وزر النجاح الشخصي وانهيار تقاليد المؤسسة!

22-07-2009

وزر النجاح الشخصي وانهيار تقاليد المؤسسة!

أثار اهتمامي الحوار الذي أجراه برنامج (علامة فارقة) على الفضائية السورية مع المذيع والإعلامي اللامع مروان صواف لأكثر من سبب... أولها أن مروان صواف يمثل نموذجاً إعلامياً مثيراً للاحترام مهما اختلفت مع بعض تفاصيل عمله، وثانيها أن هذا الإعلامي المخضرم الذي يقترب من إتمام العقد السادس من عمره، هو جزء من ذاكرة التلفزيون السوري، حين كان في هذا التلفزيون بارقة أمل لصنع شيء ما، واحتضان مواهب وإنضاج خبرات بطريقة ما... وبالتالي فمحاورته يمكن أن تقدم للمشاهد وللمهتم على حد سواء أفكاراً وإشارات حول واقع الإعلام التلفزيوني الذي يحب... وثالثها: أن مروان صواف غائب منذ سنوات عن وطنه سورية وعن العمل في إعلام بلده، حيث يعمل معداً ومقدماً لبرنامج أسبوعي متميز في تلفزيون (الشارقة) وبالتالي فإطلالته عبر شاشة بلده يمكن أن تشكل حلقة تواصل مع جمهور طالما افتقده في الليالي الظلماء!
لهذه الأسباب وغيرها تابعت (علامة فارقة) الذي تتفاوت سوية حلقاته تبعاً لسوية ضيوفه، ولمدى إمساك معد ومقدم البرنامج الزميل إبراهيم الجبين بملف ضيفه بكل ما يمثله من تقاطعات شخصية وإشكالات عامة، وبكل ما يتشابك هذا مع الأفق الرقابي المحدود للتلفزيون السوري، الذي لم تزل فضيحة إيقاف بعض العاملين في برنامج (معكم) لأنهم حاولوا تغطية أحداث الرحيبة الأخيرة تتفاعل لتفضح أكاذيب الانفتاح والتطوير والاقتراب من هموم الناس.
حاول برنامج (علامة فارقة) أن يلم بتجربة ضيفه... وأن يستعيد صورة مروان صواف في أذهان السوريين، تلك الصورة المرتبطة بنجومية مذيع مثقف استطاع بدأبه واجتهاده واحترامه لمهنته أن يصل إلى الناس، وأن يترك من خلال برامجه الفنية والمنوعة التي كان يتقدم فيها على أترابه ومجايليه الكثير من الذكريات الجميلة المرتبطة اليوم بما يمكن أن نعتبره (ماضي التلفزيون السوري)... لكن البرنامج لم يكن معنياً بالتركيز على تجربة ضيفه لوحدها، ولم يقدم قراءة منهجية فيها، (انطلاقته من الصحافة المكتوبة- تجربته كمراسل حربي أثناء حرب تشرين- آلية عمله كمقدم ومعد برامج- تجربته في نشرة الأخبار- تجربته مع القطاع الخاص العربي في زمن ما قبل الفضائيات... إلخ) بل غلّب الزميل إبراهيم الجبين انطباعاته الشخصية حول ضيفه في أحيان كثيرة، في محاولة للاقتراب من النقاط الإشكالية في شخصية ضيفه. فتحدث مثلاً عن تهمة (الدبلوماسية) التي يتهم بها... وقد أثبت صواف أنه لم يكن دبلوماسياً في هذا الحوار وإنما كان على قدر شديد من الدقة في طرح أفكاره، والتهذيب في إيراد انتقاداته وملاحظاته... فتحدث مثلاً عن واقع التلفزيون السوري الذي دفعه إلى الهجرة من جديد للعمل في محطة الشارقة قبل سنوات قليلة... وأشار بوضوح إلى أن طلب الموافقة على السفر قوبل من الجهات المعنية حينذاك بتسهيلات صامتة، وأنه كان يتوقع على الأقل أن يلقى بعض الثناء على عمله قبل السفر... ناهيك بالطبع عما يمكن أن يتوقعه المرء وهذا الكلام ليس لصواف- من محاولات التمسك به ككفاءة مهنية وطنية في مؤسسة جهدت إداراتها المتعاقبة في السنوات الأخيرة على التخلص من الخبرات بلا أي إحساس أو ضمير.
