غسان الرفاعي: ((التمغرب)) والانشطار

02-08-2010

غسان الرفاعي: ((التمغرب)) والانشطار

-1-الطبيب الذي يعالجني في مستشفى بومبيدو يساري تقدمي، ومولع بالحوارات السياسية، وقد ابتهج حينما علم بأنني أعمل في الصحافة، وأكتب بانتظام،. بادرني بطرح عدد من الأسئلة حول أوضاع الشرق الأوسط، في ضوء استمرار إسرائيل في رفض السلام العادل والشامل، ثم حدثني عن مقال مثير في أسبوعية، ((لوبوان)) نشر هذا الأسبوع، تحت عنوان ((التمغرب في العالم)) بقلم الكاتب اليميني (جاك اتالي)، الذي لا يتوقف عن إبداء آرائه في قضايا الساعة، والإفراط في نشاطاته السياسية والاجتماعية، وطلب مني أن أبدي رأيي في طروحات (جاك اتالي) التي يتبناها عدد من المثقفين في فرنسا وأوروبا والولايات المتحدة. ‏

يستهل (جاك اتالي) مقاله: تشكو فرنسا، كما يشكو الغرب كله في أيام الصيف الحالية، من استفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وقد يكون من الضروري طرح أسئلة جادة عن الطريق الذي يجب أن نسلكه لتجاوز الأزمة، هل ينبغي أن نتابع مسلكنا وكأن شيئاً لم يكن: وأن نستمر في ممارسة ما تعودنا على ممارسته، أم ينبغي أن نبدل هذا السلوك جذرياً، كيما نكون أقدر على مجابهة المستقبل؟هل نحافظ على قيمنا، أم نفتش عن قيم أخرى، مستلهمة من حضارات أخرى أهملنا دراستها. ‏

ويرى(اتالي) أن العالم ينظر إلى الغرب كما ينظر الأطفال إلى آبائهم وهم يشيخون، ويترهلون، أو كما ينظر السجناء إلى جلاديهم وهم يتداعون ويفقدون قدرتهم على البطش، واللافت أن الآخرين بدؤوا يتباهون ويفاخرون بحضاراتهم وقيمهم، و يسخرون من انحسار الهيمنة الغربية: الصينيون يتحدثون عن حكمة (كونفوشيوس) والهنود يكثرون الحديث عن ((غاندي)، والأفارقة ينبشون في تاريخهم ويعلنون سيادة قيمهم، والعرب يتعصبون لتراثهم العربي الإسلامي، والكل يكثر من الحديث عن النموذج الحضاري الذي ينتمي إليه باعتزاز، وينتقد النموذج الغربي الذي فقد سحره، ولم يعد قادراً على التأثير والهيمنة. ‏

ويبادر (اتالي) إلى الادعاء بأن الواقع يثبت العكس، إذ إن أكثرية الناس في العالم مازالوا يتشبثون بالقيم الغربية، ويسعون إلى تبني هذه القيم، والى الاقتداء بالنموذج الغربي، على الرغم من سحبه من التداول كما يزعم. إن ما يحدث اليوم هو انتصار للغرب شئنا أم لم نشأ، من ينكر أن كل الحركات الثورية في العالم تستلهم النموذج الغربي: الحرية الفردية،الدفاع عن حقوق الإنسان، اقتصاد السوق، الملكية الفردية، الديمقراطية والانتخابات، من ينكر أن كل الناس اليوم يطالبون باقتناء السلع الاستهلاكية الغربية مثل السيارة والطائرة، التلفزيون، والبراد،والغسالة؟ وينتهي (اتالي) إلى الإقرار بأن الغرب لم يعلن إفلاسه، بل إنه أصبح الحلم الوردي للناس جميعاً، وان قيمه مازالت سائدة شعورياً أو لاشعورياً... ‏

-2- ‏

قد يكون من المفيد أن نؤكد أن هناك ثنائية فاضحة في القرن الحادي والعشرين هي المجابهة بين (تكاملية) العالم من جهة و(انشطاره) من جهة أخرى إذ مادام من المستطاع قصف أية مدينة في العالم من قاعدة عسكرية نائية، ومادام أي ((ارتجاج)) في بورصة لندن أو نيويورك وباريس قد يؤدي إلى إفلاس مؤسسات إقليمية مزدهرة، وتسريح عشرات الألوف من العاملين فيها، ومادامت شاشات التلفزيون قادرة على أن تنقل (غثاثات وابتذالات) مافيات الإعلام إلى كل القارات، وطالما يتعذر تسوية أية قضية، بشكل منعزل، أو مستقل، دون تدخل إقليمي، أو دولي، فانه لابد من الاعتراف بأن هذه التكاملية ، أو على الأصح هذه ((العولمة)) قد استقرت في كل الضمائر كواقع لايمكن تجاوزه ولكن في مقابل هذه العولمة هناك انشطار فاقع يقوم على الاقرار بأن 20% من سكان الأرض يحتكرون 80% من ثروات العالم، وان ازدهار قلة متخمة في الغرب يكلف العالم ((هيروشيما جيدة)) كل يومين، كما يقول (روجيه غارودي). ‏

