مونودراما «المفتش الكبير» لبيتر بروك في دمشق

25-06-2008

مونودراما «المفتش الكبير» لبيتر بروك في دمشق

استلّ بيتر بروك (1925)، المخرج الأشهر في المسرح العالمي المعاصر، من رواية دوستويفسكي «الإخوة كارامازوف» حكاية المفتش (الاقتباس لماري هيلين ايستيين)، مع حذف أي أثر للإخوة كارامازوف، أو لأجواء الرواية. ليس علمن مسرحية بيتر بروكى خشبة المسرح سوى «المفتش الكبير»، وهذا هو عنوان العرض المسرحي الذي استضافتْه أخيراً احتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية». والمسرحية تقوم على حكاية يرويها الممثل بروس ميرز، أحد الممثلين البارزين في مسرح بيتر بروك. تقول الحكاية إن المسيح يظهر في إسبانيا زمن محاكم التفتيش في القرن السادس عشر، يمشي في الشوارع فيتعرّف إليه الناس ويهرعون إليه؛ هذا ليعيد إليه البصر، فينظر المسيح إليه بإشفاق ليغدو مبصراً، وتلك طفلة ميتة في تابوت اجتمع حوله الناس، نظر إليها بعطف فاستفاقت تحمل ضمة ورد مما تكوّم فوق التابوت. وهكذا، إلى أن يظهر المفتش الكبير، فيخرّ الناس رعباً ويهرعون إليه، يأمرهم باعتقال المسيح فيأتمرون، وينفضّون عنه، بينما يساق المسيح إلى زنزانة، وهنا يتحوّل الممثل الراوي إلى لعب دور المفتش، كما لعب دور المسيح وهو يروي الحكاية.
إن استحضار المسيح من التاريخ هنا لا يحمل موقفاً كوميدياً، كما درج في المسرح العربي لبعض الوقت، حين استعيد صلاح الدين أو صقر قريش كنوع من التحسّر على أمجاد العرب، ولإظهار المفارقة، الكوميدية في الغالب، بين ما كانت عليه العرب وما آلت إليه. لا أثر للكوميديا هنا، ولا للتحسّر. فالمفتش الكبير يجري محاكمة قاسية للمسيح، الصامت أبداً في زنزانته. يسأل المسيح المفتش أن يجيب، في الوقت الذي يتمنى أن لا يقول شيئاً، فمَن غيره يعرف كل أقوال المسيح ومواقفه. صمتُ المسيح هو ما يجعل من المسرحية عرض ممثل وحيد، حتى ولو نفى الممثل ميرز أن يكون العرض عملاً مونودرامياً. حجته أن حواراً يجري بين الممثل والمسيح الذي يجلس في مقدمة الخشبة وظهره إلى الجمهور، وبين الممثل والجمهور، وبين الممثل ونفسه. الممثل الذي يلعب دور المسيح لا ينبس ببنت شفة، سوى أنه في آخر العرض يقوم ليقبّل فم المفتش، القبلة التي تحرق قلبه، على حدّ تعبيره، وهذا هو الفعل الوحيد الذي يقوم به. لكن المسرحية في عروضها الأولى بدأت من دون مسيح، هذا هو ما يؤكده الممثل نفسه. كان مسيحاً افتراضياً في البداية؛ إذ يروح الممثل يختار شخصية بين المتفرجين ويتوجه بخطابه إليها، لكن ردود أفعال المتفرجين غير المتوقعة، خصوصاً حين اختار ذات مرة امرأة لشخصية المسيح، أوقعته في حرج وإرباك، فاختار، مع بروك، أن يعطيا دور المسيح لممثل آخر، صار يجري اختياره من جنسية البلد الذي كان يجري فيه العرض، وهنا، في دمشق، كان يتناوب ممثلان سوريان على أداء الدور.
درس في العبودية إذاً فالعرض هو مونودراما، مبررها ذلك الدرس الذي يلقيه المفتش على مسيح صامت. فبعد أن يزج الأخير في السجن، يروح المفتش يقرّعه على ظهوره، ويقدم خطبة طويلة يصلح أن تسمى درساً في العبودية. كل ما أراده المفتش هو لوم المسيح على منحه الناس الحرية، حرية الاختيار بين الخير والشر. يريد المفتش أن يقول له إن ظهوره لا يلائم، وإنه يفسد محاولاتهم في تدجين الناس، أولئك الذين تخلّوا عن حريتهم طواعية، حرية الاختيار التي منحها المسيح، وصاروا هم أنفسهم ينظرون إليها كعبء، إنه عبء أن تختار بين الخير والشر، وما التفكير والعلم والسؤال سوى متاهة لهم، لذلك كان عليهم أن يسلّموا أمرهم لأولئك الأوصياء، وعندها حتى الخطيئة، إذا كانت بعلم الأوصياء، المفتشين، فهي ليست خطيئة. هكذا يكون العالم سعيداً، لا يشقى فيه سوى أولئك الأوصياء الذين يحملون المسؤولية. يسأل المفتش المسيح لماذا لم يقبل بسيف قيصر وثوبه الأرجواني، ففي ذلك سعادة البشرية ووحدتها. كما يسأله لماذا لم يقبل أن يحكم بالمعجزة والسرّ والسلطة. وبالطبع لا جواب، سوى تلك القبلة التي يطبعها

المسيح في آخر العرض، القبلة التي تحرق قلب المفتش، الذي رغم ذلك لا يعدل أبداً عن رأيه، وخطبته «اللاذعة».
لا إشارات راهنة في النص، فمفردات العمل تنتمي برمتها إلى زمان آخر، ولكن بالتأكيد لا يكتفي بيتر بروك بتشريح أفكار طاغية ديني، فالنص هو عن السلطة، وإن مرّ عبر الجدل اللاهوتي والفلسفي، حسب تعبير الممثل ميرز نفسه. واللافت أن ذلك الحوار المليء بالأفكار لم يجد معادلاً بصرياً له إلا بمساحة فارغة، لم يشغلها سوى أداء الممثل، وحين نسأل الممثل كم يعبّر هذا العمل عن مسرح بيتر بروك، يجيب إنه جوهر مسرح بروك.

وهو يقصد ذلك الشغل التفصيلي والمركّز على أداء الممثل. الأمر الذي لا يلغي بالطبع تجربة بروك في أعمال ضخمة فيها مجاميع ممثلين وموسيقى وغناء وملابس. سوى أنه هنا لم يعمل سوى على ممثل وفراغ. فكانت النتيجة أداء مذهلاً للممثل، يكاد يبدّل نظرة المرء إلى المونودراما كنوع مسرحي فقير قد يكون عكس المسرح، بخلوّه من الحوار وتعدد الأصوات. ولكن حقاً، من قال إن الممثل الوحيد ليس قادراً أن يصنع من حركة جسده، وتشكيلاته في الفراغ صوراً في غاية الروعة، أليس خلق الصور جزءاً من أداء الممثل؟


راشد عيسى
المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...