والواقع أن المحاور كان حائراً بين رغبته في إجراء حوار جريء، وبين نكوصه دائماً إلى التزلف ومحاولة تبييض صورة الإعلام السوري الرسمي بشكل فج، وخصوصاً حين قال لضيفه بأنه (موظف هنا ويبني على أرض الآخرين) في إشارة لعمله في الخليج... وهو تعبير يتناقض مع معرفة الظروف التي دفعت مروان صواف للهجرة التي لم يقف في وجهها أحد كما أشار إليها البرنامج نفسه (!!!) وجوهر التناقض الآخر في إيراد هذه المسألة هو أن ضيفه لو عاد للعمل في التلفزيون السوري اليوم، فإنه سيواجه بقرار السيد وزير الإعلام بعدم التعامل مع الإعلاميين الذين بلغوا سن التقاعد حتى على صعيد التعاون على الفاتورة، وهو القرار الذي حاول السيد الجبين الدفاع عنه بطريقة غريبة فعلاً... والواقع إن الإشارة التي أوردها البرنامج إلى أن هناك مشروع تعاون مرتقب بين الزميل صواف والتلفزيون السوري، إشارة تتناقض مع فحوى قرار وزير الإعلام الذي شدد على أنه يريد الاستغناء عن جميع من بلغوا سن التقاعد وحتى من سقط اسمه سهواً من القرار... وهو ما يفتح الباب أمام استثناءات شخصية مزاجية يتحكم بها المدراء، ويمنحونها ويحجبونها على هواهم!
كذلك حاول المحاور اتهام الزميل صواف بأنه لم يترك أثراً مهنياً على الآخرين لأنه كان يتعامل مثل (تجار البزورية) - وهو تعبير لم يكن موفقاً- لكن واقع الحال أنه إذا كان هذا الاتهام صحيحاً فهو يوجه للمؤسسة وللطريقة التي كان يدار بها التلفزيون السوري ولا زال... فمروان صواف كان مشغولاً على الدوام بصناعة برامجه بنفسه... وكان يحارب من أجل تحسين ظروف عمله وصورة برامجه دون أن يتلقى أي دعم خاص من الإدارات التي أعرف شخصياً أن بعضها كان يمتعض من ظهوره ويغار من نجوميته. وحين كان يقدم برنامجه الأخير في الفضائية السورية (إذا غنى القمر) لم يكن يملك غرفة أو مكتباً خاصاً به، وكل ما كان يملكه خزانة خاصة لوضع الأشرطة... ولهذا فالاستفادة بنقل تجربته للآخرين كانت يجب أن تكون هاجساً لدى الإدارات المتعاقبة، وعلى حد علمي لم تدعه أي إدارة حتى لحوار مفتوح مع زملائه المعدين الشباب أو ورشة عمل مفتوحة يتناقش فيها مع الآخرين في قضايا الإعداد والتقديم البرامجي... فماذا يمكن أن يصنع الرجل غير أن يكون مخلصاً لبرامجه ومهنته على الصعيد الشخصي.
لقد صور (علامة فارقة) الزميل صواف في مكتبة الأشرطة في التلفزيون السوري، وهو يعبر عن أسفه المهذب من مسح حلقات برامجه الأخيرة، وقال بموضوعية من الصعب على التلفزيون أن يحفظ حلقات أي برنامج أسبوعي كاملاً لكن على الأقل يمكن أن يحتفظوا ببعض الحلقات المميزة... فإذا كانت برامجه تمسح فكيف سينقل تجربته إلى الآخرين... وأين هي قيم ترسيخ الاجتهاد الشخصي واحترام محاولات التثقيف الذاتي والتلفزيون السوري اليوم ليس به مكتبة أو مركز أبحاث يمكن أن يعين أي طالب لمعلومة أو مصدر أن يجد ما يثري بحثه... مع العلم أنه في الستينيات كانت هناك مكتبة هامة في التلفزيون السوري ومركز للاستماع الموسيقي!!!
والآن.. حين يقول الزميل إبراهيم الجبين في تعليق صوتي: (من قال إن هذا المبنى الأزرق يستحق توجيه اللوم على الدوام) فإنني سأشعر بكثير من الحماس الانفعالي الذي ينافي الروح النقدية التي بدأ بها (علامة فارقة) فكل ما يحدث في التلفزيون السوري اليوم يستحق ليس توجيه اللوم بل الألم والحزن والغضب... بدءا من المبنى الحجري الأنيق الذي صار (أزرق) في عملية تشويه وعبث مزريتين... وانتهاء بتقاليد العمل البالية وسيادة المحسوبيات وتطفيش المواهب... ثم العودة إلى التباهي بها وتبني إنجازاتها حين تشق طريقها الصعبة خارج الوطن!

محمد منصور

المصدر: القدس العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...