواي سوى دور مكاني الى حد كبير، تلعب في رواية توماس مان دوراً اساسياً، إذ تصبح رمزاً للموت والخراب بعد ان يتفشّى فيها الوباء الذي يقضي على البطل بين آخرين في مقابل الأزمة القلبية التي هي ما يقضي على البطل فيعبر النهر وبين الأشجار. والحقيقة ان هذه الفوارق وكثيراً غيرها تجعل المسافة بين الروايتين اطول مما اكد الكثير من النقاد اول الأمر، انما من دون ان تنفي ان رغبة همنغواي في كتابة روايته انما نبعت من قراءته نصّ توماس مان. أو لنقل بالأحرى انها نبعت من اختلاطه – عائلياً على الأقل – بالحسناء الشابة ادريانا حين كان وزوجته الرابعة يقومان بسياحة في جبال البييمونتي الأيطالية الشمالية في العام 1949.

> غير ان همنغواي الذي استغرقه انجاز هذا العمل قرابة السنتين لم يتمّ الكتابة في بلد واحد بل انه وزّع العمل عليها خلال العامين، على ما لا يقلّ عن مدن ثلاث هي تريستا نفسها وباريس وكوبا. وعلى اي حال كانت تلك الحقبة حقبة قحط وتساؤلات وقلق في حياة هذا الكاتب. وكان يخيّل الى كثر من متابعي عمله ومساره الكتابي انه لم تعد لديه اشياء كثيرة يقولها بعدما بدا ان رواياته الكبرى صارت وراءه، وانه كان أفرغ في تلك الروايات جملة تجاربه الحياتية والفكرية واسئلة قلقه. غير ان صدور «عبر النهر وبين الأشجار» حتى وإن لم تكن له على الفور فاعلية نسف ذلك الاعتقاد، فإنه وبالتدريج ومع النجاح النقدي البطيء ثم الجماهيري للرواية، اكّد ان الكاتب في إرنست همنغواي لم ينته بعد. بل بالأحرى اذا كانت مخيلة هذا الكاتب قد بدت لحين قاصرة عن ابتكار المواقف ورسم الشخصيات وتصوير العلاقات (وهو ما كان ميّز روائعه السابقة) فإن قدرته على التحليل والتأمل كانت لا تزال في ذروتها. ومن هنا سيكون لافتاً، في زمن راحت فيه الفلسفة الوجودية تثبت حضورها في الحياة الثقافية العالمية، وفي وقت كانت قد بدأت بالظهور اعمال ادبية ومسرحية وحتى سينمائية تغوص في دواخل البشر مظهرة ضروب قلقهم واسئلتهم بعد الكوارث البشرية واستشراء الأنظمة الاستبدادية وبحث العالم عن آفاق جديدة لمصائره بعدما خرج لتوه من أتون الحرب العالمية الثانية، سيكون لافتاً ان يكتب همنغواي ذلك العمل الذي سيكون الأكثر جوّانية بين أعماله حتى ذلك الحين. حيث سيلاحظ النقاد - ولاحقاً كما دأبهم في معظم الأحيان – ان الرجوع الزمني الذي يشكل السياق الفعلي للرواية ويقود البطل القابع محتضراً في تريستا، الى تذكّر الماضي في البندقية، ليس في حقيقة أمره سوى أداة استخدمها الكاتب لقول علاقته الشخصية بالموت والمصير والحب المستحيل.

> وهنا قد يكون مفيداً ان نذكر ان هذه الرواية كانت ما قبل الأخيرة بين الأعمال الروائية التي أنجزها إرنست همنغواي في حياته ونشرها. اما التي ستكون الأخيرة بالفعل في هذا السياق فهي العجوز والبحر التي لا تقلّ وجودية وتعبيراً عن القلق الإنساني وأسئلة الموت والشيخوخة عن «عبر النهر وبين الأشجار». ولنلاحظ هنا ان همنغواي نال جائزة نوبل للآداب مباشرة بعد ظهور هاتين الروايتين أي في العام 1954، قبل موته انتحاراً بطلقة بندقية بأعوام قليلة. وهذا الواقع سيجعل كثراً من الباحثين يرون في هاتين الروايتين - لا سيما في الرواية التي نحن في صددها هنا - مؤشراً على النهاية التي سيصنعها إرنست همنغواي لحياته. وهي بالتأكيد ما كان يمكن ان تلوح في ثنايا أعماله السابقة حين كان لا يزال مناضلاً شرساً يخوض الحروب ويتجول بين البلدان ويكتب للصحافة ثم يجلس بين الحين والآخر ليكتب روايات تنضح بالحياة والحيوية. وبالتحديد حيوية الصياد الذي كانه همنغواي وفي كلّ المعاني.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...