يوسف سامي اليوسف.. أستاذ إلى الأخير

04-05-2013

يوسف سامي اليوسف.. أستاذ إلى الأخير

يبدو أنه كان لا بد للدائرة من أن تكتمل حتى يطمئن يوسف سامي اليوسف إلى أنه أنجز كل ما يمكن فعله على هذه الأرض، فحياته التي بدأت بالنزوح الكبير العام 1948 قيض لها أن تختتم على نحو ليس أقل فظاعة، بعد أن غادر منزله في شارع الجاعونة في مخيم اليرموك، في رحلة نزوح ليست في الحسبان، كأنها تماماً الاتجاه المعاكس لنزوحه الأول.
ترك اليوسف قريته لوبية (طبريا) العام 1948 صبياً ابن اثنتي عشرة سنة، متجهاً شمالاً إلى لبنان، حيث استقرّ لسنوات في مخيم الجليل (بعلبك)، أو «ويفل» كما كان يسميه عادة في أحاديثه، وهو الثكنة الفرنسية التي أعطيت للفلسطينيين لتكون مخيمهم. ثم يغادر من جديد إلى سوريا العام 1956، ويستأنف دراسته للأدب الانكليزي في جامعة دمشق العام 1960.يوسف سامي اليوسف.
تشاء الأقدار أن يتوفى والده وهو لما يزل صغيراً، فتضطره الأيام والنزوح والعيش في المخيمات لأن يكبر قبل الأوان، ليكون سنداً للعائلة، ليكون بمقام الأب. لعل ذلك ما ربّى فيه ان يكون عصامياً أبداً، فلعله مثل فلسطينيين قلائل لم ينتم إلى دكاكين الفصائل والمنظمات الفلسطينية. لذلك لن نجد اليوم فصيلاًً ينعاه، كما لم نجد من قبل من يطبل ويزمّر لهذا الناقد والمبدع الفلسطيني، المعروف بأحكامه الصارمة حول الأدب العالمي، الرواية خصوصاً، قبل العربي والفلسطيني. ومن لا يعرف اليوسف ناقداً وكاتباً مرموقاً لا شك في أنه يعرف ذلك الأستاذ طويل القامة، الذي أكمل من عمره خمسة وسبعين عاماً من دون أن ينحني له ظهر.
يبدو أن الأستاذ كان يصرّ على الكمال، إن لم نقل صار مريضاً به، لذلك فإن محاكماته للرواية العالمية خصوصاً، على الأقل كما في كتابه «مقال في الرواية»، جاءت محاكمات أخلاقية أكثر منها أدبية، رغم مقدرته الفائقة على أن يكون ناقداً أدبياً وحسب، محاكمات تنظر إلى الأثر الذي يمكن أن تتركه الرواية في الناس قبل أي شيء آخر. لذلك يمكن أن نعثر في كتابه المشار إليه على كلمات من قبيل «الروح النبيل» عددا لا يحصى من المرات. لكن، لا شك، تحسب لليوسف ثقافة موسوعية وجهد نقدي رائع، مع عدد غير قليل من الكتب مثل «مقالات في الشعر الجاهلي» (1975)، «الشعر العربي المعاصر» (1978) ، «القيمة والمعيار» (2000)، «غسان كنفاني: رعشة المأساة» (1999)، ولعل الأخير واحد من أكمل وأنضج الكتب التي تصدت لأدب الكاتب الراحل غسان كنفاني. أما آخر كتب اليوسف فهو «تلك الأيام» بأجزائه الأربعة، وهو سيرة ذاتية، تتوخى أيضاً أن تكون ذاكرة وطن. هذا بالإضافة إلى كتاب حمل عنوان «رسالة إلى سيدة» الذي يقول ناشره إنه «كتاب شفاف يعلن انتماءه للمرأة، لا لامرأة بعينها». كما يقول الناشر إن الكتاب وصل إلى يدي الكاتب مطبوعاً قبل أيام فقط من رحيله.
لا أنسى زياراتي القليلة إلى منزل الراحل اليوسف. واحدة كانت إلى منزله في شارع الجاعونة قبيل نزوحه عنه بوقت قصير، ولا أدري أي مصادفة في أن تنهال القذائف الأولى على ذلك الشارع بالذات. صرت حين أسمع أن قذيفة وقعت على «الجاعونة» أقول «الله يستر أبو الوليد»، إلى أن هاتفني من صحنايا (جنوب دمشق) بداية نزوحه الجديد، وحين زرته هناك في أيلول الماضي، قال لي: «تركت البيت إثر قذيفة أصابت بيتاً لصق بيتي. مع ذلك غداً راجع عالمخيم». قلت: «الوضع لا يزال صعباً يا أبو الوليد». قال: «خيو قاعد هون مع أحفادي الأطفال الأربعة، والله صرعوني. راجع عالمخيم عالقصف والموت يمكن أهون».
لكن اليوسف لم يتمكن من المكوث أكثر، غادر سوريا إلى حيث جاء أصلاً، إلى لبنان، ليسلم الروح بعد أشهر قليلة في مخيم نهر البارد. عسى تلك الروح تجد طريقاً ما... إلى لوبية!