وينعكس هذا الإنشطار على المفردات المتداولة في أدبياتنا: إننا نسمي (تقدماً التخريب المنهجي للإنسان والطبيعة، ونسمي حرية النظام القائم على حرية السوق التي تسمح للأقوياء أن يفرضوا منهجهم على الضعفاء، ونسمي (العولمة) لا الحركة التي تتخذ من حوار الحضارات مدخلاً إلى تحقيق الوحدة السمفونية للعالم، وإنما على العكس المؤامرة الخبيثة التي تسعى إلى تقسيم العالم إلى شمال متخم وجنوب مملق، ونسمي (تنمية) نظاماً في الإنتاج يعطي الصدارة لإنتاج غير مفيد، بل ومؤذ، بل وقاتل، مثل إنتاج الأسلحة الفتاكة، والمخدرات والمواد السامة. ‏

-3- ‏

أهم تطور شهد هذا القرن تجاوز الخطوط الحمراء، وقبول الانتهاكات السياسية والأخلاقية على أنها أمور طبيعية، أو على الأصح، تحويل المحرمات إلى قوانين معترف بها، أو إلى حقوق مشروعة، يتساءل (جاك جوليار) الذي ما زال يعتنق اليسارية: (هل نحن بصدد تبرير القتل وانتهاك كرامة الإنسان وإحلال النظام الجنائي مكان النظام الأخلاقي)، هناك حدود حمراء لا يجوز تجاوزها في كل الحضارات، بل إنها موجودة حتى في شريعة حمورابي 1700 سنة قبل المسيح، ولكن ما يجري اليوم هو انتهاك لهذه الحدود وتبرير لهذا الانتهاك بحجج لم تخطر على بال أعتى البرابرة في التاريخ، ومن المؤكد أن المجتمعات التي تقبل، بل تبارك هذه الانتهاكات والتجاوزات تصبح مجتمعات قمعية، تقبل الاستبداد، لأنها تمارس الاستبداد ضد غيرها، وإلا فما هو تبرير تدمير المنازل على رؤوس أصحابها، وحرق المزروعات، وممارسة القتل بإيعاز من أكبر مسؤول في الدولة؟ ما تبرير حرمان المعتقل الذي لم تثبت إدانته بعد من حقه كإنسان، ومعاملته معاملة الحيوان الكاسر، ووضع التشريعات والقوانين لإضفاء الشرعية على مثل هذه التجاوزات، وكأن المحرمات أصبحت جزءاً من العقائد. ‏

-4- ‏

لقد سقط مفهوم (القرية الكونية) وليس صحيحاً أننا نتقاسم كل شيء، وأن مفاهيمنا قد تتلاقى، والأصح أن هناك خندقين يتمترس وراءهما صنفان من البشر يفترقان في كل شيء، إن شاشة التلفزيون التي تنقل كل ما يجري في كل مكان تعمق الخلاف، وتظهر لنا بأن الآخر قد يكون بغيضاً ومخيفاً، وأنه لا يمكن التواصل معه. كيف تريد من الفلسطيني الذي يشاهد التنكيل الذي يعامل به أطفاله وأقرانه أن يقتسم ذات المشاعر مع الإسرائيلي الذي يتلذذ برؤية هذه المشاهد. ‏

هناك ثلاث كوارث تهدد العالم اليوم، الجوع, البطالة, الهجرة, ولهذا سبب لا يحلو للكثير الاعتراف به: إن المسافة بين عالم التخمة, وعالم الاملاق تتسع باستمرار, وفي خلال الثلاثين سنة الأخيرة قفزت هذه المسافة من 30 إلى 150 ضعفاً, وثبت أن خمس العالم من المترفين الجشعين يستثمرون أربعة أخماس العالم المتبقي, وإن هناك ما لا يقل عن مئتي مليون عاطل عن العمل, يعيشون حياة لا تليق بالحيوانات على أرض جدباء, هاجس النمو السريع القائم على طوفان الإنتاج, وسرعة تصنيعه هو الذي يتحكم بأباطرة الاستفراد الغربي, ولا يعنيهم في شيء نوع الإنتاج, وقد يكون الإنتاج المؤذي بل والقاتل/ كإنتاج الأسلحة الفتاكة/ مرغوباً فيه أكثر من الإنتاج الضروري, ومن هذا المنظور ينحصر الإنسان بين الإنتاج الكثيف والاستهلاك السريع, وقد يتعذر عليه الخروج من هذه الحلقة المفرغة المزورة. ‏

-5- ‏

ولكن هناك حركة رفض عالمية, تقف بشجاعة في وجه (العولمة الغربية) وتعقد المؤتمرات الصاخبة في عواصم العالم للتنديد بالطغيان الذي يقوده أشرار يرتدون مسوح الرهبان, وهذه الحركة المتفلوذة لا تدعو إلى الاستيلاء على السلطة, ولا إلى اسقاط الأنظمة القائمة, وإنما تسعى إلى إحداث التغيير بالطرق السلمية وتنادي بالعصيان المدني, وتفاخر بما قاله (ماركوس) من أميركا اللاتينية حينما بدأ تمرده: ‏

(ما الذي ينبغي أن نعتذر عنه؟ أنعتذر لأننا لم نمت جوعا؟ لأننا لا نكتم شقاءنا وعذابنا؟ لأننا لم نتحمل بتواضع وصبر الاحتقار والإذلال والقمع؟ لأننا حملنا السلاح بعد أن فشلت كل وسائل الإقناع الأخرى؟ لأننا أردنا أن نثبت للعالم بأسره أن الكرامة الإنسانية مازالت تغلي في القلوب؟ من الذي ينبغي أن يعتذر ممن؟ هؤلاء الذين صبروا لسنوات, ورفضوا الموت الذي يدق أبوابهم كل يوم, أم الذين يمارسون القتل والقمع والنهب والاغتصاب؟ هل نعتذر لأننا لم نعد نخاف, ولم نعد نتحمل, وقررنا أن نصرخ بشجاعة: (كفى , كفى). ‏

-6- ‏

على أن (العورة) الأخلاقية الكبرى التي تشكو منها المجتمعات المتقدمة والمتخلفة على حد سواء هي انتشار الفساد, ومما يدعو إلى الدهشة أن أحد غلاة الكتاب المجندين لخدمة أباطرة المال والفساد يفاخر بأن جماهير الناس, في كل مكان, يعيدون انتخاب السياسيين المتهمين بالفساد, دون احتساب للأذى الذي يمكن أن يلحقوه بالمجتمع. وإذا كان القضاة قساة على الفاسدين فإن الأوساط الشعبية اميل إلى التساهل معهم, بل لعلها تنظر إليهم بإعجاب, إن لم يكن باكبار. ‏

-7- ‏

المتنفذون في المجتمع يجمعون بين الاستنكار المخملي الهش للفساد والتسامح المتعالي, وحجة هذه الفئة أن الفساد هو سلوك إنساني طبيعي, وقد عرفته المجتمعات منذ أقدم العصور, ولولا الحملات الإعلامية التي تشن على الفاسدين لاغتفر الناس لهم سلوكهم, وقد لا يكون من الحكمة رفض الرشوات على اعتبار أن الرشوة هي للمنصب لا للشخص. ولعل موقف عدم الاكتراث, وقبول الظاهرة على أنها سلوك شائع, ولا علاقة لها بحياة الناس, لا في قليل, ولا في كثير, هو الموقف الأكثر انتشاراً, ثم ما الأذى من اعتناء بعض الناس بطريقة شرعية أو لا شرعية مادام الربح مطلباً شعبياً. ‏

-8- ‏

بعد أن بدأ فكر المكابرة والغطرسة يتمخطر في عواصم العالم, بما يحمله من تعال وعنصرية, وشراسة وجنون, نجد لزاما علينا أن نرسم خارطة جديدة تحدد مواقع الصديق والعدو, وتجدد المخزون الفكري والاجتماعي بهدف متابعة المقاومة, إن ادعاء (جاك أتالي) بأن (التمغرب) يهيمن على العالم اليوم وإن بقية الحضارات قد ثبت إفلاسها, دليل على عنصرية غير مقبولة, وقد لا يجوز الاعتراف بمشروعيته, ومن الضروري أن ينتهي هذا الاحتكار للمبادرة الحضارية, والعمل على حوار الحضارات بتسامح وعقلانية. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...