راشد عيسى- السفير


يوسف سامي اليوسف: «رعشة» الغياب
أحياناً يصعب تحديد نوع الخسارة وحجمها في رحيل بعض الأسماء. هذا ما نحسّه بوفاة الناقد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف (1938 ــ 2013) الذي يمكن وصف جهده النقدي بالهامشي قياساً على عمقه وخصوصيته وأصالته. اشتغل صاحب «مقالات في الشعر الجاهلي» على ربط النصوص والظواهر الأدبية بما تقترحه من مراكمات خصبة على تاريخ الأدب، كما أن انشغاله المبكر بالشعر العربي القديم صنع له صلة متينة بأسلافه القدامى، فبدا كمن يستأنف الروحية التي نظر بها هؤلاء إلى العملية الأدبية كلها.

هكذا، كان في استطاعتنا أن نلمس تلك الروابط الخفية التي تجمع حساسيته مع منجزات الآمدي والجرجاني وابن رشيق وغيرهم ممن رفعوا من شأن «المزاج» الشخصي و«التذوق» الذاتي في قراءة النصوص، ورأوا أن «النص العظيم هو ذاك الذي يتناسب مع أمزجة متباينة، ويصلح للقراءة في أماكن كثيرة وأزمانٍ طويلة».
حصر اليوسف تأثير الشعر بالمستوى النفسي تقريباً، ومنح الناقد أحقية البحث عن «الإجماع» وعن «حكم القيمة». صحيح أنه أفسح المجال قليلاً لتسرّب تشكيكات ضرورية إلى أحكامه الخاصة أيضاً، ولكن نبرته ظلت ذات نسيج متفرد، وهي صفة تعززت أكثر مع ميله إلى ازدراء معظم التجارب النقدية العربية في زمنه، وانتقاد الخفة السائدة في مناهج الجامعات العربية وثقافة الصحافة اليومية. في المقابل، قدّر الراحل المنجز الشعري العربي، واستهزأ بالرواية التي لا تزال بعيدة عن منجزها الأوروبي. بطريقة ما، عاش صاحب «بحوث في المعلقات» داخل زمنه، وعلى حواف هذا الزمن أيضاً. ولعل غيابه اليوم يذكّرنا بتجاهل الحياة الثقافية للناقد الذي قابل ذلك بتجاهل مماثل، بينما راح يواصل كتاباته التي يمكن اعتبارها «أدباً مكتوباً عن أدب»، وليس مجرد متابعات ومشاغل نقدية تحدث على هامش النصوص. لن ينسى من قرأوه مبكراً تلك اللغة العميقة والجذابة في الوقت نفسه، وتلك الأطروحات التي كانت تبدو من اختراع الخاص، ومنها نظريته حول الشعراء العذريين في كتابه «الغزل العذري»، ومحاولته الفذة في إيجاد «تعريفٍ» لـ«الشعر العظيم»، وصياغته لتنظيرات مختلفة حول الصوفية في دراستيه المميزتين عن النفري وابن الفارض، وترجمته اللافتة لـ«مختارت من شعر إليوت»، إلى جانب اشتغاله الموسوعي والمنهجي على مفاهيم ومصطلحات كبرى، وهو ما ظهر في كتبٍه كـ«رعشة المأساة» و«القيمة والمعيار».
الناقد الذي صرف جلّ حياته في قراءة الآخرين، وجد وقتاً لكتابة أشياء تخصه أكثر، ومنها مذكراته التي صدرت بعنوان «تلك الأيام»، وروى فيها تجربة الاقتلاع التي عاشها كفلسطيني منذ النكبة التي هجّرته إلى مخيم «نهر البارد» في لبنان، ومنها إلى مخيم «اليرموك» في دمشق التي نزح منها أخيراً بسبب الوضع المتفجر في سوريا، ليموت في المخيم الذي شهد لجوءه الأول. هكذا، رحل اليوسف «مغترباً»، وهي الصفة التي كان يستحسنها في المبدعين والنقاد: أن يكونوا مغتربين عن أزمنتهم ومجتمعاتهم.


حسين بن حمزة - الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...